مَن يقرأ بيانات الجبهة الديمقراطية هذه الأيام سيُصاب بنوع من الخيبة، وهو يرى أنَّ الجبهة قد حسمت على ما يبدو أمر خياراتها النضالية، في إصدار بيانات الأستذة الإرشادية فحسب، وكفى الله المؤمنين شر القتال!!! وهي البيانات التي لم نعد نرى فيها شيئًا من ملامح الهُويّة الايدلوجية "للديمقراطية" التي كانت لها أيام المنظومة الاشتراكية والحاضنة السوفييتية، والتي كانت تعبّر عنها بتحليلاتها المادية العميقة، وطروحاتها الثورية، الوطنية، والسياسية، والاجتماعية العلمانية على نحو خاص!!

ولعلَّه ليس مستغربًا حين تغيب هذه الملامح، أن تتماهى بيانات "الديمقراطية" مع بيانات "حماس" الحزبية، لا بل أن بعضها يبدو وكأنّه إعادة إنتاج لهذه البيانات، وهي تستخدم عباراتها ذاتها عن "العقوبات" التي لا واقع لها، وعن "التنسيق الأمني" الذي لا نعرف كيف لا ترى الجبهة الديمقراطية أن أخطره اليوم، هو هذا الذي يسيّل المال السياسي لحماس، وهي التي تدرك دون شك، أنّه ما من مال سياسي دون اشتراطات سياسية، وهي هنا -وبلا أي جدل- اشتراطات إسرائيلية، طالما أنّ هذا المال يسيل بموافقتها وعبر قنواتها!! وفي الوقت الذي تستخدم فيه حماس عبارات "سلطة رام الله" و"سلطة عباس" في بياناتها لتأكيد سعيها الإقصائي، ومناهضتها للشرعية الوطنية، النضالية والدستورية، نقرأ في بيانات الديمقراطية، تعبيرًا بهذا الشأن لا يختلف كثيرًا عن تعابير البيانات الحمساوية، وهي تصف القيادة الشرعية، بـ"القيادة الرسمية"، والتي تدعوها دائمًا كمثل أستاذ مشرف أن تفعل كذا وكذا، من دون أن تقول لنا ما الذي عليها أن تفعله هي!!

والأكثر خطلا في بيانات الديمقراطية رؤيتها للانقسام البغيض بأنه نتاج خلاف بين "فتح" و"حماس" (!!)، فيما الواقع بحقائقه ووثائقه يكشف وبمنتهى الوضوح أنَّ الانقسام نتاج مخطط تآمري بالغ الخطورة، من حيث أنّه يستهدف القضية الفلسطينية برمتها للتدمير الشامل، بدأ مع إعادة الانتشار لقوات الاحتلال الإسرائيلي في محيط قطاع غزّة، وتحقَّق مع الانقلاب الدموي العنيف لحماس على الشرعية وإقامتها لسلطة الأمر الواقع، التي ترفض "حماس" التخلّي عنها ولا بأي حال من الأحوال، وقد أعلنت غير مرة أنَّها لن تُسلّم غزة من الباب إلى المحراب لحكومة الوفاق الوطني (!!) كما أعلن ذلك بمنتهى الوضوح قائد "حماس" في غزة يحيى السنوار، وتعرف الديمقراطية أنَّ هذا الموقف الحمساوي هو الذي عرقل وما زال يعرقل التقدّم في مسيرة المصالحة الوطنية، بل هو الذي أفشلها وما زال يفشلها حتى اللحظة!! ومع ذلك ما زالت الجبهة الديمقراطية ترى للانقسام البغيض طرفين (!!) في مغالطة فادحة للواقع الذي يشهد تصدي المشروع الوطني التحرّري، لهذا الانقسام بوصفه حاضنة لمشروع الإمارة الإخواني، وبهذا المعنى وهذه الحقيقة، فإنّه لا وجود لخلاف بين "فتح" و"حماس"، وإنّما هو في الحقيقة، صراع المشروع الوطني التحرري، ضد المشروع النقيض، هذا الذي يتلمّس اليوم التحقق الكامل عبر اتفاقات التهدئة، التي تطالب "حماس" (إسرائيل) بحُسن الالتزام بها!!

نُدرك ونتفهّم الحاجات والمصالح الحزبية للجبهة الديمقراطية، لكن في معركة الدفاع عن المشروع الوطني الذي هو مشروع الكل الوطني بما يعني أنَّه مشروع "الديمقراطية" أيضًا، وهي التي نظَّرت له طويلاً، ثمّة خطوط حمراء لا يجوز تجاوزها لصالح الحاجات والمصالح الحزبية مهما بلغت شرعية هذه الحاجات والمصالح، ومن الخطوط الحمراء في هذا السياق، التعالي على الواقع، وتجاهل معطياته، والالتفاف على حقائقه، والهرب من مواجهة مهمات تغييره، وعلى ما نعتقد هذا ما يقوله التحليل العلمي "بمراكسيته الخالية من الهراء"، وهذا التعبير وصفت به منهجها في التحليل جماعة "الماركسية التحليلية" التي تشكّلت إثر كتاب "نظرية كارل ماركس للتاريخ: الدفاع"، للفيلسوف السياسي الماركسي الكندي جيرالد كوهين نهاية سبعينيات القرن الماضي.

و"الماركسية الخالية من الهراء" إذا ما أحسنّا إدراك معناها، فهي التي لا تتعاطى مع الأوهام، ولا تُخطِئ الحلقة المركزية للنضال الطبقي أو الوطني في كل مرحلة من مراحله، لكن وكما هو واقع اليسار عندنا ويدون تعميم، تبدو هذه الماركسيّة تصوّرًا رومانسيًّا، على الأقل فيما يتعلّق بالموقف السياسي لبعض قوى اليسار، والذي بات موقفًا قابلاً للتحوّلات المتناقضة، وهذا ما نقرأ في بيانات "الديمقراطية" التي نرجو أن تكون في المحصلة، بيانات لحظة التباس نظرية!!! ولعلَّنا نسأل بعد كلِّ ذلك: ما هي الهُويّة الايديولوجيّة للجبهة الديمقراطية اليوم وقد تخلَّت عن ماركسيّتها!!!