بقلم:محمد سعيــد

لم يعد هناك ما يُفرح، لم نعد قادرين على سماع الانباء المفترسة، ورؤية الوجوه التي تكاد تنطفئ. كل شيء يرحل مثل هذه الطيور التي تغيب دون أن تعود، لم يبق شيء نأمل به.

لم يبق شيء منّا، تعثّرت الكلمات وضاعت الأفكار في زمن الانهيار.

تنشأ الأوطان في النفوس وتموت مع الجسد، فأي الأوطان نريد؟

لم يبق للحياة أثر في المخيمات المنهارة، ولا المخيمات التي ستنهار!

أين طريق العودة؟ أين الحلم الذي كنا نربّيه في جمر الحقائب؟

اليرموك، بحر الألم المغيب الذي سلك طريق الشهادة.

اليرموك الذي فقد عيونه وقلبه وروحه، مَنْ يعيد اليه حياته؟ هراء ما سيقوله الآخرون!     هراء مَنْ سيبني بالكذب سلالم الصعود.

أصغي الى اليرموك، أجرح بالسكين دمي كل صباح لأراه حول المخيم كوردة صغيرة بدأت بالذبول على المناديل السوداء.

اليرموك، هناك حيث لا حياة ولا شمس.

اليرموك، المتصدع، المنهار، الجائع، القطط التي تموء تحت طاولات مكسّرة.

اليرموك، فراغ مخيف مدّ يده الى أيّ أحد في هذا العالم فلم ينصره أحد؟!

اليرموك، ما قبل الموت وبعده. يناديكم في البرد، يناديكم في الجوع، يناديكم في الغضب. ينادي أين حقي؟ أين حياتي؟ أين مشاعري؟ أين أطفالي؟ أين أهلي؟ أين أحلامي؟ أين طعامي؟ أين وأين وأين؟

اليرموك، يكتب بقلم باهت، بقلم روحه، بأظافره، بخطى دربه الطويل، كأي سرب لا يتبع سواه. الى المجهول دوماً، الى الغبار، كأن الأرض لا تستقرّ إلا على صدأ أكتافه!

اليرموك، غيمة المعزين فوق الخرائب.

اليرموك، غدت روحه نتفاً بين أيدي الأنذال.

يقتلونه باسم الحرية والأخلاق، وباسم الضمير، وباسم الحياة.

 يرفعونه فوق التوابيت ليصطدم بغيوم الجبال.

يرمونه بأحجار المدافع الغامقة على وجهه الذي شاب. يقول كفى يا كلاب! كفى با بجم! كفى يا أوغاد...

ونخطئ في السكوت، ونخطئ في الكلام، ونخطئ في النوم، ونخطئ في القرار، ونخطئ في الحياة، ونضع في جيوبه السرية حماقات الموت، وحقوق اللاجئين، ونبحث عن وطن ضاع، ولجوء أسود، ودول تمنح الجنسية لمن هرب من العقارب التي خرجت من غرفة القاتل لتلدغ حزنه، وجرحه، وجوعه، وقهره. ولكنه في قفص يا حزني عليه! ويا وجعي بما أصابه! في أي فسطاط رموه؟

لم تتسع له نصوص أرسطوطاليس ولم تحفظه سجاجيد الجوامع. القصة طويلة والمسافات تعبر من حديقة الحارس الى شاشات التلفزيون، والناس تبصق على العشب، وهناك من يأكله ويلعن الحرب والساعة التي ولد فيها، ويندم على العمر الذي قضاه في تشييد المنزل وترتيب أحلامه ورشها بالكولنيا.

اليرموك، نصفه في البحر ونصفه في الحرب.

اليرموك، بعض الضوء شق سكون الليل في وطن مضى سريعاً في العنف، والناس جوعى يتجنبون الموت من أجل الحياة في وطن آمن.