خاص مجلة القدس بقلم: يوسف عودة

مسألة التنظيم هي الأساس وأداة العمل التي تأخذ على عاتقها مهمة إنجاز الأهداف، وبمعنى آخر إستراتيجية التنظيم بقيادة الطليعة الوطنية والثورية. وهي مهمة تاريخية لقيادة الجماهير المنظمة والموحّدة فكراً وممارسة، والسلاح الأقوى في مواجهة قوى الأعداء متسلحة بالفكر السياسي الذي يمتلك الرؤية الشاملة للواقع الفاسد ومستفيداً من التجربة كي يضع النظرية النضالية ويواكبها ويطورها مع تطور المراحل والمتغيرات التي تحصل ذاتياً وموضوعياً. وذلك إنتاجاً للتحولات التاريخية والاجتماعية والاقتصادية ويحدد في كل محطة نضالية موقفه من الحدث السياسي.

لقد ارتبط اسم حركة فتح منذ انطلاقتها بهويتها النضالية، المبادئ، المنطلقات، الأهداف، والتي فجرت طاقات الشعب الفلسطيني وجعلتها حركة الوطنية الفلسطينية. وكانت نقطة التحول التاريخي بتحويل القضية الفلسطينية من مسألة إنسانية (لاجئين) إلى قضية سياسية بامتياز، ومارست حركة فتح دورها القائد باستنهاض وتفعيل كوامن الشعب الفلسطيني وقدراته واستطاعت أن تكون الرقم الصعب في معادلة المنطقة، وأدرك العالم أن السلم يبدأ من فلسطين أو استمرار الصراع في منطقة ملتهبة لم تعرف الأمن والاستقرار طويلاً.

حركة فتح الطليعة الثورية للشعب الفلسطيني، والتي تؤكد منذ انطلاقتها في  1/1/1965 قدرتها على قيادة مسيرة النضال والثورة، وشكلت مبادئها ومنطلقاتها وأهدافها بوصلة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، لقد جسدّت كينونتها أنها تنظيم غير مغلق على نفسه أو يحمل مفاهيم الشمولية، لا يمثل طبقة أو شريحة معينة، بل هو إطار جامع في بنيته التنظيمية تتكامل في إطاره كل شرائح المجتمع الفلسطيني من أجل المسؤولية الوطنية التاريخية لتحقيق الأهداف الوطنية على طريق الحرية والاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة.

شكلت حركة فتح بانطلاقتها نقطة تحول في حياة الفلسطينيين والجماهير العربية، تلك الجماهير التي وجدت في الثورة الفلسطينية المعاصرة الرئة التي تنفست من خلالها لرفض الواقع العربي وأخذ دورها بعد عقود من التهميش والتغييب وبكل سلبياته، وكان النظام الرسمي العربي يعيش التخلف والتبعية والتجزئة وغير قادر أن يكون جزءا من الجغرافيا الحضارية ومنقسماً على نفسه غيّب هويته بين يمين ويسار وتتجاذبة مصالح الدول الكبرى وتستنزف ثرواته.

وحيث لم يتمكن ذلك النظام من بلورة مشروعه السياسي على قاعدة الرؤية الإستراتيجية لتحرير فلسطين ومستقبل العرب، وكما فقد العرب في تبايناتهم واجتهاداتهم ونزاعاتهم اختلال ميزان القوى وفقدان مظلة الأمن القومي العربي حيث تمثل كل ذلك بنكسة الخامس من حزيران عام 1967 وبكل أبعادها وأسبابها ونتائجها.

حين انطلقت حركة فتح وضعت النكبة وجدليتها التاريخية أحدى إرهاصات فكرها السياسي إلى جانب التجربة النضالية الوطنية للحركة الوطنية الفلسطينية، ووضعت اللبنات الأولى للمفاهيم الأساسية بأن فتح حركة وطنية ثورية، وهي للشعب بكل فئاته، تخوض النضال وتمارسه وهي المسؤولة في توجيه مسيرة النضال الفلسطيني وفق المصلحة الوطنية العليا، وتمارس الديمقراطية وتؤمن بالقيادة الجماعية والشراكة والتعددية، ونظريتها التنظيمية هي الأسلوب في علاقاتها الداخلية ترتكز على الديمقراطية دليلاً على وحدة  العمل والتنظيم والانسجام الفكري والتفاعل السياسي وحرية الرأي والنقاش واتخاذ القرار  الجماعي وعقد المؤتمرات دليلاً على استمرار الحياة التنظيمية وتطبيق النظام الأساسي الذي ينظم الحياة الداخلية للتنظيم.

 

الوطنية فلسفة حركة فتح

منذ فجر التاريخ تجذر الإنسان الفلسطيني الأول فوق ترابه الوطني، قاتل ودافع عنه ضد كل الغزاة حتى الاستشهاد، كما شكل نسيجه الاجتماعي في بلورة هويته الوطنية، حيث شارك مع بقية شعوب المنطقة رسم خريطتها السياسية وغدت فلسطين في عين العاصفة بين القوى الكبرى المتصارعة على النفوذ واقتسام الثروات عبر كل العصور المتعاقبة نظراً لموقعها الجيو سياسي.

المسألة الأهم حركة وصيرورة الشعب الفلسطيني ونمط عيشه وعلاقاته الاجتماعية والثقافية وتكوينات وعيه الوطني، على هذه الخلفية جمع الفلسطيني عناصر خصائصه في الحقيقة الثابتة على أرضه، رغم كل الطامعين والغزوات وتعرضه للموت الجماعي في كل حقبة من حقبات التاريخ أعطى البرهان والدليل أنه غير قابل للانصهار والذوبان والفناء. ولم تفلح كل محاولات الاقتلاع أو الإرهاب المنظم أو كي الوعي من إفراغ الذاكرة الفلسطينية وهي في حالة حضور دائم لإرادة الحياة، وصمدت الإرادة الفلسطينية في إثبات هويتها وكيانيتها وكنس الإلغاء والتغييب.

الوطنية الفلسطينية دينامية الحركة العامة الميدانية للشعب الفلسطيني، وظل الفلسطيني حافظاً لها تحت مجهر التجارب دافعاً لها بشحنات التفعيل والاستنهاض الدائمين، وهي  كذلك حاضنة ورافعة وشبكة أمان للثابت الفلسطيني أعطتها القدرة والمناعة في تجنب أي تداعيات أو عوامل الانهزام والتراجع.

الوطنية التي آمنت بها فتح وكرستها ليست جامدة أو متحجرة، أو ذات مفاهيم سلبية شوفينية، لكنها ذات مضمون واقعي وموضوعي تتقدم في شريان الجسد الفلسطيني اجتماعياً وسياسياً وفكرياً، نفسياً ومعنوياً وتحتل الصدارة على المستوى الجماهيري ولها الدور الأساسي والإسهام الأول في إعادة بناء الشخصية والهوية الوطنية والكيانية تتجاوز عبر نضالها كل حقبات الإعاقات التي وضعت أمام الشعب الفلسطيني.

 

فتح حركة سياسية وطنية

جاءت انطلاقة حركة فتح ضرورة وطنية واستجابة تاريخية لاستعادة الهوية الوطنية والكيانية للشعب الفلسطيني، ورداً على عملية الإقصاء لدور ومهمة الشعب الفلسطيني النضالية وأخذه زمام المبادرة لقضيته الوطنية، وأن يكون الطليعة التي تتبلور في ممارساتها الأهداف والمبادئ.

ترجمت الرصاصة الأولى الفكرة وحددت مهامها وأخذت على عاتقها قيادة الشعب الفلسطيني ومتلاحمة مع الجماهير العربية وشكلت المدخل الصحيح لتحقيق تلك الأهداف. كما كانت حركة فتح تدرك أنها المشروع البديل للخطاب العربي العام وإشكالية علاقته بالقضية الفلسطينية والذي ظل رهينة صراعاته ومراهناته، وأشكالياته الشعاراتية والأيديولوجية المختلفة والخيارات المتعددة التي بقيت تراوح مكانها دون إحراز أي تقدم على مسار القضية الفلسطينية والعربية، وبما أن فتح هي المشروع البديل لا بد وأن يحمل في ثناياه ثقافة جديدة تكون مدرسة الوعي الوطني بكل مركباته ومكوناته، مستلهماً بذلك من تشخيص التجربة النضالية للشعب الفلسطيني والعربي منذ مائة عام. وهي تمثل استمرارية مدرسة التحرر الوطني من أجل الاستقلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة، وبرهنت فتح أنها فعلاً المدرسة الوطنية بمنهجها الثقافي والسياسي ورافعة المجتمع الفلسطيني وشبكة الأمان لقضيته الوطنية بعيداً من الوصاية والاحتواء والاصطفافات والمحاور ومتجاوزة لكل الإشكاليات ومحافظة على القرار الفلسطيني المستقل وحامية للثوابت الوطنية  الفلسطينية.

في علم السياسة أصبحت فتح الجامعة المفتوحة لكل المناضلين الوطنيين، والتزمت بعدم التدخل في الشؤون العربية، ورفضها التدخل في شؤونها الداخلية، تجاوزت الصراعات الحزبية والشعاراتية، وكانت وظيفتها إعداد الإنسان وتنشئته فكرياً وسياسياً، وقد جاء في مقدمة النظام الداخلي أنها من موقع المسؤولية التاريخية تحمل الأمانة الوطنية وهي أمانة غالية وخطرة، لذلك دورها بالإعداد وبناء المناضل، وتقوم بالتهيئة الدائمة بشحن روح العمل الوطني والثوري في كل نفس عربية مخلصة لفلسطين، تؤمن بالتحرير، وتروّض الأنفس على الصبر ومواجهة الشدائد والبذل والعطاء والفداء، وأن مقياس الانتماء لمدرسة فتح يعتمد على قناعتين راسختين، حتمية النصر أو التضحية في سبيل الوطن.

الثورة الفلسطينية المعاصرة بقيادة فتح كانت العلامة البارزة لعنوان هذه المنطقة وحركة تاريخها بالاتجاه الصحيح، ولأول مرة يمسك الفلسطينيون قضيتهم بأيديهم ويصبحون أصحاب القرار بعد أن غيّبوا ردحاً من الزمن، وعاد من جديد اسم فلسطين على خارطة العالم، ومسألة اللاجئين جزءاً من قضية أكبر أعادت القضية إلى جذورها كمسألة سياسية ذات بُعد إقليمي ودولي لحركة تحرر وطنية تطالب بالحرية والاستقلال وعودة اللاجئين، وينطبق عليها المواثيق الدولية وقرارات الشرعية الدولية.

لعبت قيادة النضال الفلسطيني وفصائلها الوطنية دوراً ريادياً في تنظيم الشعب الفلسطيني وتوعيته الذي طالما كان يحلم باستلامه زمام الأمور ويقدم على طريق الاستقلال والعودة ويقدم آلافا  من الشهداء والجرحى والأسرى، ويعطي دروساً في التضحية والفداء، ويؤسس مدرسة نضالية لكافة الشعوب التي تنشد الحرية والاستقلال. كما أدركت القيادة الفلسطينية منذ البدايات كيفية التعاطي مع كل مرحلة سياسية رغم ما اعترضها من معوقات كثيرة  على طريق نضالها، وتحملت بكل مسؤولية وبجدارة قيادة الشعب الفلسطيني وثورته المعاصرة بكل شجاعة وحنكة سياسية ورؤية صائبة حددت من خلال الأهداف الوطنية ووضعت استراتيجية الأولويات والاستحقاقات السياسية لكل مرحلة.

 

التنظيم القاعدة الحالية للفكر السياسي:

تعتمد الحركات الثورية التي تناضل من أجل الحرية والاستقلال أو من أجل تغيير الواقع الفاسد في مسيرتها الكفاحية على مسألة التنظيم، وذلك يمثل وعاء العمل، وحيث يخضع إلى أسس وركائز البنيوية السياسية والأطر التنظيمية في تحديد استراتيجية التنظيم (الأهداف والوسائل) توضع فيها المنطلقات الأساسية والمفاهيم التنظيمية في خط متوازن يشكل فيها الكادر الملتزم مرآة العملية الوطنية من خلال الممارسة والفعل اليومي يدل عن نضج الكادر وعياً ومعرفة، التزاماً وممارسة، وبما أن الكادر هو صورة التنظيم في شكله ولونه، يتحمل مسؤولية نضالية كبيرة في علاقاته المميزة وسط الجماهير وتفاعله وانسجامه بما يؤمن وفي مهماته اليومية سلباً أو إيجاباً.

تعتبر المسألة التنظيمية هي الأساس في جميع الحركات الثورية والوطنية، وتمثل المبادئ والمنطلقات والأهداف المحركة لها، وقوة التنظيم وتماسكه الداخلي يعطي القوة والقدرة للموقف السياسي والسير نحو تحقيق الهدف، وهذا ما يفسر في إهمال المسألة التنظيمية تحول التنظيم إلى كتلة بشرية كبيرة هلامية في علاقاتها الداخلية غير واضحة الرؤية وضبابية المواقف، والتجسيد العملي للمبادئ والأهداف تقع على عاتق الكادر الملتزم في تفاعله وانسجامه وإخلاصه، مكافحاً في مقدمة الصفوف يمثل الطليعة الواعية في تأدية مهماتها النضالية من خلال الممارسة اليومية في كل مجالات العمل والسلوكية الثورية، والمهمات النضالية هي شرط أساسي وضروري لمبررات استمرارية التنظيم وذلك على قاعدة تحقيق الهدف لكي لا تتعرض الحرية الثورية في مسيرتها إلى خطر الانفلاش والخلل في تحديد أولويات الصراع في الشكل والمضمون.

إن أحد أهم شروط الحركة الثورية وحدتها الداخلية وتماسكها، بما تمثل من طليعة مناضلة نحو إنجاز أهدافها، ولتحقيق هذه الأهداف في تنفيذ استراتيجيتها من قبل كافة الأعضاء وخاصة الكادر الملتزم الواعي الذي يمتلك المعرفة وحس المسؤولية والالتزام والانضباط، كما يمثل الكادر بانتمائه وإخلاصه اندفاعاً جماهيرياً موحداً وقاعدة شعبية تلتف حول تلك الأهداف وتناضل من أجلها.

وبما أن الكادر يمثل مسؤولية نشر مبادئ وأهداف الحركة الثورية ويشكل حافزاً لنهوض جماهيري، لذلك فإن الكادر من استحوذ على ثقة الجماهير وتفاعل معها، وارتقى بسلوكياته وأخلاقه إلى درجة نكران الذات والتضحية، وهو المدافع الأول عن المصالح العليا للشعب، وخاصة في هذه المرحلة حيث النضال بكل أبعاده وأشكاله باتجاه كنس الاحتلال الإسرائيلي على قاعدة الوحدة الوطنية الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق العودة على أسس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.

لقد طرحت حركة فتح فكراً سياسياً جديداً لم يكن مألوفاً في الساحة النضالية الفلسطينية والعربية، كان فكراً سياسياً متميزاً في منطلقاتها وأهدافها وشعاراتها وأدبياتها المختلفة، وعبر مواقفها السياسية الفلسطينية والعربية والدولية، والتي كانت تتبلور باستمرار توازناً مع المتغيرات السياسية ومراجعة نقدية لكل مرحلة اكسبتها خبرة وقدرة على محاكاة الواقع بخطاب سياسي يعطيه بعداً دولياً وإقليمياً كحركة تحرر وطني وقضية شعب سياسية اعادت إليها حيويتها وزخمها وشدّت الانظار إليها وأعادتها إلى المسرح الدولي كقضية دولية معني بها  المجتمع الدولي ووضعت النظام الرسمي العربي تحت مجهر القضية المركزية مع تغيّر المعادلة السياسية بالتحول التاريخي بتسليم الرئيس الرمز الشهيد ياسر عرفات قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لمؤسسة وطنية وثورية والاعتراف بها  كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني.

أثبتت التجربة الفكرية السياسية الفلسطينية عن عمق الوعي والخبرة لدى القيادة الفلسطينية، وكان يميزها الطيف السياسي المتعدد الألوان الذي يتفتح في الحديقة الفلسطينية وفي ظل غابة البنادق كان الحوار سيد الموقف والديمقراطية الفلسطينية نموذجاً جديداً في العمل الثوري والوطني. كما عبّر الفكر السياسي الجديد عن خصوصية الحالة الفلسطينية في بُعدها التاريخي والسياسي وذلك باستمراريتها كقضية وطنية وحركة تحرر رفعت عنها الوصاية والاحتواء وضرورة البقاء عليها واستمرارها في يد أصحابها للتعبير عن هويتهم وكيانهم وليس على خلفية مفاهيم قطرية كما أراد البعض في تشويه ما يمليه الواقع الذاتي والموضوعي، أو تخلفاً فكرياً يبتعد بقاطرته عن سكة حديد القومية.

لقد أثبتت حركة فتح بفكرها السياسي الجديد عن جوهر الصراع عبر تدرجه التاريخي وسياقه العام، وحيث لكل مرحلة دورها وأسلوبها وتكتيكها السياسي، تتجاوز فيه التحجر الفكري والتعثر السياسي في مسارات كثيرة الخطورة مليئة بالعراقيل والألغام، تكسر القيود والاملاءات، تتمسك بالثوابت الوطنية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتضع الاحتلال الإسرائيلي في مأزقه التاريخي والأخلاقي والسياسي وتدفع به نحو انحسار مشروعه وتحويله إلى برنامج فاشل.