حمل الشاب يحيى كراجة (26 عاما)، قنينة بلاستيكية، وتوجه بها إلى محطة بيع الوقود قرب شاطئ بحر غزة، اشترى لترا ونصف من "البنزين" ابتعد قليلا عن المحطة، سكب البنزين على نفسه وأضرم النار، ورفع يديه إلى السماء يصرخ قهرا، لأنه بلا مأوى وبلا عمل ولم يلتفت أي من المسؤولين في غزة إليه، وفقا لرواية أخيه "عبود" (29 عاما).

هرع مواطنون إلى كراجة ليسعفوه، ونقلوه إلى المستشفى لتلقي العلاج، بعد زهاء 18 يوما، في السابع من تشرين الثاني الجاري، لفظ كراجة أنفاسه الأخيرة.

فاق يحيى من غيبوبته قليلا وقال لأخيه "عبود" إنه يشتهي السمك، أحضر له سمكا، وتناول قليلا منه قبل أن يسأله عبود، بماذا تشعر؟ ليجيب: "أشعر بالله والملائكة"، وفقا لمقطع فيديو يتداوله نشطاء على صفحات "الفيسبوك" تحدث فيه عبود عن وفاة أخيه الذي توفي "مقهورا".

في مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يقول كراجة، قبل وفاته، إنه لم يلق آذانا صاغية بعدما تم الاستيلاء على بيتهم في خلاف عائلي، وبات ينام في الشوارع مع أخيه عبود.

وكشف أنه توجه لمنزل إسماعيل هنية (رئيس المكتب السيايس لحركة "حماس")، طالبا المساعدة إلا أنه طرد من هناك.

وفي حالة "صحوة الموت"، قال يحيى في مقطع فيديو مصور "أنا ما انتحرت، انا انفجرت... حسبي الله ونعم الوكيل."

يحيى ليس الحالة الوحيدة التي تكشف القهر الذي يعيشه المواطنون في قطاع غزة.

في حزيران/يونيو 2018 حاول الشاب (أحمد ...)، من مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، الانتحار حرقا بسبب ضيق العيش، لكنه في اللحظات الأخيرة نجا من الموت لأن مواطنين أسعفوه باكرا.

قرب تجمع لمادرس الأونروا في منطقة الفاخورة في المخيم يعرض أحمد وهو والد لستة أطفال، ألعابا بلاستيكية وبعض الحلويات لتلاميذ المدارس، لاحقته أجهزة "حماس" وصادرت بسطته، فما كان منه إلا أن سكب وقودا على نفسه وأشعل النار.

"كانت البسطة مصدر رزقي الوحيد، كل يوم يلاحقونني ويمنعوني من البيع، أقطن فوق سطح منزل في غرفتين صغيرتين، لا فرصة عمل أخرى ولن أتنازل عنها" قال أحمد لـ"وفا".

رسميا لا تتوفر احصائية دقيقة بحالات الانتحار أو محولات الانتحار في غزة، لأن "حماس" تفرض قيودا صارمة على المستشفيات لمنع تسريب أي معلومة حول محاولات الانتحار أو الأحداث التي تكشف قصورها تجاه المواطنين مثل الأخطاء الطبية وغير ذلك.

لكن المحامي يحيى محارب، من مركز الميزان لحقوق الانسان في غزة، أشار في تصريح صحفي إلى ارتفاع في حالات الانتحار مقارنة مع السنوات المنصرمة، حيث سُجلت 9 حالات خلال العام الجاري.

ففي أيلول/سبتمبر الماضي 2019 انتحر الشاب خليل السكسك (27 عاما) من مدينة رفح، شنقا.

وقال والده إنه كان متزوجا ومر بظروف سيئة مالية وصحية جيدة قبل أن يتدهور الوضع الاقتصادي في غزة وتتراكم عليه الديون ما أدى إلى تدهور وضعه المعيشي ودخوله في حالة نفسية صعبة.

ويشهد قطاع غزة تدهورا تدريجيا في الوضع الاقتصادي منذ انقلاب حماس العسكر وسيطرتها على القطاع بالقوة وسيطرتها على كل مناحي الحياة الاقتصادية والأمنية والتعليمية والقضائية وغيرها صيف 2007.

وشهد عام 2018، نحو 8 محاولات انتحار في شهر واحد آذار/مارس. ويحاول الشبان في غزة الهروب من أوضاعهم الصعبة عبر محاولات الانتحار أو الهجرة خارج قطاع غزة.

وتوفي عدد من الشباب خلال محاولة وصولهم لأوروبا، منهم الدكتور الصيدلي تامر السلطان من جباليا، الذي تعرض للتعذيب في سجون "حماس" فأغلق صيدليته وقرر ترك غزة وتوفي في البوسنة في أغسطس من هذا العام. وبعده بشهر اُعلن عن وفاة صالح حمد من بلدة بيت حانون شمال غزة، خلال محاولته اجتياز الحدود اليونانية لأوروبا.

وهاجرت آلاف الأسر من قطاع غزة إلى مختلف دول العالم هربا من تدهور الأوضاع الاقتصادية وقمع "حماس"، التي ترفض الكشف عن عدد العائلات التي هربت.

وتقمع ميليشا "حماس" المسلحة أي محاولة للاحتجاج على تدهور الوضع المعيشي، ولم يكن آخرها حراك "بدنا نعيش"، في آذار/مارس الماضي، الذي نظمه شبان مستقلون طالبوا بفرص عمل وتحسين الوضع المعيشي في القطاع محملين حماس المسؤولية عن تدهور كل مناحي الحياة.

وأصيب مئات الرجال والنساء والأطفال بجروح وتهشيم عظام جراء تعرضهم للضرب من قبل "ميليشيا" حماس في أرجاء القطاع، كما أصيب عدد من الصحفيين بجروح وتعرضوا للاعتقال بسبب تغطيتهم أو محاولة تغطيتهم للاحتجاجات.

وشنت "حماس" حملة من الاعتقالات الشهر الماضي في أوساط نشطاء بسبب انتقادهم لسياستها القمعية، وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومطالبتهم باجراء انتخابات وفق الدستور الفلسطيني، عرف منهم أمين عابد، وهيثم مسعود، وعبد الله الحويوحي، وبسام محيسن.

كما وتعرقل حماس أي تفاهمات أو محاولات لانهاء انقلابها في غزة أو إرساء القانون بما في ذلك.

من أبرز العراقيل كان تنفيذ "اتفاق 2017" الذي ينص على تسليم حماس للوزارات والمقار الحكومية للحكومة الفلسطينية، ووصل رئيس الوزراء آنذاك، رامي الحمد الله، وعدد من الوزراء إلا أن حماس رفضت التسليم الفعلي وفق الاتفاق بعد تسليمهم الشكلي أمام وسائل الاعلام.

ومن أبرز نقاط الخلاف آنذاك هو رفض "حماس" تسليم سلطة الأراضي للجكومة، وذلك بسبب سرقة مساحات شاسعة من الأراضي الحكومية وتوزيعها على قادتها بشكل غير قانوني، بجانب استيلائها على مساحات شاسعة لمشاريع زراعية و"منتجعات" خاصة بالحركة وقادتها وليس بالحكومة.

كما وتضرب حماس بيد من حديد رفع أي صوت لا يتماشى مع سياستها وليس بآخرها منعها لاحياء الذكرى الـ15 لاستشهاد الرئيس ياسر عرفات.

وأبلغت ميليشيا حماس قيادة "فتح" انها لن تسمح باحياء ذكرى الرئيس عرفات، لكنها في الوقت نفسه أعطت تصريحا لعدد من أتباعها الذين حملوا اسم "فتح" كذبا.

وتشن "حماس" حملة اعتقالات ومطاردات واستدعاءات في صفوف أبناء حركة "فتح" منذ ما يزيد عن أسبوع لمنع احياء الذكرى عرف منهم: أمين سر حركة فتح في شمال غزة حاتم أبو الحصين، وعبد الله أبو الكاس، ورائد أبو الحصين، ووائل عقل، وشادي التلولي، وأدهم السنوار، ومروان أبو عيدة، وصاح قداس.

وكانت حماس قتلت 9 مواطنين على الأقل بالرصاص وأصابت المئات خلال هجومهم على حفل إحياء الذكرى الثالثة لاستشهاد الرئيس عرفات في غزة في تشرين الثاني 2007.

فكيف لمن يمنع إقامة احتفالية ذكرى استهشاد الرئيس الراحل ياسر عرفات.. أن يسمح لإقامة دعاية انتخابية لأي فصيل تمهيدا لانتخابات عامة... يعتمدون على الشعارات وعلى الأرض يقومون بأمور أخرى.