مجلة القدس- تحقيق: غادة اسعد

يُطِلُ الفلسطيني، ابنُ المدينةِ التاريخية، على القُدسِ مِن أعلى نقطةِ في الوطن، فيرى غيابَ المدينةِ لحظةً بلحظة. أسوارٌ ومعالِم دينية إسلامية أو مسيحية، تحجِبُها المعابِدُ اليهودية والبناياتُ الجديدة، وشوارعٌ تغيَّرت معالِمُها، وملّ ساكنوها التجوُّلِ فيها، خِشية أن يأتي شبحٌ آخَر يلاحقهم.

في القدس لا يُسمعُ صوتُكَ إن كُنتَ عربيًا، وتُحرم مِن طفولتك إن كُنتَ ثائرًا على أهلٍ لك هُدم بيتهم، أو ساحةٍ استولى عليها مُستوطِن، هذه هي القُدس... طفولة جريحة جائعة للعب، ومعتقلون قاصرون، ومقدسات منتهكة، ومساجِد يتربَّصُ بِها الإرهابيون، تحت شعاراتٍ عنصريّة، تُسمّي نفسها "تدفيع الثمن" (تاج محير).

 

انتهاك حقوق المقدسيين

أكدّت مصادر حقوقية مقدسية أنّ المقدسيين تعرَّضوا في السنة الأخيرة لعمليات اعتقال، واعتداءات جسدية، وأخرى على الممتلكات، ومنع آلاف المواطنين من دخول الأقصى، إلى جانب توزيع إخطارات هدم على مئتي "بناية" دفعة واحدة في مخيم شعفاط، مقابل طرح عطاءات لبناء أكثر من 4500 وحدة استيطانية.

هذا وتواصلت عمليات الهدم من قِبَل طواقم بلدية الاحتلال والإدارة المدنية في كافة أحياء مدينة القدس خلال أشهر العام الماضي، كما أجبرَت البلدية العديد من أصحاب المنازل على هدم منازلها بيدهم، مهددة إياهم بالسجن وبفرض غرامات باهظة، إضافة إلى إجبارهم على دفع أُجرة الهدم.

من جهة أخرى تميّزت طرق وأساليب الاعتقالات خلال العام المنصرم، فأصبحت تتم من المنازل بعد مداهمتها في ساعات الفجر الأولى، أو بعد منتصف الليل، إضافةً إلى الاعتقالات الجماعية التي تُنفَّذ بعد قمع الفعاليات المختلفة بالمدينة، ومعظمها كانت تتم على أيدي وحدة المستعربين (أفراد شرطة متخفون)، حيث يقومون بالمشاركة في التظاهر والهتافات وإلقاء الحجارة، ثم يعتدون على الشبان بالضرب، ويتم اعتقالهم. وفوق ذلك، ينتهك الاحتلال "القوانين الإسرائيلية" نفسها باحتجازه الأطفال والفتية واعتقالهم في شرقي القدس حتى ساعات الفجر، والضغط عليهم عبر تقييد أيديهم، والتحقيق معهم دون وجود مرافق، بل ومن قِبَل محقّق غير مُختص بالتحقيق مع الأطفال، بذريعة كون ذلك "لمصلحة التحقيق".

 

اعتداءات المستوطنين

خلال العام الماضي نفَّذت الجماعات اليهودية المتطرفة بتوقيع من عصابة "تدفيع الثمن" اليهودية والمستوطنين عدة اعتداءات ضد المقدسات الإسلامية والمسيحية، إضافة إلى الاعتداء على السكان في منازلهم وأثناء عملهم بشوارع القدس الغربية، والشرقية، أو أثناء سيرهم أمام منازلهم.

أما أبرز الاعتداءات التي حصلت في القدس في الشهرين الأخيرين فكانت: الاعتداءات على الأماكن المسيحية المقدسية: كـ"رقاد السيدة العذراء"، و"الكنيسة البروتستانتية"، ودير رفات التابع "للبطريركية اللاتينية"، بخط شعارات عنصرية ضد النبي عيسى عليه السلام، وبتحطيم شواهد أكثر من 30 قبراً في المقبرة المسيحية البروتستانتية في منطقة مقام قبر النبي داود، والاعتداء على الكنيسة اللاتينية في سلوان جنوب المسجد الأقصى المبارك.

وإضافةً إلى ذلك قام الاحتلال الإسرائيلي بافتتاح جزء من نفق سلوان العميق، قرب العين الفوقا، وسط بلدة سلوان؛ وبناء فندق سياحي تهويدي عالمي "وولدورف اسطورية" على أنقاض بناية المجلس الإسلامي الأعلى الواقع غربي القدس؛ وإقرار مشروع بناء "مركز قيدم – الهيكل التوراتي"، لتشويه القدس بأسوارها التاريخية؛ ومحاولة تنفيذ مخطط تهويدي لتحويل طريق المغارة المؤدي للمسجد الأقصى المبارك إلى جسر عسكري ضخم؛ وحفر نفق جديد يبدأ من أسفل ساحة الراق باتجاه الغرب وباب الخليل في القدس المحتلة؛ وإلصاق نشرات عند مداخل أبواب الأقصى، للمطالبة بإخلاء منطقة "جبل الهيكل"؛ علاوةً على التضييقات والاعتقالات بحق المرابطين في المسجد الأقصى؛ ومضايقة المصلين، خاصة مَن هم دون سن الـ40 عامًا أثناء تأدية صلاة الجمعة في المسجد الأقصى، ولا سيما الفلسطينيين من أراضي الـ67، وإغلاق أبواب حطة، والناظر والسلسلة، ونصب السواتر والحواجز الحديدية على أبوابه، ومنع مَن هُم دون الخمسين عامًا من دخول المسجد؛ وتأدية المستوطنين لطقوسهم في قبر يوسف واقتحامهم بِرَك سليمان؛ والمصادقة على تمويل مشروع تهويدي بمبلغ 6 مليون شيقل، بهدف إقامة جسر معلَّق يربط ما بين تل أبي ثور ومنطقة وادي الربابة غرب جنوب البلدة القديمة بالقدس، وتحويل منطقة وادي الربابة إلى حديقة تلمودية ومسار توراتي، بغية تقطيع التواصل بين الأحياء الفلسطينية نفسها، وقطع تواصلها مع المسجد الأقصى، وتغيير الواقع الجغرافي والديمغرافي.

 

الثبات والكرامة عنوان المقدسيّ

في حديثٍ خاص لمجلة "القدس" مع مفتي القدس والديار المقدّسة فضيلة الشيخ عكرمة صبري أكدّ أنّ "جماعة "تدفيع الثمن" هي جماعة يهودية متطرفة، أصبحت تملك نفوذًا في الشارع الإسرائيلي، ولها تأثير أيضًا على البرلمان الإسرائيلي، وتهدُف من خلال نشاطاتها غير الشرعية، لفرض أعمال إرهابية من شأنها إخافة الفلسطينيين في كُلِ مكان، وإبعاد المؤمنين عن أماكن عبادتهم، وتشريد العرب الفلسطينيين من أراضيهم وبلادهم وبيوتهم، من خلال أفكارها التوسعية والانتقامية السوداوية، ضد كل مَن هو غير يهودي".

ويربط الشيخ عكرمة صبري بين إرهاب هذه الجماعات، وبين الحركات الصهيونية في الكنيست الإسرائيلي التي تُغذي وتقوي هذه الأعمال، وما يؤكِّد على ذلك – والكلام للشيخ عكرمة صبري-"رفض اعتبار هذه الأعمال إرهابية، وهذا ما أكَّده نواب الكنيست وبينهم رئيس حكومة الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، مستنكرًا مظاهر الاعتداء والتضييق على الفلسطينيين في كافة البقاع وخصوصًا ضد فئة الشباب، ومشيرًا إلى أن ما يجري في القدس هدفه بالأساس تهويد المدينة، وحرمان أبنائها الفلسطينيين من الحياة فيها.

ويرى الشيخ صبري أن السبيل الأنجع لمواجهة الاحتلال يكون عبر تكثيف عدد المسلمين في رحاب الأقصى، موضحًا "كلما زاد عدد الفلسطينيين في المكان، امتنعت الشرطة عن إدخال اليهود المتطرفين، خوفًا على حياتهم!"، وداعيًا إلى الثبات والتمسّك بحقوقنا والصمود على الأرض ضمن إمكاناتنا المتاحة.

 ويضيف الشيخ صبري "يتحمَّل العرب والمسلمون المسؤولية عما سيحصل في القدس، بسبب تخليهم وانشغالهم عن القدس، والنضال الفلسطيني فيها، لحساب مسائل لا تنفع وطنهم ولا قضاياهم، بالمقابل تُساهم الدول العربية بعدم مبالاتها في تعزيز مخططات العدوان، في ظل وجود فلسطيني، ليس له ظهر، لذا يتم استغلال العجز العربي والضعف الفلسطيني مقابل جبروت دولة".

 

العيش في القدس مشروع نضالي من الدرجة الأولى

أكَّد الأمين العام للتجمع الوطني المسيحي في الأراضي المقدسة، عضو المجلس الثوري لحركة "فتح" (بيت حنينا)، ديمتري دلياني، في حديث خاص معه، "أنَّنا أمام سياسات إحلالية، بمعنى أنها تحتل الأرض وتحُل محل صاحبها، وهي قاعدة فكرية للدولة العنصرية، وقد تنامى فيها اليمين المتطرف، بفضل الدعم السياسي الحكومي والإيمان بالفكر الأيديولوجي القائم على اغتصاب الأرض، هذا الفكر هو مَن ساهم في بروز عصابات "تدفيع الثمن"، وبازدياد التصريحات العنصرية والتحريضية لكل مَن يحلو له المسّ بالعربي الفلسطيني في الداخل، وهكذا أصبحت اللغة التحريضية هي عنوان الغطاء السياسي، المتمثّل برئيس الحكومة نتنياهو وأعضاء الكنيست الإسرائيليين، علاوةً على الدعم المادي والديني الذي تتلقاه العناصر الإرهابية، ووجود حاخامات يحملون الفكر المتطرِّف ويؤدلِجون العمليات الإرهابية، ويعزّزون الكراهية في نفوس طلابهم وأبنائهم، ويدعِّمونها بالغطاء القانوني من خلال منبر الكنيست".

ويستهجِن دلياني تواطؤ الأمن الإسرائيلي وعناصر الشاباك مع عصابات "تدفيع الثمن"، لافتًا إلى أن سلوك المؤسسة الحربية هذا يسهم في زرع العنصرية والكراهية ضد كل مَن هو غير يهودي الأمر الذي أدى لاعتداء هذه الجماعة على جيش الاحتلال في الفترة الأخيرة، ومشيرًا إلى أن "هذه الجماعات الإرهابية تستهدف الأماكن الدينية لأنها شواهد على صدق الرواية الوطنية الفلسطينية، ودليلٌ على أنّ إسرائيل دولة احتلال، وأنّ القدس عربية فلسطينية، إسلامية، مسيحية، لذا يُصرون على محو هذه الشواهِد الحيَّة".

أمَّا عن واقع الحياة في القدس، فقال دلياني: "هي نضالٌ مستمر، ومجرد البقاء في المدينة في طياته معانٍ كبيرة، فحينَ يُسأل مستأجِرٌ عربيٌ مقدسي عن سبب استئجاره لبيت ودفعه 1200دولار، رغم أنّ مدخوله لا يتجاوز الألفي دولار، يُجيبك ‘لأنني أريد البقاء في القدس’"، لافتًا إلى أنه على الرغم من سياسة إسرائيل الاحتلالية التي قامت في الأشهر الخمسة الأخيرة باعتقال 120 طفلاً مقدسيًا، ومارست العنف الجسدي والنفسي ضدهم وأبعدتهم عن منازلتهم، أو حكمتهم بالحبس المنزلي، فإن هذه السياسة لم تنل من إرادتهم وإرادة عائلاتهم ولم تمنعهم من البقاء والصمود.

وأردف "من مظاهر المعاناة كذلك، التضييق الاقتصادي الخانق، والحصار النفسي والجسدي والفاصِلُ المفروضُ والملاحقات غير المبرَّرة، والتقصير الصحي وحرمان نحو 60 ألف طفلٍ مقدسي من الدراسة، بسبب افتقار المدارس لنحو 1500 غرفة صفيّة، علاوة على سحب الهويات وتقطيع الأوصال، والرسائل المبطّنة في الحرمان من لمِّ الشمل، والغرامات والضرائب والأسعار على المحال التجارية، وفرضها على العاملين في الضفة الغربية، وتدفيعهم المبالغ الـمُضاعَفة، وكأنهم يحيَوْنَ بمستوىً عالٍ كما لو كانوا إسرائيليين".

أما الحل كما يراه دلياني، فيكون من خلال عدد من الخطوات. أولها، اعتماد حلٍ سياسي "في ظل أمةٍ عربية وإسلامية مهترئة"، على حد وصفه. ثانيًا، تعزيز المقاومة الشعبية السلمية، التي تخدم العمل السياسي. ثالثًا، استغلال الثغرات القانونية، لتحصيل بعض الحقوق الفلسطينية. رابعًا، تفعيل المحور الدبلوماسي الشعبي الـمُستنِد إلى حركة المقاطعة التي نجحت فلسطينيًا وعالميًا. خامسًا، ربط العمل السياسي بالميداني، أي المجتمع المدني الذي يتحمَّل مسؤولية رفع تقارير للمؤسسات الفلسطينية والعالمية، مِن أجلِ دعم وتأكيد هوية المقدسيين.

 

نتنياهو يشجِّع الإرهاب

يرى المحامي عمر خمايسي من مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان، في الداخل الفلسطيني أن "رفض رئيس الحكومة الإسرائيلي نتنياهو الأخذ بتوصيات وزيرة القضاء تسيبي لفني، ووزير الأمن الداخلي يتسحاق اهرونوفيتش، وجهاز الأمن العام "الشاباك"، لجهة تصنيف عصابات "تدفيع الثمن" تنظيمًا إرهابيًا، بمنزلة الـمُشجِّع والداعم لهذه العصابات لممارسة المزيد من الأعمال الإرهابية، في الوقت الذي تغلق فيه المؤسسة الإسرائيلية عشرات المؤسسات الإنسانية الفلسطينية العاملة في مجال الإغاثة والخدمات الإنسانية باعتبارها منظمات إرهابية. وقد بات من الواضح أن ما يهم رئيس الحكومة هو كيف ستنظر إليه الأسرة الدولية، على اعتبار أنه يجب المحافظة قدر المستطاع على ماء وجهها الذي بقي".