بقلم: صقر أبو فخر

في الكلام العربي المأثور أن "ابن النجيب لا يَنْجِبُ، فإن نَجُبَ فاق والده"، أي ان أبناء العباقرة والمبدعين هم، على الأغلب، أقل إبداعاً من آبائهم، فإذا أبدعوا، وهذا قليل، فاقوا آباءهم في ابداعهم. وتنطبق هذه النتيجة على جميع ضروب المعرفة والسياسة والفنون والآداب. فأبناء جمال عبد الناصر، قياساً على والدهم، نقطة في بحر. وأين أبناء نزار قباني وعمر أبو ريشة وأدونيس ومحمد مهدي الجواهري ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب من آبائهم؟ غير أن فلسطين شهدت عبقريتين متصلتين مباشرة: واحدة في الأدب والثانية في المصارف، وهما خليل بيدس وابنه يوسف بيدس.

ثمة روايات شفهية متناقضة عن أصل عائلة "بيدس" إحداها تزعم أن والد خليل بيدس يدعى غريغوري بيداس وهو روسي الأصل، وجاء إلى فلسطين من بطرسبورغ حاجّاً إلى بيت لحم على  قدميه، وعاش في أحد أديرة الناصرة، ثم تزوج امرأة من آل يمين ذات الأصول اللبنانية والتي كانت عائلتها تقيم في الناصرة. ومن هذا الزواج جاء خليل بيدس. وفي رواية أخرى أن كلمة "بيدس" يونانية الأصل وتعني الشجاع أو الشديد. وخليل بيدس هذا تزوج امرأة لبنانية هي أديل أبو الروس فأنجبت له أولاداً عدة بينهم يوسف مؤسس أهم بنك في لبنان في ستينيات القرن العشرين.

هذه الرواية متهافتة ويعوزها البرهان المنطقي في غياب الوثائق القاطعة، لأن هناك أيضاً عائلة بيدس المسلمة من قرية الشيخ مونس القريبة من يافا، وهي عائلة عربية خالصة. ثم أن يوسف بيدس هو ابن أديل أبو الروس، وكان يُلقب في صغره بـِ "ابن أبو الروس"، وربما اختلطت هذه العبارة على الناس لتجعل له أصلاً روسياً. وأبعد من ذلك، فإن خليل بيدس ترجم روايات وقصصاً روسية، ودرس لدى المسكوب في الناصرة، ولهذا كله شاعت حكاية الأصل الروسي له.

مهما يكن الأمر، فإن الراجح هو أن عائلة بيدس النصراوية تنتمي إلى عشيرة الخليفاوية، ومنها المخرج الفلسطيني المعروف ميشال خليفي، وهي جاءت إلى فلسطين في أواسط القرن السابع عشر، من منطقة حوران الممتدة من جنوب سوريا إلى جبال عجلون، فهي عربية غسانية خالصة. وولد خليل بيدس، كما هو معروف، في سنة 1875 في الناصرة، ودرس في المدرسة الروسية (المسكوب)، ومارس التعليم في حمص وسوق الغرب وبسكنتا وجديدة مرجعيون وراشيا. وفي بسكنتا تعرف إلى أديل أبو الروس فتزوجها وعاد بها إلى فلسطين، وأقام في حي البقعة الفوقا في القدس. وفي القدس أسس مجلة "النفائس العصرية" وكتب رواية "الوارث"، وشارك في النضال الوطني، وسجن. واضطر الى مغادرة القدس في سنة 1948 جراء الاحتلال الاسرائيلي، فلجأ إلى لبنان، ولم يلبث أن توفي قهراً في سنة 1949 في بيروت، بعدما فقد وطنه وبيته ومكتبته.

ترك خليل بيدس وراءه إرثاً كبيرة من الكتب المترجمة والقصص ورواية "الوارث" التي تعد أول رواية فلسطينية، وأنجب فوق ذلك عبقرية مالية فذة هي ابنه يوسف بيدس الذي عاش تجربة تراجيدية في عالم المصارف والأعمال.

عاش يوسف بيدس حياة قصيرة في حساب السنين، فقد ولد في 12/12/1912، واندلعت الأزمة المصرفية في بنك انترا في 10/10/1966، ومات بعد 777 يوماً من إفلاس مصرفه. وهذه الارقام ستروق كثيراً المنجمين وضاربي الوَدَع، لكنها تختصر حياة حافلة بالمغامرة والابداع وارتياد الصعاب. فهذا الشخص الذي فقد وطنه وصار لاجئاً في بيروت، تملكته روح المُهاجِر، فأسس مع نفر من أصدقائه شركة بسيطة للصيرفة برأسمال قدره أربعة آلاف دولار. ولم تلبث هذه الشركة أن تحولت على يديه إلى "بنك انترا" في سنة 1951 الذي صار خلال سنوات قليلة أكبر بنك في لبنان، وامتدت استثماراته إلى فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان، واتسعت فروع البنك حتى بلغت أربعين فرعاً الامر الذي جعل هذا البنك امبراطورية مالية امتلكت، على سبيل المثال، شركة مرفأ بيروت وراديو أوريان وفندق فينيسيا وشركة التلفزيون اللبنانية وحوض لاسيوتا لبناء السفن في فرنسا وغير ذلك من الاستثمارات المهمة مثل شركة طيران الشرق الأوسط، ووصل عدد الموظفين في البنك وفروعه وشركاته الشقيقة إلى نحو ثلاثين ألف موظف.

المعروف، ولو في نطاق ضيّق، أن أول من تبرع لحركة فتح بمبلغ يفوق العشرة آلاف ليرة كان يوسف بيدس. وقصة يوسف بيدس وبنك انترا، في صعوده وسقوطه، هي قصة النجاح الفلسطيني في لبنان في مواجهة الجشع السياسي والمركنتلي للطبقة الحاكمة. وكان لانحطاط العائلات المالية والسياسة في لبنان شأن كبير في تحطيم رجل نادر ومؤسسة كبرى واقتصاد كان يحبو نحو الازدهار. وكان يوسف بيدس يدير 60% من الأعمال في لبنان قبيل إفلاسه، وخاض غيلان المال في لبنان بالتواطؤ مع مؤسسات مصرفية أميركية (دانيال لودفيغ وديفيد روكفلر) معركة شرسة ضده، وتمكنوا في نهاية المطاف من إفلاسه. وفي 1/12/1968 مات يوسف بيدس مقهوراً شريداً في سويسرا بلا وطن يحميه بعدما فَقَد وطنين: فلسطين ولبنان.