مناسبتان حزبيتان لهما حضور في المشهد السياسي والكفاحي الفلسطيني، لا يمكن لأي مراقب، أو مختص بالشأن الفكري السياسي والتنظيمي والوطني الديمقراطي القفز عنهما، مع الفارق بينهما في تاريخ الولادة والنشوء، وفي التأثير في الساحة الفلسطينية، وما آلت إليه تجربتهما في المسيرة الخاصة والعامة.
حزب الشعب الفلسطيني (الحزب الشيوعي) احتفل في العاشر من شباط 2019 بالذكرى المئوية لتأسيسه. والجبهة الديمقراطية احتفلت بالذكرى الخمسين لتأسيسها في 22 من ذات الشهر. محطتان بارزتان في التاريخ الفلسطيني، حيث حملت الأولى ولادة أول حزب شيوعي في دول الوطن العربي، وكان من أوائل الأحزاب، التي انضوت تحت لواء الكمنترن (قيادة الحركة الشيوعية العالمية). والفضل في التأسيس للحزب يعود للمهاجرين اليهود الشيوعيين، الذين جاءوا لفلسطين في نطاق الحملة الاستعمارية للحركة الصهيونية، تحت غطاء بناء دولة شيوعية من خلال التساوق مع الهجرة الصهيونية الاستعمارية، كونهم خلطوا بشكل متعمد، أو نتاج الوعي المشوه في أوساطهم بين الدين والقومية. وما بين الديني والقومي ضاعت المعايير والقيم الشيوعية في فلسطين تحديدا، لأن قادة الحركة الشيوعية العالمية آنذاك وتحديدا في روسيا السوفييتية بعد ثورة تشرين الأول 1917، تساوقوا مع الرؤية اليهودية، وأقاموا لهم حكما ذاتيا خاصا بهم، باعتبارهم "قومية" في الاتحاد السوفييتي، ما ترك بصمات سلبية على حركة النضال التحررية الفلسطينية.
ما تقدم دفع الشيوعيين الفلسطينيين في عام 1943 للخروج من عباءة الحزب الشيوعي، وشكلوا عصبة التحرر الوطني في فلسطين، وهي بمثابة الحزب الشيوعي، التي لم تعمر طويلا من 1943/ 1948 بفعل النكبة عام 1948، ونشوء الدولة الاستعمارية الإسرائيلية، ما أدى إلى انقسام ممثلي الشيوعيين إلى 3 أجزاء، الجزء الذي بقي في الجليل والمثلث والنقب والساحل، وانضوى تحت لواء الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وجزء واصل عمله في الضفة الفلسطينية، وبعد مؤتمر أريحا 1950 انضم للحزب الشيوعي الأردني، والجزء الثالث حمل اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهو مجموع أعضاء الحزب في قطاع غزة.
وبعد مخاض طويل وعسير من تجربة الحزب الشيوعي، تمكن في شباط 1982 من توحيد أقسامه الضفة والقطاع والشتات، وانخرط لاحقا في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. لكنه لم يتمكن ترك بصمة قوية في المشهد الفلسطيني: نتيجة الإرباكات، التي واجهتها الحركة الشيوعية الفلسطينية، وانفراط عقد الوحدة فيما بين مكوناته، ولانتهاجه فكريا وسياسيا المدرسة السوفييتية، ولابتعاده عن تجربة الكفاح المسلح، رغم تشكيل تجربة الانصهار المحدودة والقصيرة، وانعكاس هزيمة وغياب الاتحاد السوفييتي، وانحلال عقد منظومة الدول الاشتراكية مطلع تسعينيات القرن الماضي.
ولكن هذا لا يعني ان دور الحزب اندثر، أو غاب عن العملية السياسية الكفاحية، لا بل واصل الحضور، وسعى قادته بما ملكوا من إمكانيات وطاقات لإثبات الذات الحزبية في خارطة العلاقات الفلسطينية والعربية والدولية. والحزب عضو أصيل في المؤسسات الوطنية والديمقراطية الفلسطينية. كما انه عضو في إطار الأحزاب الشيوعية العربية والأممية. غير ان مرور قرن (مئة عام) على وجوده، لا يتناسب مع مكانته في المشهد الفلسطيني. ومع ذلك لا يملك المرء سوى ان يهنئ قادة الحزب بالذكرى المئوية، متمنيا لهم التوفيق والتقدم.
اما الرفاق في الجبهة الديمقراطية، كما اشرت، فقد احتفلوا قبل ايام بالذكرى الذهبية لتأسيسها. ولتجربتهم خاصية مختلفة تماما عن الحزب. انشقت الديمقراطية بزعامة الرفيق نايف حواتمة عن الجبهة الشعبية في 22 شباط 1969. وكان المبرر للانشقاق، هو تميز التيار، الذي قاده ابو النوف وياسر عبد ربه، باعتباره التيار اليساري في الشعبية، على اعتبار أن من بقي في صفوف الشعبية، هو تيار اليمين (ولهذا الموضوع قراءة أخرى، ليس هنا مكانها)، وتمكنت الديمقراطية من تمييز حضورها في المشهدين السياسي والكفاحي، وضمنت بدعم من حركة فتح والراحل ياسر عرفات شخصيا، وأيضا من سوريا آنذاك مكانة في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. واتسمت تجربتها بالواقعية السياسية، وسعت قيادتها لانتزاع موقف من الحزب الشيوعي السوفييتي باعتبارها ممثل الحركة الشيوعية الفلسطينية، وكبديل عن الحزب الشيوعي الفلسطيني. غير انها لم تنجح في هذا المضمار، وبقيت تحسب، وما زالت حتى الآن، إحدى القوى اليسارية السياسية في الساحة الفلسطينية، جنبا إلى جنب مع الشعبية والحزب و"فدا" والمبادرة الوطنية.
اسهمت الديمقراطية بدور بارز في تطوير الفكر السياسي، بتبنيها برنامج النقاط العشر، او البرنامج المرحلي، وسوقته في الساحة الفلسطينية بالتعاون والدعم من الرئيس الراحل ابو عمار والتيار البراغماتي في حركة فتح. كما انها تمثلت روح الكفاح الوطني، وبصمتها في الساحة بارزة ومميزة، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها. غير ان المأخذ الأبرز، الذي يمكن ان يسجل عليها، هو استمرار الرفيق نايف حواتمة أمينا عاما طيلة الخمسين عاما الماضية، الأمر الذي ترك بصمة سلبية. وهذه الملاحظة، لا تنتقص من مكانة ابو النوف القيادية ولا التاريخية، ولكنها انتقصت من تجربة الجبهة الديمقراطية الديمقراطية، ووضعت علامة سؤال عن تمثل العملية الديمقراطية فيها. مع ان كل الأحزاب الشيوعية بعد تجربة البريسترويكا الروسية (غورباتشوف) مطلع التسعينيات من القرن العشرين غيرت من توجهاتها الفكرية والسياسية والتنظيمية.
في الذكرى الخمسين للديمقراطية، اوجه التحية والمباركة للرفاق في الجبهة، راجيا لهم المزيد من الرقي والتقدم. وان كانت حتى اللحظة الراهنة كل تجربة اليسار الفلسطيني تعاني من التعثر والإرباك، وغياب الرؤية الفكرية المنسجمة مع طبيعة المرحلة التاريخية، التي تعيشها شعوب العالم عموما، والشعب الفلسطيني خصوصا.