ما زال الدخان يلف فلسطين، قلب كل هذه الدنيا. نار مهووسة، تلسع ضمير الإنسان أينما كان، ولا عتب على الدواب الذين لا يحسّون ولا يألمون. أما الجامحون الأوغاد، تتار زمننا ونازيوه؛ فلا مستقبل لهم إلا إن ماتت هذه الأمة، ولم ينجُ منها سوى الخونة والسفهاء الخانعين. وهل تموت أمة، لكي يحيا القتلة المجرمون، ومعهم الخونة السفهاء، وينجـون من النقمة؟!
في خضم هذا الأنين والحزن الموسوم، وعلى وقع الموت الفاجع وغضبة المقاوم؛ تفتش الروح عن معنى وعن مغزى. كأن ما نتعرض له من نوائب، في الأرض المباركة، يساعد بحيثياته، على شرح سورة "البروج". فمن المفارقات، أن الله سبحانه، في القرآن، حين أراد الحث على التضامن مع المظلومين، والنفرة والتنديد بالظالمين؛ لم تكن هناك فاجعة كبرى وقعت لرهط المسلمين. فالسورة مكيّة أصلاً، أي قبل الهجرة، وقبل وقوع أية فاجعة كبرى لمجاميع غفيرة من المؤمنين، أو اختبار مصيري، لقوة إيمانهم. لذا كان الحث على نُصرة المظلوم وتمجيد صلابة المؤمنين وتمسكهم بأهدافهم وبما يعتقدون؛ يتطلب مشهداً يُقاس عليه أو حدثاً مروّعاً يؤخذ - في تقديري - مثالاً على شدة الظلم وسُعرة النار وترسيماً لبشاعة الجناية وفظاعتها. كان المشهد يتعلق بمسيحيين مؤمنين أقدمين، تناقلت قصتهم الأجيال. فقد أرادت كلمة الله أن توثّق مظلمتهم وقوة إيمانهم، بأشد التعبيرات بلاغة ومستهلها القَسَم الإلهي بأربع، لتثبيت الحكاية والبناء عليها:"والسماء ذات البروج، واليوم الموعود، وشاهد ومشهود". ولا تفصيلات قرآنية للحكاية، وإنما هو اختزال لإقدام الظالمين، على شق أو حفر أخدود في الأرض، وملئه بالنار التي تتلظى، وتخيير المؤمنين بين الاحتراق والنكوص عن الإيمان. بين خسارة الحياة وخسارة معنى الحياة. أما الفاجرون الظالمون، فقد كانوا حضوراً، يباشرون العملية قعوداً، لا يطالهم شرر "وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود" في إيماءة على قسوة القلوب والتجرد من الإنسانية، أمام قوة اصطبار المؤمنين ورباطة جاشهم!
في فلسطين، حُفرَ لنا الأخدود تلو الأخدود، والمحتلون ظلوا قاعدين. تدرجت الأخاديد بين احراق يسهل على البغاة وآخر يألمون فيه ويصعب عليهم، وكان الشرر يطال الظالمين ويألمون لم يستطع العدو المدجج بالسلاح، إلحاق الهزيمة النفسية بالقلوب الخيّرة الرفيقة السخية، التي تفضل التضحية وتقبُّل القدر المرسوم احتمالاً في أية لحظة على الرضوخ للفجرة. ففي هذا الأخدود الغزي الذي أقامه غُلاة الصهيونيين، ثمة نزال بين أناس يحملون الحق والحقيقة والقضية بين جوانحهم، ومخلوقات كريهة مجردة من الأحاسيس الإنسانية مستهزئة بحق الإنسان في الحياة والحرية، سلحتها أميركا والإمبرياليون وساعدوها على تصنيع السلاح وتسويقه، وعلى الاستحواذ على الرؤوس النووية دون مساءلة. لكن أهل الحق، استبسلوا فارتفعت نفوسهم وأرواحهم الى سَوية العز. لم يستذلهم حب البقاء وهم يعاينون الموت احتراقاً بأعينهم، ولم يتركوا لعدوهم المجنون سوى التلهي بمشهد الحريق!