الإعاقة ليست دائمًا حاجزًا أمام أصحابها، فمَن أراد بلوغ العنان لم تحدَّ من عزيمته أيّة عراقيل. فالإعاقة تجعل من الإنسان شخصًا يتحدّى نفسه، ويصرُّ على أن يصل صوته للجميع، ليثبت لنفسه قبل الآخرين بأنّه قادر على تحقيق طموحاته.

وفي فلسطين يخوض الطلاب عمومًا تحدّياتٍ عدّة بسبب الاحتلال، إذ يتمُّ احتجازهم عند الحواجز، وفي بعض الأحيان لا يقدرون على متابعة الدراسة بسبب عدّة أمور منها: الاعتقال المنزلي أو الزج بهم في السجن، أو إلحاق الأذى بهم عن طريق ضربهم والاعتداء عليهم، فما بالنا بالطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة الذين تتضاعف التحدّيات والعراقيل أمامهم.
فقد تقدَّم لامتحان الثانوية العامة 235 طالبًا وطالبة من ذوي الاحتياجات الخاصة في الضفة الغربية، لتصل نسبة النجاح، حسب ما صرَّح به مدير عام وحدة التقويم والقياس والامتحانات بوزارة التربية والتعليم الفلسطينية د.محمد عوّاد إلى نحو 80% في صفوفهم، من بينهم 38 طالبًا يعانون إعاقة كليّة. فإيمان أبو حشيش وأصيل المدني وسلسبيل عرباسي وعشرات غيرهم، ممَّن يعيشون أوضاعًا صحيًة صعبة حقّقوا حلمهم بإرادة فولاذية، وتفوّقوا في اختبار الثانوية العامة الفلسطيني (الإنجاز)، وكتبوا بداية جديدة لحياتهم وتميُّزهم العِلمي.
 

موقف الأهل ودورهم تجاه أبنائهم
أصيل المدني هو واحدٌ من هؤلاء الذين لم تحدَّ الإعاقة من قدراتهم، إذ تمكَّن ابن السبعة عشر عامًا من نيل معدَّل تخطى 98% في فرع العلوم الإنسانية، ليجتاح فرحٌ كبير منزل عائلته فور إعلان نتائج الثانوية العامة.
واعتزازًا بهذا الإنجاز التقى الرئيس محمود عبّاس الطالب أصيل وعائلته، وبارك له نجاحه الباهر وتفوُّقه.
وفي تعليقٍ على الوضع الصحي لأصيل ومعاناته، قالت والدته: "لم يجعله مرض الشلل الرباعي الذي أصيب به بعد ولادته بستة أشهر يستسلم، ولم يحجب قدرته على التفكير، فكان متفوّقًا في جميع مراحل دراسته، ومتميّزًا بمعرفته وثقافته الواسعة، وسِعة اطلاعه وإتقانه اللغة الإنجليزية".
بعزيمته وباهتمام والدته لم يتحوّل أصيل إلى فتى يرى العالم من خلال كرسيه وغرفته فحسب. فبالرغم من وضعه الصحي الذي يتطلَّب مراقبًة دائمًة، ويمنعه من الالتحاق بمدرسة، لم يمنعه شيء من التعلُّم وخوض كلِّ التحديات التي واجهته، فظلَّ على تواصلٍ مع العالم الخارجي عبر وسائل الاتصال الإلكتروني كما تقول والدته، وضمَّ لغرفته مكتبةً تتَّسع لنحو 500 كتابٍ قرأها جميعها، فبات واسع الثقافة ومُلِمًّا جيّدًا بالسياسة محليًّا وعالميًّا، وهو ما سيقرّبه من حلمه بدراسة العلوم السياسية.
بدوره يقول والده محمد المدني: "يتمتَّع أصيل بذاكرة قوية تمكّنه أنّ يدرس المادة مرة واحدة، خلال الأربع ساعات المخصّصة له للدراسة، وأن لا يراجعها إلّا عند الامتحانات".
من جهة ثانية، ينوِّه المدني إلى أنَّ المدارس تفتقر إلى صفوف ملائمة لوضع ذوي الاحتياجات الخاصّة أو تؤمن لهم الأدوات اللازمة للتحرك والانخراط في المدرسة بسهولة، مشدِّدًا على ضرورة إيلاء الاهتمام لهذا الأمر.
ويختم الوالد حديثه بالإشارة إلى أنَّ العائلة لم تشعر بالضغط أو التكدُّر بسبب مرض ابنها، بل كانت متأقلمة مع وضعه منذ اليوم الأول، مؤكِّدًا أنَّ أصيل مصدر بهجة للعائلة إذ يغمر البيت بأصوات ضحكاته وفرحه المتواصل.

حكاية أصيل مع المرض والدراسة
لم يتمكَّن أصيل المدني من الالتحاق بالمدرسة فجلبها إليه، إذ حوَّل إحدى غرف منزله في مدينة رام الله لصفٍّ مدرسيٍّ يتلقَّى فيه تعليمه على أيدي معلِّمين مختصين، ليُثبتَ للذين يرون به نقصًا، أنَّ المرض سلبه حركته لكنَّه لم يسلبه قدرته على التفكير، وأنَّ مسألة الحركة المحروم منها تظلُّ ثانوية مقارنة بنعمة الفكر والعقل التي يتمتَّع بها، مُثبتًا أنَّ مَن أراد شيئًا قادرٌ بالإرادة والصَّبر أنّ يصل إليه.
ومن أبرز طموحاته أن يكمل دراسته في جامعةٍ فلسطينية مُتخصِّصًا في العلوم السياسية، وأن يصبح ناشطًا في الاختصاص، لكنَّ كلَّ ذلك مرهون بقبول الجامعة أن يتابع محاضراته من البيت عبر الإنترنت.

رغم كلّ العقبات التي واجهها في طريقه لم يفقد أصيل يومًا الأمل بقدرته على متابعة دراسته ليلتحق بالجامعة التي يحب، وما زال على ثقة أنَّ قدراته الحركية، وإن كانت محدودة، فهي لن تؤثِّر أبدًا على نبوغه العِلمي وعلى ما يمكن أن يحقّقه في المستقبل.
تقرير: نجيّة شحادة