بقلم/ محمد سعيــد

علاقة الأدب بالحروب نشأت على وقع المعارك التي تركت للمبدعين والمؤرخين ميدان الصراع ليعبّروا عن لحظات مليئة بمراحل مؤلمة لم تتوقف منذ نكبة 48 التي حلت بالفلسطينيين والعرب وامتداداً الى نكسة حزيران 67، وما تلاها من أزمات وتداعيات وانهيارات مازالت تتوالى، ولا يبدو أنها ستتوقف في المستقبل المنظور.

 

 

دعوة لتجاوز روح اليأس

 تأثر الأدب بالاحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية التي عصفت بالوطن العربي، إثر نكسة حزيران 67، وعبر عن حالة الاحباط وجلد الذات، التي حفرت عميقاً في وجدانه، وفي نفس الوقت حمل دعوة للتغيير والتفاؤل وتجاوز روح اليأس التي ماتزال مفاعليها سائدة الى يومنا هذا، تؤثر على التوجهات الثقافية في عالمنا العربي، والثقافة الفلسطينية بشكل خاص. وكان قد حمل المثقف في هذه البلدان آمالاً ورغبات لم تقتصر على المسائل الوطنية والسياسية والاقتصادية، وانما تعدتها الى احلام وارهاصات تجلت حول تطور الامة العربية وتعزيز نهضتها حتى يكون لها شأن عظيم بين الامم. ولا شك في ان النكسة صدمت الامة العربية بكل مرتكزاتها ما دعا الى تغيير في مجمل المفاهيم والرؤى واعادة النظر في التعامل مع الواقع وافرازاته وصياغة مستقبل يحتاج الى المعرفة والثقافة والعلم بصورة مغايرة لمواجهة التحديات، لأن النكسة الحزيرانية اصابت الامة في عافيته ، وأخذت الادب الى تشظيات واسعة تفشت فيه روح العدمية احياناً الى درجة اصبحت فيه هذه الثقافة مسيطرة على الادب وأرزحته تحت وطأتها بدافع التأثير التنظيمي والحزبي والمدارس الثقافية التي برزت في تلك الفترة، كالوجودية والاشتراكية والتروتسكية واللينينية والاشتراكية وغيرها،  والتي أخذت تدعو للثأر من العدو، وتطرح ادبيات لا تمثل تطلعات الامة الحقيقية من حيث أنها أفكار وتجارب مستوردة بعيدة عن البيئة العربية بغض النظر عن منطقها التثويري الذي أثّر في القاعدة العريضة في هذه الأمة. لا شك ان الانكسار المدوي الذي احدثته حرب حزيران بعد الاحلام العريضة والواسعة التي كان يطمح اليها ويبني  المواطن العربي مستقبله ومستقبل الاجيال القادمة عليها في التطلع الى الحرية والتحرير والاستقلال كان لها وقع الكارثة والصاعقة التي محقت كل هذه الآمال، وفي نفس الوقت أفقدت الادب العربي توجهاته العفوية وتطلعاته الابداعية فتراكمت تداعياتها على هيئة كلام وافكار دون تأثير عملي وفعلي ونهضوي. وتأثر الادب بتجارب وشعوب اخرى عاشت نفس الاحزان والنكسات، الا ان تلك الشعوب وانظمتها حافظت على منجزاتها وعلى تقدمها العلمي بينما المبدع العربي وقع فريسة الاوهام اللغوية المستمدة من حضارة ماضوية، وحفر خندقاً وهمياً لا يقوى على مواجهة الاعاصير المحدقة بالامة العربية، وبدون أي سند حقيقي قادر على البناء والتشييد والمواجهة.

 

زمن الفجائع

 ستة وأربعون عاماً مضت على نكسة حزيران ومازالت الامة العربية تتدحرج من فجيعة الى اخرى حتى بات يصعب على المفكر ان يجد اجابة شاملة على ما يدور في قلب الوطن العربي من مجازر ونكسات مفجعة حتى اصبحت النكسات المتتالية حاليا تغطي في فظاعاتها ما سبقها من نكبات ونكسات، وبات السؤال المطروح والملحّ: ما هو مصير الجيل الحالي والجيل القادم في هذه الاوطان؟ وتجلت صورة هذا الواقع المأساوي في الرواية والشعر والمسرح والفنون التشكيلية، فمن يعود الى الرواية العربية والشعر العربي المرتبط بنكسة حزيران يلاحظ ان مجمل الكتابات لها علاقة بالهم الوطني، وتحرير فلسطين، وبتجليات فقدان الارض، والحرمان، والرومانسية المرتبطة بفكرة التحرير والتثوير واسترداد الارض العربية المحتلة بكم هائل من النضال اللغوي غير القادر على استرداد اي شبر من الارض . بموازاة ذلك كان الخطاب الرسمي العربي يقوم على الخطابة والضجيج الاعلامي تاركاً دوره التاريخي على عاتق من لا يملك اية اداة من ادوات الفعل. وفُتِن بشعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة". وحملت هذه المرحلة بذور اليقظة في الادب عموماً، وسنجد ذلك عند نزار قباني شاعر المرأة الذي ذهب الى الكتابة في الشعر السياسي منتقداً السلطة السياسية، وكاشفاً عن عوراتها خصوصاً في مجموعته الشعرية " هوامش على دفتر النكسة"، وكذلك فعل الكاتب المسرحي سعد الله ونوس في مسرحيته الشهيرة "سهرة سمر من اجل 5 حزيران" وكذلك تجلت تلك المفاهيم في رواية نجيب محفوظ " الكرنك"، حتى اصبح الادب المرآة العاكسة لضمير الادباء والمعبّر عن احزان الامة وجراحها والاصرار على الايمان بمقدراتها، واعتبر ان ما حصل ما هو الا محطات عبور نحو الغد والتحرير، ولا بد من ان يأتي جيل يحمل الراية على اسس واقعية وعلمية حتى لا تتحول القضية الى مناحة لا مثيل لها في عالم لا يؤمن بغير العمل والفعل واثبات الذات. كذلك كان لكتاب صادق جلال العظم " النقد الذاتي بعد الهزيمة" اثره الكبير في اختراق المفاهيم السائدة والكشف عن اسباب الفشل وتخلف العقلية الحاكمة، ما حدا ببعض البلدان العربية بمنع دخول الكتاب الى اسواقها. وكذلك كان للروائي حبيب بركات روايته " ستة ايام" التي فضح فيها الاهتراء والجهل الكامن في نفوس وعقلية المتورطين والمتسلطين على مقدرات الشعوب العربية. حتى وصلنا في نهاية المطاف الى نتائج القمع السياسي للفرد والمجتمع على يد هؤلاء، وكان اغلب ضحاياه من المثقفين بوصفهم المدافعين عن اخلاقيات وكرامة الانسان العربي التي جهدت السلطة من اجل تحطيم جوانب عقده الاجتماعي حتى يصبح هذا الانسان ليس اكثر من انسان هائم لا يلوي على شيء بقدر ما هو مثير للشفقة.   وكتب أمل دنقل قصيدته الشهيرة "لا تصالح" التي حملت دعوة الى الصمود والتحدي والمواجهة. وغير ذلك الكثير من الاعمال والادباء ممن كتبوا عن النكسة والتي مازالت كتاباتهم الى يومنا هذا لها تأثير كبير على مجريات  الاحداث السياسية والتفكير العربي وتوجيه بوصلة الادب الى المرتكزات الحقيقية في تناول القضايا الوطنية، التي انصبت على الحريات والديمقراطية وشخصية الانسان العربي.

 

يا لغرابة الشعر والادب

 شارك الادب والشعر الفلسطيني في الارض المحتلة وخارجها في انبعاث هذا الادب المقاوم والقصيدة المقاومة، وبرز في ذلك الحين مصطلح شعراء المقاومة الفلسطينية قبل النكسة الحزيرانية وبعدها والتي اخذت الادب الفلسطيني عموماً الى فلسفة ادبية جديدة تجلت في العمق الانساني والتراجيدي والوطني، وخلخلت المقاييس الادبية والشعرية التي كانت سائدة بفعل الأثر العميق الذي تركته هذه النكسة على الاراضي الفلسطينية، وفقدان ما تبقّى من ارض ووقوعها تحت الاحتلال الاسرائيلي، وكان لكلٍّ منهم خطه الادبي المميز ونكهته الخاصة، ومن ابرز هؤلاء محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو وهارون هاشم رشيد وفدوى طوقان وراشد حسين وكمال ناصر وسالم جبران، وفي الرواية برز اسم غسان كنفاني وإميل حبيبي ويحيى يخلف وابراهيم نصرالله وتوفيق فياض وجبرا ابراهيم جبرا. وأدى هذا الادب الى نضوج التجربة والوعي والرؤية، واستطاع الادب الفلسطيني ان يكوّن حالة خاصة كمرتكز للانطلاق واعادة بناء المشاريع والمواقف باتجاهات سليمة ترقى الى مستوى المرحلة لازالة آثار النكسة وتصدعاتها في واقعنا العربي والفلسطيني، لأن الادب الفلسطيني قبل النكسة كان يكتفي بالنظرة الى واقع الحال بروح من الحسرة والأسى والبكائيات التي لا تثمر ولا تغني عن تجرع كأس النكبة الذي أدى الى ترك الوطن، وكانت تلك الفذلكات في الادب تتجمع حول الندم والحنين ومرابع الطفولة وفقدان الديار، " وهل من عودة بعد غياب" كما قال الشاعر الكبير ابو سلمى، وظلت هذه النبرة تتأجج حتى وصلت الى عمق الكارثة المأساوية التي كان يتوقعها الكاتب والاديب الكبير غسان كنفاني في " رجال تحت الشمس" " وما تبقى لكم"، وكانت صرخته مدوية في تلك المرحلة التي امتازت بالرؤية التثويرية والحض على تحرير الارض من رجس الاحتلال. وقد عززت هذه الصرخة رسوخ الادب في وجدان الشاعر الفلسطيني واستنهضت روح المقاومة والمواجهة، واثبتت الشاعرة فدوى طوقان حضورها في تبديد تداعيات النكسة من نفوس الفلسطينيين ومجّدت الصمود والتفاؤل بأعمالها الشعرية " وأرفع جبهتي معكم الى الشمس". ولعل الشاعر توفيق زياد حمل جراءة الكلام في مخاطبة العدو القاتل للابرياء والعنصري حيث يقول، "يقتلون الزهرة والاطفال والقمح وحبات الندى"، وشكلت الارض محور الشعر والكتابة بعد النكسة في وجدان محمود درويش، فالتراب والجراح والوطن  والارض والحرية مثّلت بعد النكسة في شعره بؤرة الاهتمام متجاوزاً النكسة والمأساة ليرسم طريق الخلاص بالسعي الدؤوب والارتقاء بمستوى الخطاب الادبي الى لغة عفوية ادت في دهشتها الابداعية الى صدمة زلزلت  المفاهيم الادبية السائدة وخلقت مناخاً جديداً رافضاً الوقوع في فخ النكسة. " أسمي التراب امتداداً لروحي". نتساءل ونحن بصدد الحديث عن الانكسار التي احدثته النكسة في الخامس من حزيران 67، نتساءل ونحن بصدد الانكسارات والانهيارات الحاصلة في بنية الدول والمجتمعات العربية، نتساءل ونحن نفكّر في هذا الكم الهائل من الكتب ناهيك عن الدراسات والتحليلات والمقالات اليومية وغير اليومية والمدارس الفكرية التي عالجت النكسة من مختلف جوانبها، والتي استمدت من وحيها الابعاد الفكرية والادبية وتجلياتها الابداعية والتي لو كانت هذه الادبيات في أي امة من الامم لاستفاقت من كبوتها وأحاطتها بسياج من الحصانة والمناعة والكفاية لكي تنهض من جديد، ولكن اذا كان كل هذا الغنى الادبي والفكري لم يجعل هذه الامة تقف على قدميها، وهي ما زالت تتردى وتتراجع الى اسوأ مراحل التفتت والاندثار، فأي قيامة ستقوم في هذه الامة بعد ذلك؟ بعد أن فقدت بوصلتها الحقيقية وتخلت عن شعار " لا صوت يعلو على صوت المعركة" الى شعار "لا صوت يعلو ولا معركة"، يبدو أننا أصبحنا أمة تنك، فيالغربة الادب والشعر في هكذا أمة.