منذ قمة بيروت 2002، لم يساورنا الشك للحظة واحدة، بأن مبادرة السلام العربية ولدت كسيحة، بلا أقدام تسير عليها ولا أذرع قوية تجدف بها ... وأنها في مضامينها تشكل "سقف" المطالب العربية وليس الحد الأدنى منها كما جرى الزعم في خضم الترويج لها والسعي لتسويقها... منذ ذلك التاريخ، والمبادرة تتنقل كالنعش الطائرة من عاصمة إلى أخرى، ومن قمة إلى قمة، من دون أن تنجح المبادرة والمبادرون في نقلها إلى حيز التنفيذ.
إسرائيل التي طالما زعمت بأن العرب والفلسطينيين لطالما أضاعوا فرصاّ ثمينة للسلام معها، وهي المقولة التي يرددها كالببغاوات (اقرأ الغربان) نفرٌ من "المتصهينين العرب"، رفضت المبادرة جملة وتفصيلاً، ولم تنظر لها حتى كمدخل أو أرضية لمفاوضات جدية لاحقة ... مقابل مقولة الأرض مقابل السلام التي نهضت عليها المبادرة، طرحت إسرائيل مقولة "السلام مقابل السلام"، واليوم تنهض مبادرة ترامب المعروفة زوراً باسم "صفقة القرن" على مقولة: المال مقابل السلام، أو ما يسمى "السلام الاقتصادي".
في كل مرة يجتمع فيها القادة العرب أو وزراء خارجيتهم، يعيدون تأكيد تمسكهم بالمبادرة العربية للسلام من دون أن يتقدموا بخطة تنفيذية ولو لمرة واحدة، لإعطاء مبادرتهم الزخم الذي تستحقه، من دون أن يرفقوا تأكيداتهم باستخدام، أو التلويح باستخدام، أي من أوراق القوة التي يتوفرون عليها... ومنذ قمة تونس 2005، بدا أن بعض الأطراف العربية، أخذت تضيق ذرعاً بالمبادرة، ومن حينها أخذت الأصوات الخافتة، تهمس بالحاجة لتعديلها واختزالها و"ترشيقها"، وتحديداً للتخلص من بندين شائكين فيها: الأول؛ اشتراط إنهاء الاحتلال للبدء في تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية... والثاني؛ التخلص من البند الخاص باللاجئين وهو البند الذي لم يكن وارداً في النص الأصلي للمبادرة، وقد نجحت الدولة المضيفة: لبنان، في إضافته لأسباب تتعلق بحساسية الملف الديموغرافي اللبناني، خصوصاً حين يتصل الأمر بتوطين اللاجئين الفلسطينيين.
اليوم، يرى كوشنير أن مبادرة السلام العربية ليست إطاراً واقعياً لحل القضية الفلسطينية، وهو يقترح بدلاً عن ذلك، البحث عن تسوية وسط، بين المبادرة العربية والمواقف الإسرائيلية، في دعوة مستفزة للقادة العرب والفلسطينيين لتقديم "وجبة جديدة من التنازلات المجانية" لإسرائيل... صحيح أن كل ما صدر عن كوشنير و"صفقة القرن" يوحي بالتناقض مع نص وروح مبادرة بيروت، بيد أنها المرة الأولى التي يبوح فيها كوشنير برفضه للمبادرة العربية، ويدعو لإعادة النظر فيها، بما يقربها من وجهة النظر الإسرائيلية، أو يجعها صورة طبق الأصل، عن "صفقة القرن".
خطورة تصريحات كوشنير، أنّها تأتي في ذروة الاستعداد لعقد "ورشة المنامة" بوصفها توطئة للكشف عن الشق السياسي من صفقة القرن، وأنها تأتي بعد عامين من انشغال صهر الرئيس في إعداد الصفقة/ الصفعة، وبما يشفّ عن مضامينها ومحتوياتها الموجهة أساساً ضد أركان المشروع الوطني الفلسطيني الثلاثة: العودة و"تقرير المصير/ الدولة" والعاصمة القدس الشرقية... كوشنير استغل لحظة انشغال الوفود العربية في إجراء ترتيبات السفر للمنامة، ليغرس المسمار الأخير في نعش مبادرة السلام العربية.