مجلة القدس/ غادة أسعد

صورُ جثثٍ للشهداء ملقاة على جوانب الطرقات وفي المنازل بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، رائحة البارود والموتِ والدمار، تُعيدُ صورًا، يحاوِلُ التاريخُ أن يقفز عنها، وينأى بِها إلى النسيان، لكنّ الصور تعود كالشريط في عمقِ الذاكرة.

اثنان وثلاثون عامًا، والجرحُ في صبرا وشاتيلا لم يجــف، وإن كانَ الدمُ الفلسطينيُ واحِدًا، فإنّ الدماء التي خضّبت الأرض في لبنان، وسقت العيون بالدموعِ والغضب، هي الدماءُ ذاتها التي تسيلُ منذ أسبوعين وأكثر...

مشاهد لا تُنسى... صبرا وشاتيلا 1982

للذين لا يعرفون شيئًا عن مذبحة صبرا وشاتيلا، فقد نُفذت المجزرة في 16 أيلول 1982، بحق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بينما قتُل منهم أيضًا لبنانيون، وفي غضون ثلاثة أيام اقترفت المجموعات المهاجمة مذبحةً راح ضحيتها مئات الجرحى من الرجال والأطفال والنساء والشيوخ المدنيين العُزّل من السلاح، وفي ذلك الوقت كان المخيم مطوّقًا بالكامل من قِبَل جيش لبنان الجنوبي والجيش الإسرائيلي الذي كان تحت قيادة ارئيل شارون ورفائيل ايتان. وقامت القوات المعروفة في ذلك الوقت بالاشتراك مع الاسرائيليين بالدخول إلى المخيم، وبدأت بدم بارد تنفيذ المجزرة التي هزّت العالم، دونما أي رحمة وبعيدًا عن الإعلام، وكانت قد استخدمت الأسلحة البيضاء وغيرها في عمليات التصفية لسكان المخيم العُزّل، في حين كانت مهمة الجيش الإسرائيلي محاصرة المخيم وإنارته ليلاً بالقنابل المضيئة.

غزّة... حي الشجاعيّة 2014 - أكثر من 100 شهيد ومئات الجرحى

مشاهِدُ القتلِ في البيوتِ، وجثثُ الفلسطينيين في الشوارع، أعادت قصة اللجوء من جديد، قصفٌ ودمارٌ لمئات المنازل في مشهدِ دمارٍ وخرابٍ لا يمكننا وصفه، ونزوح مئات العائلات الفلسطينية من حي الشجاعية باتجاه مستشفى الشفاء وسط مدينة غزّة هربًا من القصف، هكذا أعادَ الغزاويون قصص اللجوء التي عاشوها، فمعظمهم لاجئون من البلدات الفلسطينية في الداخل الـمُحتَل، حيثُ تمّ هدمها، وقتلُ ناسِها أيام النكبة في العام 1948، واليوم مرّ على تاريخِ الفلسطينيين نكباتٌ ونكبات، وويلات فظيعة، كُلُها بفعلِ فاعلٍ واحد، ومُخطّطٍ بارعٍ في القصف العشوائي وفي استنشاق رائحة الموتِ البشري.

الآلاف بين شهداءٍ وجرحى

أهلُ غزة... أمس وقبل يومِ أمس، شاهدوا عشرات الجثث مُلقاة على الطرقات، ودمارًا لعشرات المنازل فوق رؤوس ساكنيها. أطفالٌ يُمسكون بأثوابِ أمهاتهم، خوفًا مِن الآتي، ونساءٌ يحضنَّ أطفالهن، ورجالٌ يبكون! هل رأيتم الرجالَ حينَ يبكون في غزّة؟! يعودون إلى طفولتهم، إلى حضنِ أمهاتهم، إلى بيتهم الذي كانَ عامرًا بهم وبأبنائهم..

قذائفُ تسقُط فوق الرؤوس، لا تميّز بين طفلٍ عمره شهرٌ أو مُسنٍ تجاوز الثمانين من عمره، شهداء بالمئات وجرحى لا يتسّع مشفى الشفاء لاستيعابهم، يذهبون إلى غرفةِ موتهم بأنفسهم، هؤلاء هم أهلُ غزّة.

هل عشتم يومًا هذا المشهدَ عن قرب؟! هل كُنتم يُومًا تُسابِقون وتتساقطون جماعات؟!! هذا يحدثُ في حي الشجاعية، ليسَ هُناك مكانٌ مُعتمٌ في النهارِ مثله.

لاجئون إلى حيثُ لا يدرون، هاربون مِن كُلِ شيءٍ حتى مِن ماضيهم هربوا، لعلّ الأمانَ يأتيهم بعيدًا عن بيتٍ كان دافئًا فانهارَ أمامهم في لحظةٍ.

صراخُ النساءِ والأطفالِ لا يُسمَع بفعلِ الانفجاراتِ والقذائف التي تسقط فوق الرؤوس، والرصاص كما لو كانت أمطارًا في عزّ الصيف الموحِش، لم يطلب أهلُ غزة سوى "إسعاف"، قبل أن يسقطوا جماعاتٍ وفرادى.

لم يستطيعوا أن ينتظروا أكثر كي يأتي الصليبُ الأحمر إلى الحي، فلا وقتَ مُتاحٌ بفعلِ القصف المُستمرِ على "الشجاعية"، وعملية إجلاء الشهداء والجرحى، أخذت ساعاتٍ وساعاتٍ، وكأنها دهرٌ.

بدأ القصفُ ليلاً واستمرَ نزفُ المصابين ليلةً كاملةً، قبل أن تتوقّف آخرُ قطرةٍ، قبل مجيء الإسعاف بثوانٍ معدودات.

لا شيء في الحي يُعيدُ ذاكرة أهلِ الشجاعية، فالشوارع مدمّرة، والدماء تسيلُ في كُلِ ركنٍ، والشهداء ملقوْن برؤوسٍ تميلُ إلى الأرضِ، نساءٌ تركن أزواجهن وهربن بأبناهن وبناتهن، فلا وقتَ للانتظارِ أكثر.

بعضُ النساءِ نسيْنَ أفراد عائلتهن، ضيّعن أزواجهن في الحيّ المنكوب، أمّا الباقون ممن شاءَ القدر أن يمهلهم كي يروا حجم الدمار، فراعَتهم الإبادات الجماعية المتعمَّدة مِن قبل الطيران الحربي الإسرائيلي، الذي حرق كُلّ شيءٍ بشرًا وحجرًا وشجرًا، فما بقيَ شيءٌ في المكانِ سوى شبح القاتلِ المستوحِش المسعور، عاشق القتل والدمار. في حيّ الشجاعية، وكأنّما تُعيدُ آلة الحربِ الإسرائيلية التي مزّقت فلسطينيي حيفا عام 1948، وشرّدت فلسطينيي صبرا وشاتيلا وقطّعتهم أشلاءً عام 1982، ودمّرت بيروت عام 2006، فهل استكفَت برائحةِ الموتِ والفوسفور الأبيض، أم أنها تعشقُ القتلَ والدمارْ حتى الثمالة؟!.