بعد 17 يومًا من قبول استقالة حكومة د. محمد اشتية سلم سيادة الرئيس محمود عباس كتاب تكليف د. محمد مصطفى تشكيل حكومة الكفاءات/التكنوقراط حاملة الرقم 19 في تسلسل الحكومات الفلسطينية من تأسيس السلطة الوطنية في العام 1994. وأجزم أن الحكومة القادمة برئاسة مصطفى ستكون الأكثر تعقيدًا، لأنها تواجه تحديات غير مسبوقة، وتتجاوز في ثقل المهام الملقاة على الحكومة الأولى لأكثر من عامل: أولاً عمليات التدمير الهائلة في قطاع غزة للوحدات السكنية والمدارس والجامعات والمعاهد والمراكز الثقافية والمتاحف وإخراج عشرات المستشفيات والمركز الصحية عن الخدمة والمئات من المساجد والكنائس والبنى التحتية من طرق وصرف صحي وكهرباء ومياه واتصالات؛ ثانيًا حجم النزوح من الشمال إلى الجنوب الذي بلغ نحو 1.7 مليون إنسان، وتجاوز نسبة النزوح عام نكبة 1948؛ ثالثًا الخراب الكامل للمؤسسات والمصانع والورش الاقتصادية في قطاع غزة؛ رابعًا بسبب الانتشار الواسع للأمراض المعدية والمزمنة والنفسية والأوبئة ومخلفات حرب الإبادة الجماعية من اليورانيوم الطبيعي والمنضب وغيرها من المواد المتفجرة والسامة التي أثرت على الهواء والماء والتربة والزراعة؛ خامسًا الارتفاع الكبير لعدد الشهداء والجرحى والمفقودين والأرامل والعائلات المنكوبة من كارثة وويلات الحرب؛ سادسًا إعادة تجسير العلاقات بين جناحي الوطن والمؤسسات والوزارات والأجهزة الأمنية، وغيرها من الملفات التعليمية والاجتماعية والثقافية.

وعلى صعيد الضفة الفلسطينية هناك العديد من الملفات أولاً القدس العاصمة والتحديات الموجودة فيها بدءًا من الحوض المقدس عمومًا والمسجد الأقصى خصوصًا، وعمليات التطهير العرقي ضد أبناء الشعب الفلسطيني، والسيطرة على العقارات والمباني والمقابر ومصادرة الأراضي وإعلان العطاءات لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية والاستيلاء الإسرائيلي الرسمي بالتعاون مع المنظمات الاستيطانية على كل ملمح فلسطيني عربي أو إسلامي أو مسيحي في القدس العاصمة، واستهدافها للمؤسسات التربوية والثقافية الفنية والاقتصادية والتجارية وفرض الضرائب؛ ثانيًا فصل العاصمة القدس عن باقي محافظات الضفة، وتقطيع أوصال الطرق ومواصلة عمليات النهب للأراضي وإقامة البؤر الاستيطانية في مختلف المحافظات، واتساع وزيادة عمليات الاقتحامات والاجتياحات للمدن والقرى والمخيمات وارتفاع وتيرة عمليات القتل والاعتقال واستهداف مصالح المواطنين، بالتلازم مع توسيع عمليات الهدم والمصادرة لأراضي المجمعات الفلسطينية في الاغوار الشمالية والجنوبية، التي بلغت حتى الآن قرابة ال20 مجمعًا بدويًا؛ ثالثًا الحصار الاقتصادي الشديد، ومنع العمال من العمل في السوق الإسرائيلي، وهو ما يضاعف من حجم البطالة الفلسطينية، وكذلك هناك حرب المقاصة على أموال السلطة الوطنية بذرائع شتى؛ وغيرها من المشاريع والمخططات الصهيونية الاجرامية المنفلتة في محافظات الشمال.

كم هائل من المشكلات المعقدة والصعبة والخطيرة تواجه الحكومة القادمة، والتي تضمنها كتاب التكليف للدكتور مصطفى، منها: إدخال المساعدات الإنسانية وإغاثة أبناء الشعب المنكوب؛ ملف إعادة الاعمار الذي يحتاج لعشرات السنوات؛ ملف إعادة بناء الاقتصاد ونقله من مرحلة الترميم إلى مرحلة التنمية المستدامة؛ ملف ترميم الجسور بين مؤسسات جناحي الوطن؛ الإصلاح والتطوير لمؤسسات الدولة؛ محاربة مظاهر الفساد والفلتان والفوضى، وإعادة الاعتبار لمكانة المؤسسات الرسمية وخاصة دور الأجهزة الأمنية؛ ملف الرواتب والمقاصة وغيرها من الملفات.
إذاً ستكون الحكومة القادمة في أتون معارك ضارية من التحديات والصعاب غير المسبوقة، ومع ذلك واجه رئيس الوزراء المكلف وقبل استلام كتاب التكليف حملة غير إيجابية من نخب وقوى ومنافسين ورافضين لشخصه من حيث المبدأ، وقبل ان يعطوا الرجل على الأقل فرصة ال100 يوم، التي تمنح عادة لأي رئيس او رئيس حكومة ليتعرفوا على خيره من عدمه، وكيفية ادارته للأمور حتى يحاكموه على أساس النتائج. لكن أبناء الشعب عموما والنخب والقوى السياسية خصوصًا يميلون لإعطاء احكام مسبقة الصنع وجاهزة دون تريث وقبل الاستناد لتقييم موضوعي بعيد عن الشخصنة والدوافع الذاتية الهادفة لعكس احباطها وعدم يقين أصحابها من إمكانية وجود انسان بغض النظر عن جنسه من تحمل المسؤولية وتحقيق إنجازات نسبية، ولا نقول إنجازات كبيرة. لأننا تحت بسطار الاستعمار الإسرائيلي وقيوده وسيطرته على الأرض والاقتصاد والمال والهواء وحروبه الدامية، وبالتالي مطلق انجاز ان حدث سيكون نسبي.

انطلاقًا مما تقدم، أدعو الجميع للتمهل قليلاً قبل الحكم على د. محمد مصطفى وحكومته المرتقبة، ومنحه الفرصة للقيام بتنفيذ بعض المهام الملقاة على عاتقهم، وأيضًا لنرى من هم مكونات حكومته الجديدة، الذين قبل ان اعرف أسماءهم وشخوصهم أرجو لهم النجاح والإبداع في تمثل دورهم كمقاتلين وفدائيين من طراز جديد غير معهود في الوزارات السابقة. لأنهم إن لم يكونوا فدائيين وتنقصهم الكاريزما والخبرة والكفاءة، فلن ينجحوا، ولن يحققوا الحد الأدنى، فآمل أن يكونوا كما أتمنى لهم، ويتمنى لهم كل الحريصين الايجابيين على النجاح من أبناء الوطن الغيورين على المصالح العليا للشعب.