قضية فلسطين لم تسلك مسارًا واحدًا لإنهاء الاستيطان الصهيوني وتعريَّته أمام العالم بأكمله، إنمَّا عاش الفلسطيني جميع الظروف الصعبة التي جسَّدتها المقاومة بحَرفه وفنَّه ونضاله الثوري والفكري وبندقيته.

ادَّخر الفلسطينيُّ المقاومةَ في روحه وفكره ثم ورَّثها لأبنائه، فكبارنا قد ماتوا لكن صغارنا لم ولن ينسوا، وما زال الفلسطيني يقدِّم روحه وما امتلك للحفاظ على هذه الأرض ومعالم الهويَّة.

إنَّ مفهوم المقاومة وسُبل العيش بالكرامة والمضيِّ قُدمًا حتى التَّحرير الذي هو آتٍ لا محالة بإذن الله.. يتطلَّب منَّا ويستوجب علينا أن نتمسَّك بتراثنا وهويتنا وعاداتنا وتقاليدنا، فهم يعكسون الصورة الحقيقية والتراث الأصيل والوطن الذي لا يشبه أي وطن آخر.

وقد قالها الشهيد القائد "ياسر عرفات": "عظمة هذه الثورة أنَّها ليست بندقية، فلو كانت بندقية فقط لكانت قاطعة طريق، ولكنها نَظم شاعر وريشة فنَّان وقلم كاتب ومِبضع جرَّاح وإبرةٌ لفتاة تخيط قميص فدائيِّيها وزوجها".

وهنا تظهر ثقافة المقاوِم الفلسطيني المتنوِّعة والتي تخدم قضيَّته العادلة والإنسانية، وتحقِّق أهدافًا على امتداد هذا الكون، ومقالنا اليوم مُصوَّب نحو الفن التشكيلي الفلسطيني ودوره العظيم والمؤثر في التوعية وحفظ الحقوق والتَّعبير عنهما للتواصل وإيجاد آلية لمخاطبة الأجيال والمشاعر التي يمكنها أن تأخذ حيِّزا إنسانيَّا ووطنيًّا حين مرورك على لوحة هنا أو نحتٍ هناك.

لا بدَّ من ذِكر بعض الأسماء الذين كان وما زال لهم أثرٌ واضحٌ ورسالة قيِّمة، فحواها محدَّدٌ، ومسارها فلسطين، فيمكن للفنِّ أن يساعد في تضميد جروح انتهاكات العدو عبر نقل صور الاعتداءات، ويمكنه أيضًا إيصال رسالة مختلفة عن طريقة ومنهج الخطابات السياسية التي يمكنها أن تتلاشى كلماتُها بمجرد النُّزول عن المنصَّة أو إغلاق المذياع أو التلفاز.

إنَّ حُروف الفلسطيني مرتبطة على مدى عقود بوجعه وجرحه، كذلك الفنُّ الفلسطيني أخذ مسارًا ثوريًّا متعدِّد الأشكال والأساليب، لكن الرؤية الفنيَّة تغيرت مع الوقت، وتحوَّلت من الخيمة التي قُهِر وشرِّد إليها الفلسطيني منذ عام نكبة 1948، إلى أوجه مقاومةٍ تبيِّن الصراع بين صاحب الحق والمعتدي الأثيم.. لذلك نرى أنَّ الفنانين الفلسطينيين اختلفت طُرق طرحهم للتُّراث والموروث واللُّجوء والنُّزوح.

ولعلَّ المتأمِّل في تاريخ الفنّ التَّشكيلي الحديث في فلسطين يرى مراحل مختلفة ومناهج تعبيريَّة متعدِّدة، الأولى هي مرحلة ما بعد النكبة، أمَّا المرحلة الثانية فهي مرحلة الثورة وانطلاق المنظمات الفلسطينية الفدائيَّة حيث تصور المرحلتين التي عاشها اللاَّجئ والنَّازح الفلسطيني، ومن ثم المقاوم الفلسطيني المطرود من أرضه والمطالب وحقوقه لانتزاعها بالقوة والثقافة والعلم.

وهنا وقفة مع مجموعة من أعلام الفن الفلسطيني المعاصر للنكبة والمقاومة، على سبيل المثال: "إسماعيل شموط" (1930 - 2006) وهو أحد أبرز روَّاد الفن التَّشكيلي الفلسطيني. رسم "شموط" مشاهد اللُّجوء، التَّشرد، والخيمة التي حوت الكثير من الأحداث والقهر.. جسَّدت لوحاته نماذج عن طبيعة الحياة الأولى للاَّجئين الفلسطينيين، ولم يختف هذا الهمُّ من قلوب الذين لحقوا بهم رغم التخلُّص من الخيمة والتَّأقلم بالحياة المفروضة حتى يصبح العيش ضرورة والنضال رسالة والعودة إيمان. وبعد انطلاق الكفاح المسلّح، اتَّخذت لوحاتُه طريقًا آخرًا عكس قوة الفلسطيني وتصميمه على استرجاع حقه من الغاصِب المستوطِن.. نرى في أسلوب الفنان "شموط" أنَّ الفن ليس إلاَّ انعكاسًا للواقع، ويكون أيضًا ضمير ووجدان الفلسطيني الحامل لقضيته، الذي يخاطب شعوب العالم بحكايا المأساة والتَّهجير والمقاومة.

ونذكر الفنَّان مصطفى الحلاج (1938 – 2002) الذي مارس مبكِّرًا فنَّ الغرافيك "وهو نوعٌ من أنواع الفن الذي يعبَّر عنه بصورة مرئيَّةٍ، مثل: الرسم، والتصوير الفوتوغرافي، والطباعة، وهو الشكل التقليدي من الفنون الجميلة، وعادةً ما يُطبّق هذا النوع من الفنون على الأسطح المستوية". وكذلك مارس "الحلاج" الرَّسمَ والتَّصوير والطباعة، واهتمّ بقراءة الجذور الكنعانية والمصرية في رسوماته الغرافيكيَّة، وابتكر خطوطه وحفريَّاته الخاصّة به.

أمَّا الفنَّان "سليمان منصور" وهو من (مواليد بيرزيت، رام الله، عام 1947) فقد درس الفن في كلية الفنون الجميلة في "القدس" بين عامي 1968 و1971. اقتحمت سلطات الاحتلال منزلَه مرَّات عديدة وأتلفت لوحاته. ووُضع تحت الإقامة الجبريَّة، كما تمّ الزجُّ به في سجون الاحتلال، وهنا يظهر لنا جليًّا مدى تأثير الفن على العالم سواء البسطاء أو المثقفين، وخوف المحتلّ من هذا النوع من الفنون، وتصميمه على ممارسة العنف اتّجاه ممارسته. لأنه فنًّ يُعرّي حقيقة الاحتلال الصهيوني أمام الرأي العام العربي والعالمي، لا سيما أنَّ القدس والضفة الغربية تحديدًا هما مزارٌ للعديد من الأجانب الذين يستطيعون نقل الصورة الحقيقية لطبيعة هذا الاحتلال المُغتصب للأرض والهويَّة.

وهناك العديد من الجداريَّات والرُّسومات التي أثَّرت في الرأي العام العالمي.. خطَّها فلسطينيون وأجانب أيضًّا، فمثلاً، على امتداد الجدار "الإسرائيلي" العازل من شمال الضفة الغربية وحتى جنوبها، خطّت ريشات عدد من الفنَّانين، لوحات فنيَّة تعبِّر عن مأساة الشعب الفلسطيني وتظهر الوجه القبيح للاحتلال.. ومن تلك الرُّسومات على الجدار، ما خطَّته ريشة الفنان البريطاني "روبرت بانكسي" الذي رسم أطفالاً يُحدِثون فجوةً في الجدار العازل وكأنَّه يبشِّر بتدميره، ورسم سلَّمًا على الجدار وكأنَّه يدعو الفلسطينيين إلى تسلُّقه، كما رسم فتاة فلسطينية جميلة تخرج من عينيها حماماتُ السَّلام، وفتاة أخرى توقِف جنديًّا "إسرائيليًّا" على الحائط وتقوم بتفتيشه.

وهناك فنانا آخر، فرنسي الجنسية، يُدعى "ماركو"، تبنَّى مشروعًا سمًاه (وجها لوجه)، واستندت فكرته إلى إلصاق صورٍ ضخمة غير عادية على مقاطع من الجدار الفاصل في الجانبين الفلسطيني و"الإسرائيلي". وهذا الفن الذي امتلأ به الجدار العازل لم يعكس مأساة الفلسطيني فقط، إنَّما أيضا يُظهر تضامن بعض الفنَّانين الأجانب وإيمانهم بالقضيَّة الفلسطينيَّة العادلة والإنسانية.

ونذكر أيضًا، "سليمان منصور" صاحب اللَّوحة المشهورة "جمل المحامل" التي رسمها في بداية السبعينيات من القرن الفائت، وهي "تمثل عجوزًا فلسطينيًّا يحمل القدس على ظهره مربوطةً بحبل". و"عبد الحي مسلّم زرّارة" (1933 - 2020)، وهو فنَّان ينتسب إلى مجال الفن الشعبي، أو الفن البكر، الذي يعتمد على الفلكلور والتقاليد الشعبية، حيث يستخدم خلطة من نشارة الخشب والغِراء التي يُشكل بها المشهد، ثم يقوم بتلوينه، وقد تناولت لوحاتُه التراث الشعبي والنضالَ الفلسطيني، وأكّدت عبر لغتها الفنيَّة الخاصة على عالم اللّجوء وحقّ العودة وأحقيَّة الكفاح الوطني.

وكما أنَّ الاحتلال الصهيوني انتزع آخر نفس في الحياة للفنان التشكيلي "فتحي غبن" (1946-2024) الذي استشهد في غزَّة هاشم في مستشفى شهداء الأقصى الحكومي، حيث كان يعاني من مشاكل حادة في الصَّدر والرئتين، كان بحاجة للسفر إلى الخارج لاستكمال علاجه بسبب نقص الأدوية والأوكسجين في غزَّة، إلاَّ أنَّ سلطات الاحتلال لم تسمح له بمغادرة القطاع، لكنها لن تستطيع أن تمنع رسوماته وفنَّه المنتشر والمسِّجد لمعاناة الفلسطيني. احترف "فتحي غبن" الفنَّ منذ 1965، وشكَّل التَّماثيل من الطين الملوَّن، ورسم بقلم الفحم أو الرَّصاص، ويسمّيه البعض (فان غوخ غزة).

الصَّهاينة يغتالون الرِّيشة والصَّوت والكلمة لأنَّها توجعهم وتُظهر حقيقتهم، وتُعرّي استبدادهم وتجبُّرهم، وتفضح أمراضهم النَّفسيَّة والفكريَّة، وتكشف نظرتهم الاستعلائيَّة عن غيرهم، وتُفنِّد أوهامهم ما يزعمون بأنَّه حقهم في امتلاك الأرض وما عليها.

الفنُّ كما الشِّعر، خاصة إن كان بنكهة فلسطينية، يوصل الرسالةَ ويؤدِّي الأمانة على أكمل وجه، فالله سبحانه وتعالى اصطفانا نحن الفلسطينيون لنحارب ونواجه أقذر محتلٍّ، ولن يُهزم الفلسطيني، ولن تفتُر عزيمته لإيصال صوته إلى العالم بأكمله.

لكن هذا الفنّ، كما كل شيء آخر، يحتاج إلى الدَّعم المعنوي، والضّمير الحيِّ الحر الذي يعمل على نشره وتوثيقه، حتى يخاطب ضمير العالم. وأقولها بلسان كل فلسطيني في أرض الرِّباط وفي اللُّجوء والمهاجر: فنحن هنا، وهنا باقون، ونحن هنا، وإليها حتمًا راجعون.