خاص مجلة القدس/ تحقيق: وسام خليفة، عدي غزاوي
هل نحن مستعدون لانتفاضة جديدة؟ وكيف ستكون معالم الخارطة السياسية في الأيام القادمة؟ وكيف ستتطوّر الأمور ضمن التصعيد الإسرائيلي على ارض الواقع ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة؟ تساؤلاتٌ شغلَت العديد من المراقبين والمحلّلين الذين تباينَت آراؤهم حول توصيف الأحداث الدائرة وتوقُّع تعاطي الشارع الفلسطيني مع الموجة الحالية وردّة فعل الاحتلال الإسرائيلي خلال الفترة القادمة.


أوسلو انتهت ونحن أمام مرحلة جديدة
يرى نائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبدالرحيم ملوح أن الوقت لا يزال مبكراً لرسم توصيف محدَّدٍ للوضع الحالي وكيفية تطوُّره، ويضيف موضحاً "هناك انتفاضة في القدس، وهناك تضامنٌ معها في مختلف المناطق الفلسطينية والعربية، لذا فنحن أمام مرحلة تتطلّب إنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق وحدة وطنية وتشكيل حكومة وحدة وطنية في الأراضي المحتلة، ولكن مَن سيحدد ملامح المرحلة القادمة هو الشباب الفلسطيني في الميدان وكيفية تعاطي إسرائيل مع هذه الهبّة على أرض الواقع، وتعاملها مع هذه المرحلة، مع أن الاتجاه العام يقود للتصادم مع الاحتلال، وإنهاء أوسلو في هذه المرحلة ليس من مصلحتنا كما لا مصلحة لأي أحد في حدوث انتفاضة بسبب الظروف الحالية، لكن الميدان والناس هم من سيحدد ذلك في الأيام القادمة".
وحول قراءته لتعاطي إسرائيل مع ما يحدث يقول: "إسرائيل معنيةٌ بالتصعيد لأنها تريد أن تدفع بالوضع الفلسطيني إلى الزاوية. انظرْ إلى التصعيد في القدس وفي الضفة وفي الداخل الفلسطيني، وانظرْ إلى إجراءاتها بالسيطرة على الأراضي وزيادة الاستيطان والتضييق على الفلسطينيين وحصار الأقصى ومحاولة تقسيمه. لقد سعت إسرائيل بكل إمكاناتها للوصول إلى هذا الوضع لتطبيق برنامجها وبرنامج الحركة الصهيونية، واعتقدُ أن هذه قضية أساسية تتعلّق بمستقبلنا كفلسطينيين، وعلينا أن نرى كيف سيتعامل الموطن الفلسطيني، وهو اللاعب الأساسي الآن، مع هذه الظروف، وهو الذي يعيش حالةً من الإحباط واليأس والتضييق عليه في عيشه وتنقله وانغلاق الأفق السياسي أمامه".

الشباب هم وقود هذه الانتفاضة
يؤكّد ملوح أن الشعب الفلسطيني جاهزٌ لهذه المواجهة مستدِلاً على ذلك بإقبال فئة الشباب على خوض المواجهات ضد الاحتلال، ويضيف "انظرْ إلى طلاب الجامعات ما الذي يدفعهم  للذهاب إلى مناطق التّماس لمواجهة قوات الاحتلال؟ ما الذي يأتي بكل أطياف الشعب حتى المتخاصمة منها لتتوحّد ضد الاحتلال؟ إن ما يأتي بهم هو الوعي الوطني والحشد التنظيمي من كل الأُطر السياسية الفلسطينية والفصائل الفلسطينية. لذا برأيي  فلنترُكِ الوضع بهذا الاتجاه التصاعدي.. لنتركه لقدرة شعبنا على التحمل".
وعن دور دور الفصائل الفلسطينية يقول: "يتأتى دورها من خلال دعمها لهذه الحركة ومن خلال وجودها على ارض الواقع، وهي حالياً تتمثل بوجود الأُطر الشبابية التابعة لها كطلاب الجامعات. واذكر في بداية العام 1965 كنا شباباً وكنا نعمل بنفس الطريقة، والآن الشباب هم من تولّى زمام المبادرة، فنسبة الشباب كبيرة في الشعب الفلسطيني ومفعولها سيظهر على ارض الواقع  لأنهم الأساس وهم الغد وهم مفتاح هذه المرحلة ووقودها، وعلينا ألّا نفصل بين القرار السياسي والشباب، بل يجب أن يؤخَذ الشباب وكذلك المرأة بعين الاعتبار في كل الأمور المتعلّقة بصناعة القرار السياسي".
ما بين تعاطي القيادة والشعب مع الوقائع
ينوّه ملوح إلى أن وجهة النظر الشعبية تختلف تماماً عن وجهة نظر القيادة، ويوضح "القيادة تأخذ العديد من الامور الدولية والإقليمية والسياسية والظروف على الساحة العالمية بعين الاعتبار وتتعامل بالسياسة، أي أنها تخاطب العالم بالطريقة التي يفهمها، لكنّ الشعب يأخذ عنصر ما يواجهه على أرض الواقع باحثاً عن حلول، وهنا قد تتباين الآراء بين الشارع والقيادة".
ويردف "لكن لا بد من التنوية لوجود تفاعل دولي واهتمام بالقضية الفلسطينية حالياً، ونلحظ الزيارات ومنها زيارة بان كي مون في محاولته لتهدئة الأوضاع، ووساطات كيري، وزيارة رئيس لتوانيا، أي أن هناك مساعٍ تُبذَل لإيجاد حلول لهذا الوضع لكن الأساس هو إنهاء الاحتلال".

الاحتلال فقد السيطرة على الأوضاع وصعّد الأمور كي يستعيدها
يشير الصحفي المقدسي محمد عبد ربه إلى أن تصعيد الاحتلال لاعتداءاته وقراراته ضد المقدسيين دليلٌ على فقدانه السيطرة على الأوضاع، وعن أبرز قرارات الاحتلال بحق أهالي القدس خلال هذه الهبة الشعبية، يقول: "قامت قوات الاحتلال منذ بداية الأزمة بهدم وإغلاق منازل منفّذي الهجمات حتى الذين أُعدِموا ولم يكن لهم أي صلة بالهجمات الأخيرة، كما هو الحال بالنسبة للشهداء: فادي علون، بلال سدر، صبحي بدران، وكما هو الحال أيضاً بالنسبة للجريحة شروق دويات التي اعتدى عليها مستوطن في البلدة القديمة، أو التلميذة مرح جابر التي أُصيبَت هي الأخرى بادعاء محاولة طعن مستوطن.وقد كان هناك قرارٌ شُرِع بتطبيقه ويتعلّق بحصار الأحياء المقدسية وتقطيعها بالحواجز ومكعبات الإسمنت، وإحاطة بعضها بمقاطع من جدار الفصل كما هو الحال بالنسبة لحي جبل المكبر، والدور التالي سيكون على العيسوية. كما شنَّ الاحتلال حملة واسعة من الاعتقالات طالت منذ 13 أيلول الماضي وحتى اليوم 491 مقدسياً نصفهم تقريباً من الأطفال القاصرين، والبدء بتحويل بعضهم للاعتقال الإداري كما حدث اليوم حين حُوِّل والد الشهيد ثائر أبو غزالة من حي كفر عقب للاعتقال الإداري. ولم تكتفِ إسرائيل بذلك بل قامت بالتلويح بسياسة الإبعاد والطرد إلى الضفة، وحتى غزة لأهالي الشهداء بعد تجريدهم من حقهم في الإقامة وسحب الهويات منهم .
كما قامت بالتنكيل بتُجّار البلدة القديمة عبر سياسة الدهم الضريبي وفرض المخالفات والغرامات الباهظة عليهم، ومحاكمتهم بدعوى عدم حماية المستوطنين خلال الهجوم الذي نفّذه الشاب الشهيد مهند الحلبي. وحتى الأطفال لم يسلموا إذ يجري العمل حالياً على سن بعض القوانين التي تتيح محاكمة الأطفال دون سن العاشرة وسجنهم فعلياً. وكان للعنف نصيب الأسد في معاقبة المقدسيين من استخدامٍ للذخيرة الحيّة على نطاق واسع، وتنفيذ إعدامات وتصفيات ميدانية لشبان اتُهِموا بمحاولات طعن".
ويردف عبد ربه "الأمور خرجت عن سيطرة الاحتلال باعترافهم أنفسهم، وفي مقابل ذلك ومنعاً لمزيد من انفلات السيطرة، بدأت سلطات الاحتلال تصعّد أكثر وتستخدم قبضتها الحديدية على نحو غير مسبوق ضد المقدسيين. ويمكن القول أن مجمل هذا التصعيد أثبت بما لا يدعُ مجالاً للشك أن "قدسهم" التي يدَّعون أنها موحّدة، إنما هي في الواقع غير ذلك، فالواقع يتحدّث عن عالمين مختلفين، وإلا كيف يكون العيش المشترك في مدينة يحمل رئيس بلديّتها سلاحهُ الرشاش ومسدسه ويهدد المقدسيين بمزيد من القمع والقتل، وقد التقط الإسرائيليون رسالة من ذلك بأن الحديث عن القدس الموحّدة والعاصمة الأبدية للشعب اليهودي هراء في هراء".
ويضيف "حتى الآن يمكن القول أن ما يحدث هو هبّة شعبية، وما يمنعها من أن تتحول إلى انتفاضة عارمة هو محدودية القطاعات المشاركة فيها، اذ ان عصبها هو فئة الشباب، هذا الجيل الفلسطيني الجديد الذي أصيب بانتكاسة كبيرة من واقع سياسي واقتصادي بالغ الصعوبة، ومن إذلال من قِبَل الاحتلال حتى وصل مرحلة الانفجار ومواجهة محتلّه بكل ضراوة وبسالة. وطالما أن الأقصى في المركز وطالما أن الخطر حوله يتّسع ويزداد فالقادم أسوأ. لأن الواقع في دولة الاحتلال يتجه نحو مزيد من الفاشية القومية التي ترتدي رداء الدين وتقاتل بأساطير مستمَدة من توراتهم وتلمودهم".

أمران لن يجعلا هذه الهبة الجماهيرية تستمر لوقت طويل
يرى المحلّل السياسي والاقتصادي د.هيثم دراغمة أن "هذه الهبة الجماهيرية لن تستمر لفترة طويلة كما الانتفاضات السابقة وذلك لأنها تحتاج إلى تمويل، فأي نشاط سياسي أو نضالي بحاجة لذلك، وحتى اللحظة التمويل غير متوفر. الأمر الآخر أن هذه الهبّة الجماهيرية غير مؤطّرة أي أنها هبّات شعبية نتجت عن ممارسة الاحتلال وازدياد الاستيطان والاعتداءات المتكررة على الأقصى والقدس والتهويد، وقد عاش الإسرائيليون في السنوات الماضية نشوة بأن القضية الفلسطينية أصبحت طي النسيان ولم تعد أولوية ومن يهتم بها هو السلطة الفلسطينية وبعض الدول بعد الضغط عليها أو التي لا تعاني من مشاكل داخلية كما يحصل مع الدول العربية حالياً، واعتقدُ أنه إذا ما اريدَ لهذه الهّبة الاستمرارية فعلى التنظيمات الفلسطينية دعمها والانخراط في العمل النضالي، وإلا لن تجد لها محلّاً في المستقبل، وبرأيي فإن الأوروبيين والعالم وأمريكا باتوا على قناعة بأن موضوع القدس يجب حلُّه وعدم المساس بها، لذا اتوقع أنها ستكون ثورة الحسم في موضوع القدس وفي كثير من القضايا، خاصةً أن إسرائيل عادت إلى الوراء كثيراً، وتأكّدت أن القضية الفلسطينية لن تموت وأن الشارع الفلسطيني سيُنتِج أجيالاً ستكمل الطريق الفلسطيني نحو التحرر لأنها سئِمت موضوع الحوارات الطويلة والوساطات السياسية من الأطراف الإقليمية وسئِمت المناورات التي تتمحور حول مفاوضات مع الإسرائيليين".
تداعيات الهبّة على الاقتصادَين الفلسطيني والإسرائيلي
يلفت د.دراغمة إلى أن الاقتصادَين الفلسطيني والإسرائيلي سيتأثّران بهذه الهبة على المدى القصير مع احتمال تأثُّرهما على المدى البعيد.
ويشرح  "على الصعيد الفلسطيني نلحظ أن المواطن الفلسطيني يعيش الآن بحذر خوفاً من الاغلاقات وركود الحركة التجارية في الأسواق الفلسطينية حالياً نظراً للاغلاقات الإسرائيلية التي لم تصعّدها إسرائيل بالقدر الذي كنا نتصوّره للآن، ولكن بلا شك يعيش الفلسطيني حالياً حالة من الحذر وهذا سيخلّف أثراً سلبياً نظراً للعلاقة التجارية بيننا وبين الإسرائيليين".
ويضيف "أما فيما يخص الاقتصاد الإسرائيلي، فبالعودة للانتفاضة الثانية نجد أنها أثّرت على الحركة الاستثمارية في إسرائيل التي انخفضت بنسبة 20%، ولو درسنا الوضع الحالي هناك سنلحظ خسائر في الاقتصاد الإسرائيلي بسبب هذه الهبة الجماهيرية، وانا أتصور أن هذه الأكثر تأثيراً على الاحتلال لما تشهده الأراضي الفلسطينية في القدس والضفة والداخل الفلسطيني المحتل العام 1948 من إغلاقٍ للمحال التجارية وتدني نسبة السياحة بشكل كبير، علاوة على الشركات الوافدة التي بدأت تفكر بالرحيل، إن لم يرحل قسم منها بالفعل، مما أدى إلى تراجع في الناتج المحلي، وقد تحدث الإسرائيليون عن تراجع في الاقتصاد بنسبة 11%، ولكني أعتقد أن في الأمر مبالغة.
وعلى الأرجح أن ضرر الاقتصاد الإسرائيلي لن يكون آنياً فحسب نتيجة هذه الهبة، فهناك عقوبات من قِبَل دول الاتحاد الأوروبي وكثير من دول العالم فيما يخص المقاطعة نتيجة انسداد الأفق السياسي وتعطل المفاوضات والاعتداءات الإسرائيلية ما دفع عدداً من الدول النشيطة للمقاطعة، وبتقديري قد تبلغ نسبة خسائر إسرائيل فيما لو نفّذ الاتحاد الأوروبي 22 مليار دولار. كما أن بعض الدول ستزيد من مقاطعتها نتيجة ما نرى في وسائل الإعلام من عقوبات وإعدام بدم بارد للأطفال الفلسطينيين، ومن يتابع الإسرائيليين ويسمع عن رأي اقتصادييهم سيرى ان إسرائيل بدأت تخشى على وضعها الاقتصادي وترى ضرورة بإيجاد أسواق جديدة.
من جهة أخرى،  فلا شك أن هذه الأحداث ستؤدي إلى زيادة الموازنة الإسرائيلية أو رفع موازنة الجيش والشرطة في الكيان المحتل، لا سيما في حال استمراراها بالتصاعد، ما سيضغط على سعر العملة الإسرائيلية وسيضعفها".

لا مصلحة للطرفين في انتفاضة جديدة
يرى د.دراغمة أن وجود انتفاضة لن يصب في مصلحة الطرفين الفلسطيني أو الإسرائيلي، ويردف "القيادة الفلسطينية ترغب في بعض من ردات الفعل والتي من شأنها قمع عربدة المستوطنين لأنهم تمادوا والقدس أصبحت على المحك. وبرأيي فالسلطة الفلسطينية ترغب في ردات الفعل الحالية بدون الزيادة عليها بمعنى أن يتم الاعتداء على المستوطن الذي يعتدي لكن كانتفاضة بمعناها الحقيقي فهي ليست أمراً مرغوباً من الطرفين، والسبب في ذلك التخوف من النتائج التي ستأتي خارجةً عن التوقعات، وما حصل في دول الجوار مثل الثورة السورية التي قام بها شباب سوريون، ثم انضمت إليها أطراف عديدة حتى ضاعت وباتت مرتعاً للإرهاب، وإسرائيل تخشى أن يحصل هذا في الأراضي الفلسطينية كما حصل في سوريا كظهور تيارات متشددة مثل داعش والنصرة التي لن تفرّق في قتلها بين فلسطيني أو إسرائيلي.
كفلسطينيين لنا رغبة أن نقمع الاستيطان لكن لا أن تكون هناك ثورة مسلّحة تجرنا إلى عنف اكبر لا تُحمد عقباه، وما يثبت ذلك أن الجانب الإسرائيلي للآن لم يتخِذ أي نوعٍ من العقوبات الجماعية التي اعتادَ استخدامها في كثير من المرات كموضوع المقاصة وعدم تحويل أموال الضرائب المستحَقة للسلطة على إسرائيل والتي ستحوَّل بشكل طبيعي خلال الشهر القادم، ووجهة النظر الإسرائيلية بموضوع المقاصة أنها ستكون رواتب للناس الذين لن يقفوا مكتوفي اليد في حال قُطِعت رواتبهم وقد يذهب بهم قطع الراتب إلى ابعد من ذلك بما لا يتصوره الساسة الفلسطينيون ولا الإسرائيليون".
إذاً قد تختلف الآراء وقد تتباين طرق التعامل مع هذه الهبّة والحكم عليها ولكن ما سيحسم هذا الجدل هو كيفية تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع هذه الهبة بالتصعيد أو بالتهدئة، وكيف سيقرر الشارع الفلسطيني الاستمرار في ثورته ضد الاحتلال الذي غالى في اعتداءاته وخاصة مع القرارات الإسرائيلية اليومية التي تزيد من التضييق على الفلسطينيين ومع انغلاق الأفق السياسي أمامهم.