بقلم خالد غنام أبو عدنان

وأنتَ تُعِدُّ فُطورك، فكّر بغيرك * لا تَنْسَ قُوتَ الحمام * وأنت تخوضُ حروبك * لا تنس من يطلبون السلام * وأنتَ تسدّد فاتورة الماء، فكّر بغيرك * مّن يرضعون الغمام * وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك * لا تنس شعب الخيام (محمود درويش)

عندما وضعت كتاب( حمص وشركاؤه) على طاولة المقهى، انتفضت نادية زعيتر وقالت: أنت تدعمهم وتشتري كتبهم لا بد أن تعيد هذا الكتاب الصهيوني، وإن كنت مهتما بكتب الطبخ هناك كتاب جديد أصدرته البرفسورة ريم قسيس وعنوانه المائدة الفلسطينية. ونزولا عند مقترح نادية استبدلت الكتاب ودعمت فلسطيننا. وبعد يومين عندما أخبرت علاء خليل بالحادثة وما حصل بالمقهى، سألني من هو مؤلف كتاب حمص وشركاؤه؟ ثم بحث بالشابكة (الإنترنت) ثم ضحك بصوت عال ثم قال: مخائيل رنتيسي؟ هل هناك يهود من عائلة الرنتيسي، وتذكرنا الشهيد عبد العزيز الرنتيسي ونضاله من أجل الحق الفلسطيني وقلت سأبحث عن شركائنا بالحمص! فقال علاء: أنتظر منك دراسة وافية فالموضوع سيدخلك دهاليز كثيرة.

حملت سؤالي لصديقي اليهودي غاي غلور فقال لم أسمع بمخائيل ولا أعرف إن كان يهودياً أم لا. فسألته: هل هناك مجال للتأكد بأن هناك عائلة يهودية بهذا الاسم، فقال لي نعم هناك بنك معلومات عن العائلات اليهودية في العالم وله صفحة الكترونية على الشابكة (dbs.bh.org.il)، وبعد بحث طويل قال لي غاي أنه لا يوجد أي عائلة يهودية تحمل هذا الاسم ولا يوجد أي شخص تم تهويده من هذه العائلة وقد جربت البحث بكل الاحتمالات الإملائية ولم أحصل على أي دليل أن هناك شخص يهودي من عائلة الرنتيسي. فسألته: لكنه مولود في تل أبيب؟ فضحك غاي وقال: هناك أكثر من 50 ألف عربي في يافا يا صديقي وهذا المخائيل منهم! فقلت له: لكنه يقول إنه إسرائيلي؟ هل ممكن أن يوجد مسيحي إسرائيلي؟ فرد غاي: لقد دخلت بالسياسة وهذه خيارات الأفراد ولكن هذا اختيار جدا غريب وغير مألوف حتى في حيفا لا أعرف عربي يقول إنه إسرائيلي لأننا نتحدث عن انتماء ديني أكثر من مواطنة في الدولة. كانت فكرة الباحثة سوسن سلمان أن نبحث عن مايكل لا مخائيل ونبحث بالعربية لا الانجليزية، وهكذا بعد بحث وتمحيص في صفحات مخائيل في مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت دهشتنا كبيرة لأن له أصدقاء وأقارب في يافا ورام الله والقدس والأردن والولايات المتحدة الأمريكية، ويكتب باللغات الثلاث العربية والعبرية والانجليزية.

أورد محمد شراب في معجم العشائر الفلسطينية أن هناك عائلتان تحمل اسم الرنتيسي الأولى من مدينة اللد وهي مسيحية والثانية من قرية يبنة وهي مسلمة ومنها تعود أصول الشهيد عبد العزيز الرنتيسي. ويضيف طاهر أديب قليوبي في موسوعته الإلكترونية:" عائلات وشخصيات من يافا وقضائها" في مدينة يافا تسكن عائلة الرنتيسي وهي من العائلات المختلطة مسلمون ومسيحيون، ولعل أشهر شخصية في العائلة هو المؤرخ إلياس حنّا الرنتيسي صاحب كتاب: تاريخ يافا من أقدم العصور إلى الوقت الحاضر. أما د. أحمد القضاة فيذكر أسباب تشابه اسم العائلات دون أن يكون هناك رابطة دم تجمعهم بأن ذلك يعود لطبيعة الاسم فقد يكون كنية لمدينة أو بلد مثل القدسي أو عكاوي وبالتالي الانتساب للمدينة وهناك انتساب للمهنة مثل الحايك والخياط والنجار، كما أن هناك أسماء الشهرة المصحوبة بقصص إما بطولية مفاخر مثل الغول وأبو الليل أو أنها نكّابية التصقت بالعائلة مثل الصرصور والفار، دون أن ننكر وجود عائلات مختلطة مثل عائلة عميرة في منطقة الرملة وعائلة الصفدي في منطقة يافا. ومن جانب آخر يضرب أنطوان سعد جرس الخطر بأن تصبح أرض المسيح بلا مسيحيين، حيث أن أعداد المسيحيين في تناقص مستمر في كل المناطق الفلسطينية وهذا الوضع يشابه وضعهم في باقي المشرق العربي حيث أن هناك هجرات كثيرة للأقليات هرباً من الصراعات الطائفية، ولعل فلسطين تعد استثاء لهذه الفتن فهي لم تشهد أي صراعات طائفية وأن أغلب الهجرات أسبابها اقتصادية ثم ظروف الاحتلال وسياساته التعسفية، أما ما يُشاع أن المنطقة الوحيدة بالشرق الأوسط التي يزداد بها عدد المسيحيين هي إسرائيل، فالسبب أن هناك زيادة غير طبيعية من الزواج اليهودي المختلط مع المسيحيين الأوروبيين وكذلك تحول بعض اليهود للمسيحية، لكن لا يمكن أن نقلل من حجم الاضطهاد الواقع على المسيحيين في فلسطين، وفي الثورة الفلسطينية تعتبر الوطنية هي المقياس ومن أجل ذلك تقدم بعض المسيحيين وقادوا فصائل ثورية عسكرية ولهم إسهام ثقافي حضاري مهم ولا يمكن تخيّل أرض المسيح بلا مسيحيين. وهذا ما أكده البرفسور بسام الدالي الذي اعتبر أنانية البعض تجعلهم ينكرون انتماءهم لدينهم وبلدهم لكنهم كمن يغمض عينيه في عين الشمس ليقنع الآخرين أن الوقت بات ليلا، وبالتأكيد أن هذه الفئة قليلة ولا تعتبر مقياسا لفلسطينيي الداخل الذين يخوضون نضالا يوميا ضد السياسات العنصرية.

في كتاب حمص وشركاؤه يكرر مخائيل الرنتيسي ما بدأه في كتابه الأول فلافل للفطور، بأنه يقدم مأكولات الشرق الأوسط بطرق مستحدثة، فقد بدأ حياته العملية في مدينة يافا (تل أبيب) ثم انتقل لباريس حيث درس فنون الطبخ وطرق ابتكار مأكولات جديدة ثم بدأ لرحلته بالمدن الأوروبية والأمريكية حتى قرر الاستقرار في مدينة سدني الأسترالية. وفي شروحات ريم قسيس لتصنيف المأكولات تقول أن هناك ثلاث طرق، الأولى تسمى الطبيخ التراثي وهي طريقة لها أسس عريقة لشعب محدد والطريقة الثانية هي المزج بين طريقتين تراثيتين لشعبين مختلفين، والطريقة الثالثة اختراع أكلة جديدة لا تنتمي لأي تراث. وبالنظر لكتب مخائيل الرنتيسي فهي اختراعات حديثة تتناسب مع مدينة سدني حيث أن الزبائن يبحثون عن مذاق جديد ونكهة غريبة في مدينة متنوعة الثقافات فهي لا تملك مطبخا خاصاً بل هي مزيج بين الأكل الأوروبي والآسيوي والقليل من باقي العالم ومن بين هذا القليل يتميز الطباخون اللبنانيون والأتراك، ولعل أشهرهم على الإطلاق الطباخ العالمي جورج معلوف.

إنه أهم خبير دولي لمزج الأطباق ثنائية الهوية هو الطبّاخ الأسترالي الدولي (أصله لبناني) جورج معلوف، فقد قام بتطوير العديد من الأطباق اللبنانية بإعطائها بعض المنكهات الأوروبية وخاصة الإيرلندية والاسكتلندية، وقد أصدر أكثر من خمسة كتب طبخ تشرح أسرار نجاحاته، وهو يعتبر مستشار دولي لإعداد قوائم الطعام في المطاعم الراقية في الفنادق الخمس نجوم، ويقول إن ابتكاراته الخاصة بدأت في عام 1994 وهي أطباق لا تأكلها إلا في مطعمه في مدينة ملبورن الأسترالية، أما فكرة مزج الأطعمة فقد بدأت في عام 1996 في إضافة بعض النكهات على الحمص، فكان أول من قدّم الحمص بالشامندر والحمص باللبن وكذلك الفلافل بالثوم، وكلها ضمن المزج بين المطبخين اللبناني والإيرلندي. وفي العام الماضي افتتح مطعما جديدا له في مدينة دبي لكنه كان لا يحوي على أي من أطباقه المزجية، وقال أن المزج يصلح في المجتمعات المتعددة الثقافات مثل أستراليا أما هنا في مدينة دبي فإن أغلب الزبائن هم من العرب لذا فهم يفضلون أن أقدم لهم الطعم التراثي العريق مع وجود بعض الأطباق المبتكرة من نفس النكهات العربية. لكن مخائيل الرنتيسي لم يذكر أي شيء عن جورج معلوف بل أنه وصف الأكل الشرق أوسطي في أستراليا بأنه باهت ولا يحظى بشعبية فهو عبارة عن أسياخ شاورما وفلافل ناشفة، رغم أن الأكل اللبناني يعد الخيار الثالث بعد الأكل التايلندي والهندي عند عموم الأستراليين وأن عدد المطاعم اللبنانية في سدني أكثر من عددها في أي مدينة عربية!

أما الحديث عن سيدة الابتكار في المطبخ الإسرائيلي فهي دينسي فيلبس والتي أصدرت أربعة كتب لغاية الآن والعديد من البرامج التلفزيونية ولها فلسفة خاصة بالمطبخ وهي أنها لن تأكل إلا أكل كوشر أي حلال على طريقة الديانة اليهودية، فقامت بتعديل الأطباق الصينية والتايلندية والهندية لتتطابق مع مفهوم الكوشر ثم انتقلت لمأكولات أمريكا اللاتينية وهي تبتكر الأطباق بشكل مستمر حيث أنها تمتلك موهبة وثقافة واسعة، فقد خصصت برنامج كامل للأطباق الخاصة بمرض السكري وآخر خاص للذين يعانون من فرط الحساسية من بعض المواد الغذائية، وهي صاحبة المقولة المشهورة تستطيع أن تحول أي أكلة بالعالم لتصبح أكلة يهودية أي كوشر لكن عليك أن تقنع اليهود بأنها يهودية وهذا صعب جداً. ورغم أن هذه الأفكار عملية جدا حيث انتشرت في الأحياء العربية في مدينة سدني العديد من المطاعم التايلندية والصينية وكلها تحمل شهادة أكل حلال، لكن مخائيل الرنتيسي شيء آخر فهو لا يلتزم بتقديم الأكل الكوشر بل أنه يقدم لحم الخنزير في مطاعمه ضمن مفاهيم الانفتاح والتسويق وكذلك لأنه أصلا ليس يهوديا لكنه إسرائيلياً!

من جانب آخر يعتبر بحث جون نيوتن من أهم الدراسات عن مطبخ السكان الأصليين في أستراليا فهو لم يقتنع أن هذه الشعوب كانت تعيش على اللحوم المشوية، وفي خلال بحثه المستمر جمع العشرات من الوصفات الكاملة لحضارة شبه اندثرت، وهو يؤكد أن الأبروجونيز (اسم السكان الأصليين في أستراليا وفقا للاستعمار البريطاني وهي تعني الأصليين) بعكس ما يُشاع عنهم بأنهم يأكلون اللحوم بنهم، فهم بالحقيقة يعشقون النباتات والأعشاب، وأن أكلهم صحي ومغذي فهو يشمل على أكثر من 500 صنف نباتي وأكثر من 80 صنف حيواني، كما أنهم لا يأكلون الأكل البائت ولا يخزنون الطعام ولا يحفظونه بل يتفاعلون مع المواسم ويحفظون أين يجدون الطعام الذي يتناسب مع كل موسم. ويذكر جون نيوتن قصة مطعم علي أكبر الشهير، وهو أشهر مطاعم ولاية تازمانيا وأقدم مطعم يقدم أكل السكان الأصليين بإشراف الطباخ الأبروجونيزي بيتر غيلمور، الذي يقول عن تجربته: أن فلسفتي كانت أنني أبحث عن فرصة للنجاح والثروة، وكنت أتوقع أن مزج بعض الأطباق الأبروجونيزية مع النكهات الإيرلندية سيكون لها شعبية في تازمانيا، لكن صاحب المطعم لبناني الأصل وهو جورج حداد أصر أن يخوض غمار مغامرة صعبة جداً أن نقدم المأكولات التراثية للسكان الأصليين وأن لا نستخدم أي منكهات أوروبية وهذا ما فعلناه ونجحنا وأصبح للمطعم شهرة عالمية وهو الآن معلم سياحي لا يمكن إغفاله.

وفي دراسة أصول سلق اللحوم في منطقة الشرق الأوسط تدلل المعلومات التاريخية على وجود طريقتين، الأولى تسمى الطريقة الفارسية وهي الأكثر رواجاً وبها يتم تسخين الزيت ثم إضافة البصل المفروم وتقليبه حتى يتذبل ثم يتم إضافة اللحم وتقليبه ثم تغطية الإناء وتخفيف النار وبعدما يصبح اللحم نصف مستوي يتم إضافة السبع بهارات والمزيد من الماء ويترك حتى يغلي فنحصل على مرقة اللحم. أما الطريقة الأخرى وتسمى الطريقة الكنعانية فهي تكون بتسخين الماء ثم إسقاط اللحم بداخلها وتحريكها حتى تبدأ بالغلي ثم يتم رمي صرّة البهار وهي من الشال لها حبل طويل يربطه الطباخ بوتد وداخل الصرة حب غير مطحون من القرنفل والفلفل الأسود والهيل وورق الغار والكزبرة الناشفة، والبعض يضيف رأس بصل مقشور وغير مفروم، ويتم تحريك اللحم وإزالة الزبد الذي يطفو فوق الماء وتسمى هذه المرحلة بمرحلة سحب الزفرة، وبعدها يتم إضافة الزيت والبهار المطحون للحصول على مرقة اللحم، بالتأكيد أن هذه الطريقة معروفة عند كبار السن لكنها تحتاج لوقت أطول وهي مجهدة، لكن لا يوجد أي كتاب طبخ إسرائيلي يذكر هذه الطريقة، وبالتأكيد لا يذكرها مخائيل الرنتيسي، لكنها موجودة في أغلب كتب الطبخ الفلسطينية، بل أن منال العالم اعتبرتها صحية أكثر من طريقة القلي.

وهذا ما تؤكده الباحثة سوسن سلمان بأن الطريقة الكنعانية تتناسب والمطبخ الفلسطيني الذي يعتمد على الطابون والتنور في سلق اللحم، وهو معروف بناره الهادئة وطريقة طبخه البطيئة، وهي طريقة متبعة لحد الآن في الولائم الكبيرة، أما بالطبخ اليومي فالناس تبحث عن طرق أسرع. وتروي غيردا سدون فالسجير (وهي من الهيكلين الألمان الذين عاشوا في فلسطين 1869-1948): أن كلمة كازية بدأت تصبح دارجة في حيفا منذ عام 1911 وذلك بعد انتشار بابور كاز سويدي اسمه بريموس وهو رخيص الثمن وسهل الاستعمال واقتصادي في استهلاك الكاز وأكثر من كل هذا أن الكاز أصبح أرخص بعدما ربطت السكة الحديد بقطار دمشق حيفا، هذا كله سبب انتشار الطبخ على البابور وتحوّل الطابون لمجرد مكان للخبز في قريتنا أما في حيفا فإن المخابز التجارية كانت موجودة قبل ذلك بكثير، وبالتأكيد أن طعم الأكل من الطابون أطيب وألذ فالطنجرة تكون محاطة بالنار الهادئة من كل مكان أما البابور فهو عصر السرعة والنظافة.

وعن تنوع المأكولات الفلسطينية تقول كريستين ناصر: إن فلسطين تقع بين الشرق والغرب وتعرضت للاحتلال من الكثير من القوى الغربية والشرقية عبر تاريخها الطويل، وبالتأكيد أننا نلمس أثر ذلك في التراث الفلسطيني الحي، هنا الباذنجان والرمان الفارسي يتخالط مع الأجبان والألبان اليونانية على سبيل المثال لا الحصر ويحافظ على نكهته الخاصة. فسألنا عطار الجالية الفلسطينية في مدينة سدني وليد السعدي عن معنى النكهة الفلسطينية والنَفَسْ الفلسطيني، فقال السعدي: البهارات هي المسؤولة عن النكهة والدارج في فلسطين هي السبع بهارات وهي منتشرة أيضاً بدول الجوار العربي، أما ما يجعل أكلة مثل المقلوبة مميزة فهو بهارها الخاص الذي يحوي على الكمون ولا يمكن أن يكون هناك اختراعات جديدة في موضوع البهارات، فحتى الأستراليون يسمون بهاراتنا بالبهارات العربية، بصراحة ما أقوم ببيعه هي خلطات دارجة لكن الطباخة الماهرة تصنع خلطاتها بنفسها فالنَفَس بالطبخ مكوّن من عيار البهار وماء ونار وهي أسرار خاصة لكل طباخة. وتأكد السيدة سمر أبو الجبين (من كوادر الجالية الفلسطينية في سدني) بأن البهارات أسرار وليس سهلا تحديد عيار البهار إلا بعدما تصبح الأكلة جاهزة، أما السيدة رفاه شلبي (من كوادر الجالية الفلسطينية في سدني) فلا ترى التزام بعيار بالبهارات كما هو في كتب الطبخ أمراً عملياً فلكل طبخة ظروفها.

وتحدد كريستين ناصر عام 1855 كنقطة بداية لدخول أكلات أوروبية على المطبخ الفلسطيني بسبب هجرات الأقليات الأوروبية بعد حرب القرم مثل الأرمن والهيكلين الألمان ومجموعات إيطالية من البندقية ونابولي كهجرات إنسانية غير مرتبطة بالتبشير المسيحي أو الاستعمار الأوروبي، حيث بدأ ذكر الباستا والمعكرونة وفيليه صدور الدجاج وسلطات تحوي على البندورة، وذكر البطاطا وأكلتها المتنوعة وكوسا وكل هذا مدخل على المطبخ الفلسطيني، حيث بدأ الحجاج الأوروبيون يذكرون أن بيت لحم بلد السمن البلدي ولبن المخيض تتحضر وتصنع لنا الباستا الإيطالية والنقانق الألمانية وسلطة البطاطا الروسية. وهنا تؤكد السيدة سمر أبو الجبين أن تجريب خضرة جديدة يخرجنا من التكرار الباهت وأنا لا أمانع من التجريب وهي فرصة للتعرف على صنف جديد، وتحدد السيدة رفاه أن التجريب يكون بالطبخات اليومية للعائلة أما في الولائم والعزائم فأنا ألتزم بأصول الطبخة فأي خطأ بطبخة العزومة يفتح تساؤلات لا تنتهي ضمن ثقافتنا العربية.

وتطرح الباحثة سوسن سلمان فكرة تبادل الأطباق وهي من عاداتنا القديمة وهي الآن بين شعوب العالم حيث أننا نمتلك نسخة معدلة من أطباق الشعوب الأوروبية وهم يتفننون بتعديل أطباقنا أما موضوع سرقة التراث فهي مصيبة كبرى، ولعل ما ذكره مخائيل رنتيسي في كتاب فلافل للفطور عن السلطة الإسرائيلية يذكرنا بحادثة حصلت فعلا في إسرائيل عندما دخل وزير السياحة الإسرائيلي المتطرف رحبعام زائيفي (اغتالته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يوم 17/10/2001 في القدس): عندما سأل أحد مطاعم تل أبيب لماذا يطلقون عليها سلطة عربية لا بد أن نسميها سلطة إسرائيلية ومن لا يلتزم بالقرار يعرض نفسه للمساءلة القانونية، ويبدو أن مخائيل رنتيسي يتمسك بمبدأ زائيفي وضرورة أسرلة المطبخ الفلسطيني، وأما الفرق بين السلطة العربية والإسرائيلية تكمن من نوع الخضار نفسه، فالخيار البلدي يختلف عن الخيار الإفرنجي، وهنا تطرح كريستين ناصر قضية مهمة عن الفروقات بين الثلاث أصناف لنفس النوع الغذائي فتذكر الصنف البلدي الأكثر رواجا ثم الصنف الإفرنجي وبذوره قادمة من أوربا وله طرق حديثة في الزراعة أو تربية الحيوانات بالحظائر، والصنف الأغلى هو البري البعلي وهو ما يتم جمعه أو يصيده من البراري ومناطق الخلاء.

فقد دوّنت السيدة البريطانية ماري إليز روجرز وسجّلت في خريف 1859: لم يسبق لي أن شهدت مناسبة تأكل فيها سيدة عربية في حضور الرجال إلا لدى الأسر المتأثرة جداً بالعادات الأوروبية، تبرع هؤلاء النسوة في عمل المأكولات الأوربية ويعرفن طرق عمل المخللات والمربيات حسب الطرق الأوروبية الشرقية والغربية وبعضهن يعملن النقانق والسجق على الطريقة الألمانية. في أحدث دراسة لتعايش فلسطينيي الداخل مع اليهود توصل د. شريف كناعنة إلى أن العينة الدراسية كاملة لم تملك صديق يهودي يزورهم بالبيت، وأن معرفتهم بالأكل الغير فلسطيني تقتصر على ما هو موجود بالمطاعم، وأن هناك عاطفة عالية تجاه الأكل الفلسطيني وخاصة بالمدن المختلطة مثل حيفا وعكا، وأن تطور الأكلات الشعبية عندهم أبطأ من مناطق 1967 بل أنهم يتمسكون بالطرق القديمة كجزء من تمسكهم بأصالة أكلهم. يصف د. شريف كناعنة الأكلات المعدلة بأنها تكيف طبيعي للمجتمع الفلسطيني مع إدخال مفهوم اقتصاد الاستيراد والتصدير، ولعل دخول الأرز بشكل تجاري في فترة الثلاثينيات من القرن الماضي أحدث تغيرا كبيرا بطريقة تحضير الكربوهيدرات المصاحبة للوجبة الرئيسية، والأرز حل محل البرغل والسميد وهو بذلك لم يكن جزءا من الأكل التراثي لندرته وغلاء ثمنه، فهو أكل الباشاوات في عهد العثمانيين، وعندما جاء رخيصا فأصبح (العز للرز والبرغل شنق حاله)، وكذلك الأمر بالنسبة للشاي الذي تحول لمشروب العمال والفلاحين في نفس الفترة.

يسجل التاريخ قصصا عتيقة عن الأكل التراثي ومنها قصة الملوخية التي يُقال أنها أكلة فلسطينية عتيقة وقبائل الهكسوس أدخلوها على مصر ولها قصة للخليفة معاوية بن أبي سفيان الذي استطابها بعدما أكل طبق من ورق الملوخية مع الشرائح لحم الماعز والللوز المبروش بمرقة هلامية وحامضة ويتم تغميسها بخبز الكماج، ورواية أخرى أن طبق المسخن وذكر الحجاج أبو يوسف الثقفي له بأنه احتفال وإجازة وللدولة وللعامة منفعة، فطبق المسخن هو طبق نهاية الخريف في فلسطين حيث موسم قطاف الزيتون وعصره وكذلك قطاف السماق وطحنه وبالتالي الكل يفرح بانتاجه وجباة الدولة يجمعون الأموال، تروي السيدة البريطانية ماري إليز روجرز تسجيلية لعيد الفصح عن طائفة اليهود السمرا في نابلس وهي رواية فريدة من نوعها مسجلة عام 1858: توقد النار في خندق طوله عشرة أقدام وعرضه قدمان يكون العمال قد حفروه في أول أيام الخبز العويص، ويثبت فوقه مرجلان مليئان بالماء، ثم تحفر فجوة مستديرة على شكل بئر تستخدم كفرن، وتحضّر خراف تكفي لإطعام الحشد المجتمع، وهي سبعة خراف، عند المغيب، قام سبعة رجال في ملابس بيضاء بتثبيتها وهم يتمتمون بكلمة معينة، ثم تنحر الخراف بنفس الوقت، ثم يقوم كل فرد من الجماعة بغرس يده بالدم ثم يلطخ جبهته بالدم إعلانا عن بداية عيد الفصح، ثم يتم نزع معاليق الخراف والتأكد أنها سليمة وصالحة للأكل، ثم يتم سلخ الخراف ووضعها بالفرن ويتم رمي الفضلات والصوف في حريق الخندق، أما الخراف فتكون مثبتة على تعريشة أعلى الفرن وتُغطى بالطين والأعشاب من أجل حفظ الحرارة داخل الفرن، وعند استواء الأكل يحمل كل فرد من الطائفة عصاه بيده اليسرى ويأكلون بيمينهم بنهم وبعجلة ويرمون الفضلات والعظام بالنار بحيث لا يبقى أثر لاجتماعهم حتى أنهم يمسحون خطى أقدامهم قبل مغادرتهم.

يذكر تيرنيس ماكينا عن حكمة حل الخلافات بين القبائل الإفريقية المتخاصمة ما وجد مدوّن في إحدى كهوف كينيا ويعود تاريخه لما قبل الميلاد: أن نتشارك في الطعام يعني أن نصبح جسدا واحد، عندما تأكل عشيرة الصقر من طعامنا "عشيرة الثعلب" تتماثل معنا، وعندما نأكل من طعامها تصبح مثلنا، من خلال تناول طعام الأخرين نظل متماثلين. ويشرح ماكينا الطقوس المصاحبة لاجتماع قادة العشائر المتخاصمة مع لجنة التحكيم، بأن كل قبيلة ترسل أكلا مطبوخا للقبيلة الأخرى طيلة فترة انعقاد مجلس الصلح، وعندما يخرج القاضي من خيمة المصالحة يبدأ قوله: طبختم لهم وأكلتم طبيخهم قبل أن تعرفوا قراري فلقد كتبت لكم السماء حقن الدماء وقبلت أن تكونوا جيرانا متحابين.

وكثيرة هي الدراسات التي تكلمت عن الطبخ في الصراع العربي الصهيوني ولعل د.إيما ماير تعتبر صاحبة أقدم كتاب عن طبخ في تاريخ الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والكتاب له أهمية كبرى من ناحية توثيق الأكلات التي كانت معروفة لها بتلك الفترة (1938)، ولعل مقدمة الكتاب تعتبر أساس مشكلة التغذية في المستوطنات التي كانت تحاول نقل نمط الحياة الأوروبية للأرض المقدسة، لكن د. إيما استنتجت أن هذا غير صحي بالمطلق ودعت الصهاينة لضرورة التكيف مع منتجات الأرض المقدسة والتعلم من المحليين الأكل المناسب لهذه البلاد، بل أنها اعتبرت أكل الفلاحين الفلسطينيين صحي ورخيص ولذيذ وعلينا التأكد أن سر المطبخ الفلسطيني يكمن في زيت الزيتون والقرفة والكمون مع الخضروات والبقوليات أما اللحوم فهي غالية وكثرتها تسبب الأمراض!

أما في المهجر فإن الموضوع مختلف لأن الدين يصبح لا يشكل هوية ثقافية بل أن العرق البشري يفرض على اليهودي المزاحي أن يكون عربيا! فقد ذكرت كلوديا رودين (يهودية مصرية): أن السبب الحقيقي وراء اهتمامي بثقافتي بشكل عام وبالمطبخ هو أن كل الذين تعاملت معهم في المدرسة والسوق والجيران وكل أهل باريس الذين أعرفهم كانوا ينادونني كلوديا المصرية ويسألونني عن أم كلثوم وعن الفول المدمس وبالتأكيد لو قلت لهم أن الطعمية تصنع من الباميا فسوف يصدقونني لأنني مصرية، هنا بالمهجر لا يمكن أن أكون فرنسية بل مصرية تحمل الجنسية الفرنسية لذا علي أن أكون مثقفة عن مطبخ بلادي الأصلية كما يفعل باقي المهاجرون.

رغم أن كلوديا رودين كتبت الكثير من الوصفات من بلاد عديدة من إيران إلى المغرب إلا أنها أهملت ذكر اسم فلسطين، بل أنها ميّزت الأكل اليهودي المصري على حساب الأكل المصري القبطي حسب رأيها، وهي تذكر على سبيل المثال أن المفركة أكلة يهودية تخص يهود الاسكندرية وهي عبارة عن بيض مقلي مع فول أخضر وهذا الطبق قد وصفته قبلها د. إيما ماير كإحدى أهم أكلات الربيع في منطقة القدس. تذكر كلوديا رودين أن هناك عادات عربية غريبة في التعامل مع الأكل، فمثلا يؤكل الثوم لوقف الحسد والعين بل أن تعليق الثوم في مداخل البيوت يكون دليلا على أن أحد أفراد البيت مصاب بالعين الحمراء، أما مسألة تحريم أكل دماغ الحيوانات فهي خرافة تدعي أن الانسان يصبح غبياً إذا أكل دماغ الحيوان، وفي نفس الطريقة يصبح جبانا إذا أكل قلب دجاجة، وترى أكل البراري يعطي الفحولة لأن الحيوانات البرية أقوى من الداجنة.

وحتى لا ننظر إلا الموضوع بسلبية عالية لا بد من ذكر بعض الإيجابيات، يعتبر يوتام أوتولينجي وسامي التميمي أصحاب فكرة المزج بين الأكل الفلسطيني والإيطالي ضمن ما أطلقوا عليه مطبخ القدس، وهما يرويان قصة التعايش والألفة بين جارين أحدهما يهودي إيطالي والآخر فلسطيني من مدينة الخليل لكنهما ولدا في مدينة القدس. يرويان قصة صداقتهما التي بدأت بطبق الكُسْكُس الليبي، فقد كان سامي من عشّاق طبق المفتول الفلسطيني ويوتام من عشّاق طبق بتيتيم الإيطالي وهما يشبهان بعضهما البعض، لكنهما اختارا طبق وسطي ليهود ليبيا يٌسمى كُسْكُس طرابلسي لكن بعد إضافات وتعديلات جعلته إيطالي فلسطيني ليبي أو كما قال يوتام أنه أصبح ابتكارا جديدا لنا في القدس. كما أكد سامي أن مطعمهم هو من نوع الأطباق الثنائية الهوية فنصفها فلسطينية ونصفها إيطالية، أما يوتام فلا يتصور أن يُسمى أكله بالإسرائيلي لأن التنوع الثقافي في إسرائيل أوسع بكثير من حصره بالأكل الإيطالي ممزوجا بالنكهات العربية. وذكر يوتام أن القدس لم تتحول إلى مدينة دولية رغم أنها كانت مهمة عبر تاريخها الطويل ومرور العديد من الحكام من الشرق والغرب إلا أنها صمدت ثقافيا وتحصنت بما يعتبر نكهة القدس الخاصة المكونة من زيت الزيتون والبصل والسمّاق والدجاج، ويضيف سامي أن أشهر الخضروات البرية البلدية في منطقة القدس هي القرنبيط الأصفر (الزهرة البلدية) ولها موسم محدد من السنة. وكذلك فطرة الأرضي شوكي المقدسي وهو يُصدر لكل بلاد العالم. والمفارقة أن ريم قسيس تدعو الفلسطينيين بالمهجر بضرورة إحضار مدخلات الطبخ من فلسطين لأن طعم الأكل الفلسطيني يكتمل باستخدام المنتوجات الفلسطينية، بينما مخائيل رنتيسي يذكر أسماء المنتوجات الأسترالية ولا يرى أن استخدام المواد المستوردة يعطي أي نكهة إضافية!

أكدت الباحثة سكينة حسن أبو العينين أن المطبخ التراثي الفلسطيني له نكهة خاصة وهي تجعله مميزاً عن أكل جيراننا العرب، إن الكمون على سبيل المثال يكون ظاهرا وقويا عند استخدامه، وكذلك زيت الزيتون يعتبر جزءا من نكهة الطبخة ليس مجرد مقدار قليل منه، هذه القوة في الطعم والرائحة تجعل كمية البهار والزيت عالية في الأكلات الشعبية حتى أنك لا تتخيل أكلة المسخن بكمية قليلة من سماق أو زيت. وترى الباحثة سكينة حسن أبو العينين أن التخزين مازال جزءا أساسيا من المونة في المطبخ الفلسطيني، فالمخللات والأجبان وكذلك المربيات مازال البعض يفضل تحضيرها بالطرق التراثية، والجديد علينا هو التفريز أي الحفظ بالبراد لموسم آخر وخاصة البقوليات والخضروات وأصبح لها أصولا متعددة، وهناك مظهر حداثي باستخدام أوعية بلاستيكية لحفظ ورق العنب أو الزيتون. وهذا لا يعني أننا فقدنا جزءا كبيرا من التراث المخصص لعمليات التنشيف والتجفيف الذي ينحصر الآن بتجفيف الخضروات الورقية، ولم يعد أحد يجفف البندورة أو التين أو حتى البامية إلا ما ندر.

تقول خبيرة التغذية د. حنين أبو العينين أكلنا التراثي صحي إذا ما كانت مدخلات الطعام صحية، فمثلا خبز الطابون كان يحوي على دقيق والنخالة وحتى الزوان أما الآن فالخبز الأبيض لا يمتلك نفس القيمة الغذائية لخبز الطابون، وكذلك طريقة عصر زيت زيتون على الحجر البارد تجعله يحفظ قيمته الغذائية أما الطرق الجديدة السريعة فهي تفقد الزيت قيمته الغذائية. وبموضوع الكميات علينا أن نراعي اختلاف أسلوب الحياة فنحن نعيش برفاهية وحركتنا قليلة مقارنة بجيل الأجداد، لذا علينا التقليل من الزيت في طبخنا والاستعاضة عنه بالشواء، وهناك طرق مستحدثة لعمل المقلوبة من الخضروات المشوية وصدقا المذاق لا يختلف كثيراً لأن سر المطبخ الفلسطيني بالبهارات والأعشاب المستخدمة.

وقد أخبرتنا الباحثة فاتن شلباية (طالبة دكتوارة في جامعة أوهايو الأميركية اختصاص الإدارة الصحية الدولية): أكل التراث الفلسطيني صحي ومغذي مقارنة بالشعوب الأخرى، وهو دليل على هوية ممتدة للشعب الفلسطيني، فمجرد أن نعرف أن البهارات الكنعانية القديمة من ورق الغار والكمون والكزبرة الناشفة والسماق مازالت مستخدمة نعرف أننا أمام ثقافة تتناقلها الأجيال، ولنا أن نلاحظ استمرار طريقة إزالة الزفرة في طبخ اللحوم على سبيل المثال، فمنذ أربعة آلاف عام ونحن نقوم بغلي اللحوم بالماء دون زيت، وعندما يبدأ زبد اللحوم بالطفو على السطح نزيله بطريقة تدريجية مع إضافة حبتين بصل والقليل من زيت الزيتون وصرة من الشال تحوي على البهارات الغير مطحونة، مجرد أن هذه الطريقة التقليدية مازالت مستمرة فهي دليل على أن أكلنا صحي وطرقه مجربة لأكثر من أربعة آلاف سنة.

وتضيف د. هدى دحبور اختصاصية أمراض السمنة: أكلنا التراثي يعطي سعرات حرارية عالية لذا علينا ممارسة الرياضة بعد تناولها أو تناول كمية قليلة منها خاصة أن مدخلات الطبخ لم تعد بلدية بل هي معدلة وراثيا وبعضها مهدرج وغيرها من الطرق الحديثة لزيادة انتاج الثروة الحيوانية والمحاصيل الزراعية على حساب الجودة والقيمة الغذائية، فمثلا الزعتر الذي نجمعه من الجبال وهو ينمو بطريقة بعلية برية يمتلك خصائص عالية الجودة وقيمة غذائية غنية لا يمكن مقارنتها بالزعتر المزروع والمروي بطريقة تجارية.

وتعتبر خبيرة التغذية حنين أبو العنين أن الابتكارات الحديثة مهمة حتى لا يشعر الانسان بالملل، لكن الابتكارات هي خاصة بكل فرد ولا يمكن تعميمها على المجتمع، فهي تعتمد على أسلوب حياته والمذاقات المفضلة لديه، إلا أن الابتكار إذا ما تكرر ممكن أن يعطي أصنافا جديدة مثل لفائف المسخن، أما موضوع استعاضة بديل رخيص بدل اللحوم فهناك خطأ شائع باستخدام زيت زيتون بدل اللحوم وهذا لا يمكن أن يكون صحيا، لإن البروتين يتم تبديله ببروتين آخر مثل البقوليات ومعروف بالتراث أن الفول لحم الفقير وكذلك الأمر بالنسبة للعدس وغيرها من البقوليات، ولا أنصح بزيادة الدهون لأي أكلة. وتعلق فاتن شلباية على الابتكار أن فكرته قديمة حديثة وهو معروف بالتراث بأكل القِلّةَ أي أن الفقير الذي لا يجد نوعا من الخضار يستعيض عنه بنوع آخر مثلما شهدنا في حرب غزة الأخيرة مقلوبة البطاطا لعدم وجود باذنجان أو زهرة، وكذلك الأمر عند استخدام الدجاج محل اللحم في المنسف الكذاب، وعند تعديل صفيحة اللحم بوضع كمية من الخضروات عليها حتى أنها تصبح بيتزا بلا جبنة، لهذا أنا لا أرى أن الابتكار مجرد رفاهية بل أنه أحياناً تصرف حكيم لتحضير الطبخة بالموجود بالمطبخ. أما د. هدى دحبور فترى الابتكار جزءا أساسيا من تفاعل المجتمع الفلسطيني مع باقي الشعوب دون أن يعني ذلك أن مطبخنا يصبح بلا هوية، فمهما قمنا بتعديل أو ابتكار يبقى لنا أن نراعي أن كل ابتكار له أساس تراثي ولا يعني إذا طبخت أكلة صينية أو إيطالية أو سعودية أنني لست فلسطينية، بل أنني لا أستطيب الكبسة إلا بالبهار الفلسطيني وهذا لا يعني أنني سرقت الكبسة ولكنني عدّلت عليها وحافظت على اسمها كبسة سعودية، وهذا موضوع حساس بالنسبة لنا كفلسطينيين فنحن نرفض أن يكون هناك مسخن على الطريقة الهندية أو مقلوبة تركية رغم أن هذه الابتكارات تحدث بشكل متسارع والطباخون يتفننون بالابتكارات الجديدة.

يعد كتاب ليلى الحداد وماغي اسجميت من أهم الكتب الميدانية في فن الطبخ الفلسطيني وهو يأخذ قطاع غزة كحالة دراسية قابلة لتعميم، فلقد سجلتا عددا من الأكلات التراثية التي لم يسبق لأحد أن ينشرها وبنفس الوقت عرضتا مجموعة من الأكلات التي تمزج المذاق الفلسطيني ببعض المدخلات الأوروبية وأيضا سجلتا مجموعة أكلات مبتكرة وحصرية. تؤكد الباحثتان أن أهم البهارات الفلسطينية هي الكمون والكزبرة الناشفة وأيضا الفلفل الأسود والفلفل المطحون والفلفل الشطة والدقة والثوم والليمون والطحينة الحمراء والمستكة، ومن جانب آخر ترى الباحثة ليلى أن نوع وعاء الطبخ يمنح الأكلة مذاق خاصا، وهذا الأمر ظاهر بقناعة أغلب النسوة بزبدية الفخار لعمل السلطة الغزاوية وطبق الفول وأن طعم الأرز له سحر خاص في طنجرة نحاسية.

أن تبحث عن الفرق بين الابتكار المبدع الذي يمنح حياة جديدة للتراث والاختراع المتمرد الذي يلبسنا ثوب التبعية للآخر، وهو ليس فرق بين تجربة الحرية والإصرار على التحرر، فلا أحد يقبل أن يأكل نفس الطعم بشكل متكرر، ولعل قصة بني إسرائيل والمن والسلوى تطرح بعداً فلسفيا أن الانسان لا يمكن أن يقبل بصنف غذائي واحد، بل أن أغلب المتمرسين في الحمية الخاصة بالرياضيين يصرون على استراحة يوم كامل كل أسبوع، لأن الحمية مهما كانت صحية لا تشبع الرغبات النفسية المرتبطة بأنزيم السعادة، فالأكل فرحة ولهفة تأتي أساساً من شهوة غريزية أساسها الاشتياق، فكيف تشتاق للأكل المكرر بشكل يومي كما يفعل رياضيو لعبة كمال الأجسام. إن الابتكار المبدع يحدد أن مدخلات الطبخة محددة مسبقاً وعلينا تجديد طرق إعدادها دون إضافة أي مدخل جديد. أما الاختراعات فهي أكلات بلا قانون وقد تحوي على نفس القيمة الغذائية لكنها من الناحية النفسية تفتقد اللذة والاشتياق مما يحولها لبديل مرفوض.

ذكر د. عبد الكريم سروش: أن الحداثة هي تجدد الأدوات والوسائل وهي عملية مهمة نتيجة لعملية تجدد طرق التفكير، فلا يمكن أن يكون هنا أسلوب جديد لم يسبقه طريقة تفكير جديدة، وهذا أهم موانع الجمود الفكري وتحجر الفهم، إن أهم مدخلات هيجل لعلم الحداثة هو مفهوم النقد من الداخل أي النقد البناء بهدف تصويب المسار وتعديل وسائل التفكير دون الخروج عن روح الفكرة مما يحول الحركات الفكرية إلى حركات تصحيحية ضرورة داخلية لا تمرد انقلابي يرفض الفكرة وأصولها وبالتالي يقوم بتدمير الفكرة وطرح فكرة جديدة لا علاقة لها بالفكرة الأصلية. وهنا يكون لنا أن نفهم الاختراع بأنه أكبر تمرد للفكرة وأن الابتكار هو أهم الحركات التصحيحية للفكرة وإن كانت الأهداف متقاربة إلا أن الغايات متناقضة وهذا هو الفهم الحقيقي (ابستمولوجيا )أي أن الانسان يستخدم عقله ليعيد صوغ تفكيره من جديد دون أن يفقد هويته أو كينونته فهو السيد الواعي لا التابع الخانع.

إن الأصالة الكنعانية المستمرة في التراث الفلسطيني الحي في ظل عصر العولمة الذي عصف بالكثير من تراثيات الشعوب ليفرض أحادية الثقافة الغربية وعالمية التجربة الأمريكية، أن تراثنا العربي الصامد في فلسطين امتداد طبيعي لجذره الكنعاني وفروعه الفارعة بالبلاد العربية، فمسألة الطبخ الفلسطيني هي خيار شخصي لكل فلسطيني ولا يمكن أن يفرض الاحتلال الصهيوني علينا طرق طبخنا أو مكونات أكلتنا، ومن جانب آخر لا تملك السلطة الفلسطينية أو فصائل العمل الوطني القدرة على إجبار الشعب الفلسطيني بطرق طبخ محددة أو مكونات طبخ معينة، وبالتأكيد أننا نرى أن الطبخ الفلسطيني جزءا لا يتجزأ من هويتنا العربية التي تتمرد على واقع الاحتلال وترفض جبروت العولمة الطاغي على العالم.

إن أسلوب الحياة العصرية فرض على الأسر تغيرات جذرية في طرق التربية ولعل تركيز الأهالي على ضرورة التحصيل العلمي والاهتمام بالتعليم المدرسي بنسبة توصف بأنها معجزة لشعب فقير ويخضع لاحتلال يمنع عنه فرص العمل، إلا أن الأهالي لا يطالبون أبناءهم وخاصة البنات بالمساهمة بإعداد الطعام أو تحضيره من أجل التفرغ التام للتحصيل العلمي، وهذا يعني أننا نؤخر تعليم الطبخ لما بعد الجامعة أحياناً أو بعد الزواج أحياناً أخرى، ومن أجل ذلك جاء كتاب ريم قسيس ليخاطب هذا الجيل الذي يعرف طعم الطبخة لكنه لا يعرف كيف يحضّر الطبخة، إنها أصعب مهمة تواجه هذا الجيل أنه مطالب بالكثير ولا يمتلك إلا القليل من الوقت في زمن اشتداد المنافسة على فرص العمل. والحقيقة أن هذا الجيل يصنف أنه قارئ جيد ومتصفح ممتاز على صفحات الشابكة، فتراه يشاهد طرق الطبخ المتنوعة ويقرأ طرق إعدادها بعناية فائقة، ويناقش ويحاور ويقلب كتب التاريخ ليبحث عن خيط رفيع يربطه بهويته الثقافية.

يقول علامة التراث الفلسطيني حسين لوباني الداموني: (سقى الله يا إمّي عا رْغيف من الكماج والخبز السُّخُن طالِع منِ الطابون * وْصونيّة محمّر من صوصان ديك الجاجْ عصافير مقليّة بْزيت من الزيتون * وْمنسف رزّ بلحم، عا صِدِرْ رَجْراجْ مِقْلَى فراطيش بالبيض مع هَلْيونْ * عَ قُرَّه وْقُرصعنّة ما عليها سياجْ عَا صحن دقّة وورق زعتر من الطربونْ * عَ العكّوبْ عَ الجِرنسّ هل مِعْلِن ابتهاج عالبرقوق: ملّى الطبيعة عا رْجاءِ الكون * عَ فقوسة بأرض السهل يا فرّاج شُمام يطّيخ من مْرزّات يا دامون * أفغّس وشقّح، واثق بلا إحراج أحمر، عسل، آكل بثمي ولعيون * عَ اللوز الأخضر، طالِلْ على الأحراج وحبّة ملح وِجْرنك، ذرّة من الكمون * تِحِتْ تينة، قَوَرْما من خبز هالصاج ومصّة بزّ عنزة بي لهفة المجنون * وْعَ فنجان قهوة، عا نغم وْصدى مهباجْ وبنت حارتنا مارقة، ترندح عالجنّ مِ الدلعونْ * وْورِد نيسان زهّر، وْغطّى عَ لِدراج وْحلوة اللفتات تبسم عا نغم موزون * صٌوَر وِرْسومْ عملت لفكري ارتجاجْ يا هل ترى بتعودْ، يا ماضي اللّي فاتْ * نجدّد ليالي الفرح بفلسطين والدامون.

المصادر:

طعام الآلهة، تأليف تيرنيس ماكينا، تالة للطباعة والنشر،بيروت، 2005

المطبخ التراثي الفلسطيني، تأليف سكينة حسن أبو العينين، دار العلوم العربية، بيروت، 2005

الدار دار أبونا، تأليف د. شريف كناعنة، دار الشروق، رام الله، 2013

الحياة في بيوت فلسطين، تأليف ماري إليز روجرز، المؤسسة العربية للدراسات، بيروت، 2013

مفردات الفلسفة الأوربية تأليف علي بنمخلوف ومحمد جنجٍار، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012

التراث والعلمانية (د. عبد الكريم سروش) ترجمة أحمد القبانجي، الانتشار العربي، 2009

معجم العشائر الفلسطينية، تأليف محمد محمد حسن شراب، الأهلية للنشر، 2012

بقاء المسيحيين في الشرق، تأليف انطوان سعد، دار سائر المشرق،بيروت، 2013

نصارى القدس، تأليف أحمد حامد القضاة، مركز دراسات الوحدة العربية،بيروت، 2006

The Palestinian Table By Reem Kassis, Phaidon Press, New York, 2017

Hummus & co By Michael Rantissi & Kristy Frawley, Murdoch Book, Sydney, 2018

Falafel For Breakfast By Michael Rantissi & Kristy Frawley, Murdoch Book, Sydney, 2015

Jerusalem A Cookbook By Yotam Ottolenghi and Sami Tamimi, Ten Speed Press, Berkeley, 2012

The Gourmet Jewish Cookbook By Denise Philips, Thomas Dunne Books, New York, 2012

The Oldest Foods On Earth By John Newton, UNSW,Sydney, 2016

The Gaza Kitchen By Laila El-Haddad & Maggie Schmitt, Just World Books, Chariottesville, 2016

Classic Palestinian Cuisine By Christiane Dabdoub Naser, Saqi Books, London, 2013

Memories Of Palestine, By Temple Society Australia, 2005

How to Cook in Palestine By Dr. Ema Meyer, Palestine, 1938

A Book of Middle Eastern Food By Cludia Roden, Penguin Books, London, 1968

بقلم خالد غنام أبو عدنان