بقلم/ بكر أبو بكر

في سياق التجربة الفلسطينية تتداخل الكثير من العوامل وتتقاطع مفاهيم عدة ، وتتعقد التشابكات إلى الدرجة التي تجعل من فهم المعادلة أمرا عصيا، والى الحد الذي يجعل  أحيانا من دخول عامل جديد في معادلات مستقرة أمرا مستحيلا.

استطاعت الثورة الفلسطينية أن تشكل أداة تحطيم لاحتكار القوى الحاكمة في المنطقة سواء تلك الدولية الثنائية (للمعسكرين) أوالاقليمية، أوالعربية فترة انطلاقة حركة فتح، أو في المرحلة الحالية.

 كسرت الثورة الفلسطينية تسلط القوى التي حكمت في أمة العرب والإقليم  فأنشأت دولاً ذات طابع قومي النزعة أغرق البلاد والعباد في الإقليمية وهو يصرخ بشعارات خاوية تدعو للوحدة العربية أوللحرية أو للاشتراكية التي لم تشفع لأي من هذه الأنظمة التي كان آخرها نظام البعث السوري الذي يتهاوى اليوم تحت معاول الهدم والتدمير.

 

الثورة تكسر

 الكسر الذي أحدثته الثورة الفلسطينية للمعادلات ارتبط بفهم ناهض جاء مع قلّة مؤمنة حملت روحها على كفّها وافترضت ان مصيرها الذاتي مرهون بمصير الوطن، لذلك فإنك عندما تتأمل أياَ من الرواد أو تشم ملابسهم فان وجهك يتضمخ بالعبير القادم من ميادين النضال ، ولعلك تجد فيه رائحة فلسطين وهم كانوا في البعيد عنها.

القدرة على تحدي القوة الحاكمة شكّلت سمة من سمات حركة فتح ، كما شكلت أصلا من أصول فكرها الثوري ما رسمته في شعارات (الاستقلالية) أو (القرار الوطني الفلسطيني المستقل) وفي (رفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية) والعكس بالعكس، وهو شعار لم يحظ بالاحترام أبدا من معظم حكام الدول العربية فقاتلت الثورة الفلسطينية على أحقيتها في تمثيل الفلسطينيين بادعاء العمق القومي الذي رفع شعاراته لتبرير الاستبداد والظلم والتجبر ودوام السلطة الحاكمة في كل بلد من البلدان التي كان شعبها يرسف بأغلال العبودية للنظام (القومي) بحجة إن كل الجهود من أجل معركة تحرير فلسطين.

 

التسلط باسم فلسطين

 لم تنقطع الأنظمة العقيمة عن تبرير تسلّطها على القضية الفلسطينية وبالشمولية التي تعني الاستبداد، وارتهان الفلسطيني مقابل الخصوصية والتكرس للقضية والاستقلالية في إطار التعاون العربي ما نادت به حركة فتح وما زالت حتى اليوم.

مرت حركة فتح ،كما هو المجتمع وكافة التنظيمات، بحالات صعود وإنجازات وانتصارات عديدة لفكرها ومواقفها ولقيادتها وصنائعها وعلاقاتها وطريقة إدارتها للأزمات، وفي تعاملها مع الكوادر وصناعتهم، وفي استشرافها للمستقبل من عيون الجماهير ، وفي التقاطها لنفحات الشفافية من أقدام الناس المغبرّة بطين الأرض.

أزمات مقابل انتصارات

سجلت حركة فتح مئات الصنائع البيضاء والإنجازات في الفكر السياسي العملاني الواقعي إذ استطاعت إخراج المناضلين من مفاهيم (الجمود) و(التقوقع) و (أحادية التفكير) ومضمون العمق القومي الواسع فارغ المضمون ، ومن ضيق الفكرانيات (الأيدولوجيات) الإقصائية تلك المكتفية بنفسها والمنكفئة على ذاتها إلى رحابة التفكير الحر والتعددية والتنوع والتسامح الذي أسس بحق لفكر (التشاركية) في ممارسة الديمقراطية  بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في فلسطين والذي جعل من مفاهيم المدنية جزءا أصيلا من دستور فلسطين القادم.

مرت حركة فتح كما هو شأن حركة المجتمع ككل بانتكاسات وأزمات وكبوات لا شك في ذلك، ولكن قدرتها على تجاوز الآلاف منها تلك الصغيرة والكبيرة هي التي جعلت من عمر خمسين عاما على انطلاقتها شباباً دائماً وربيعاً متواصلاً وقدرة فائقة على ضغط الظلام بين نهارين.

(التحدي)  سمة لازمة في شخصية الفتحوي و(الحرية) سمة أخرى، فمن يتحدى يكون حرا ، و أنّى لعبد أن يتحدى سيده؟! لذلك استطاعت حركتنا- وما زالت- أن (تكسر) المستقرّ من المعادلات فكانت الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط كما قال عنها الخالد فينا ياسر عرفات.

 

الصراع الاستيعابي أم الاقصائي؟

إن منطق الصراع في حركة فتح لم يكن يوما يسير باتجاه الحائط المسدود ، ولم يكن ليمثل قفزا بين الحبال، وانما كان في محصلته ونتيجته استيعاباً وتقارباً وإبقاء، لذلك وجدنا وما زلنا نجد اليوم بعد 50 عاما في حركة فتح مشارب ومسارب ومهابط وموانئ متعددة في ظل أن البئر واحدة والسماء واحدة والهدف فلسطين.

 (الصراع) قد يكون اقصائيا كما حصل في تنظيمات اليسار التي لطالما انشقت على أسس فكرانية أو سياسية أو خارجية فشكلت فصائل وجبهات متعددة ، و لطالما كان الاقصاء لدى الفكرانيات الدينية على قاعدة التنزيه للشخص أو القيادة أو الرأي فكان لكل من فكّر بحرية أن طُلِب منه الخروج كما حصل مع د.اسماعيل الشطي في الكويت وثروت الخرباوي ومختار نوح من قيادات الاخوان المسلمين.

 الصراع باعتباره شكلاً من أشكال الاضطراب داخل الشيء أوفي الكيان أو في ذات الانسان لا يتحدى (الافتراضات أو المسلمات أو الثوابت الأساسية ) التي يقوم عليها النظام التنظيمي أو المجتمعي أو الذاتي، ومتى ما حصل ذلك فان الانشقاق أوالحرب تكون النتيجة الحتمية له كما أشرنا.

لم يكن الصراع –عدا عن حالات محدودة- في مسيرة حركة فتح صراعا مؤداه الخروج أو الاحتراب حيث تتكتّل المعسكرات والجيوش وتتحارب بعنف ، وعلى العكس من ذلك شكّلت حركتنا قدرة على (إدارة الصراع) سواء ذلك الاقليمي أو الوطني أوالداخلي في سياق ثوابت الاستقلالية والوحدة والتعاون، و أننا موجودون بالضرورة في معادلات التغيير الوطنية والجماهيرية.

 

الإنجازات ونبض القواعد

في حركة فتح التي سجلت آلاف الانجازات الفردية والجماعية وفي مجالات شتى سياسية أو إدارية أو ثقافية أو سياسية أو نقابية أوإجتماعية أو نضالية أو مفاهيمية أو إتصالية أو ابداعية أو نقدية كان (الحوار) أصلا من أصول اتخاذ القرار حتى في أقسى الظروف وفي ظل قبضة ياسر عرفات ثم محمود عباس ذات المظهر الاستبدادي ، وكانت آليات اتخاذالقرار – إلا في حالات محدودة – تستجيب لنبض القيادة والكوادر والناس لأن منطق الصراع الذي تعترف به حركة فتح لا يعني إحداث الفوضى  والفتنة والاضطرابات كما لا يعني الحقد والتحريض الداخلي أوالاحتراب وإنما كان معناه حسن إدارة الصراع للأفكار والمسارات والمسارب ما مؤداه حصول الاستيعاب والتقارب والإبقاء على البستان متسعا للجميع إلا من أبى أو تخلف أو اكتأب أو ترجّل من القطار لوحده أو بدفع خارجي.

مسيرة الحركة العملاقة التي قادت الشعب والأمة، وتسلمت علم الثورة العالمية عام 1975 من القيادة الفيتنامية لا يمكننا أن  نشخصها ونلخصها ونحوصلها بضعف اعترى عروقها اليوم في بعض الأوردة، فنعكسه على مسيرتها الطويلة والثرية ، ولا يمكننا أن نعكس تجاوزاً هنا أو هناك أو تقصيراً في مجال أو فشلاً في حل أزمة لنتهم الحركة العملاقة بما ليس فيها أو لنتهمها بشكل مطلق بالعجز والتأزم.    

 انسداد الشرايين في حركة فتح اليوم، وثقل ضربات القلب تحتاج لعلاج متيسر....فانقطاع التواصل مع بعض أجزاء الجسد في الأقاليم والمناطق والشُعَب لا يحسب أبدا على تاريخ الحركة، ولا يحسب بمنطق التعميم من حالة  أو حالات خاصة تفرض نفسها على شخص أو مجموعة ترى الأمس حيث تقيّم بمنظار اليوم.

 

لكل مرحلة أدوات

 ما هو كائن اليوم أكان في أي من مجالاته يمثل نجاحا أو نصرا أو يمثل فشلا أو أزمة ليس من السهولة إسقاطه على مراحل مضت وانقضت، فلكل مرحلة أدواتها و دوائرها ومؤثراتها والعوامل المتحكمة بها و صراعاتها التي لا يمكن اسقاطها كورقة الكربون ونسخها على حادثة أو موقف آني.

للأشخاص كما الأساليب واختلاف الأهدف والنظر لكل مرحلة يعني أن (أدوات التفكير) مختلفة فمن فكر حرب الشعب طويلة النفس الى فكرة النضال العسكري يزرع والنضال السياسي يحصد التي راكمها ياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير وخالد الحسن الى فكرة التسوية السياسية، ثم فكرة المقاومة الشعبية الكثير مما جرى به النهر من مياه والكثير من المتغيرات التي تجعلنا نرتجف طويلا قبل أن نطلق أحكاما مطلقة على رجال عظام قادوا مرحلة أو مراحل استطاعوا فيها أن ينتشلوا القضية الفلسطينية من غياهب النسيان فيضعوها أمام العالم الذي -ظن بل- عمل على طمسها و وأدها الى الأبد فلم يتمكن، إذ كانت قيادة الثورة الفلسطينية وقيادة حركة فتح له بالمرصاد.

 

موازين النقد

  قدرتنا على النقد تعني أن نضع الموازيين بالقسط، وتعني أن نضع المقدمات الواضحة فنصل للخلاصة، وتعني أن نرى كل مرحلة أو موقف بمنظار مرحلته. ألسنا نرفض اليوم العمليات التفجيرية أو الاستشهادية ، ألسنا نرفض اليوم قتل السفير الامريكي في الخرطوم في سبعينيات القرن العشرين، ألسنا نرفض اليوم خطف الطائرات وخطف اليهود المدنيين، ألسنا.....وألسنا من مواقف أو أعمال كان لها مبررها في حينها، في حده الأدنى كانت محاولة للصراخ ولإسماع الصوت الفلسطيني العالي لكل العالم تقول :أننا شعب يحفر بيديه على الصخر اسم فلسطين وليس على الرمل ، ولذا فاننا إن حاكمنا مرحلة مضت بأدوات اليوم أو طرق تفكيرنا اليوم ندين أنفسنا وتاريخنا كلّه دون أن ندري.

 إن النقد و استخلاص العبر بعد كل حدث أو موقف أو نشاط أو عمل هو جهد مطلوب ، ولا يعني النقد دوما الرفض بل يعني تبيان مواضع الخلل وكشفها وإبرازها والسعي لاصلاحها ما يتناقض كليا مع منطق الهدم الذي يستخدم ما يسميه النقد لتدمير البيت بادعاء أن أعمدته غير سليمة و أن سقفه منهار.

 

الأحكام القطعية والمسار الحلزوني

لا نستطيع أن نحمّل الثورة الفلسطينية و حركة فتح في 50 عاما أحكاما قطعيّة بالنجاح والانتصار، أو بالفشل و الأزمة، فالمسار حلزوني صاعد وهابط، ويغرِف مما سبق ويطوّر ويصعد ثانية، حيث أن المجتهد من يستفيد من أزماته العديدة أو كبواته حيث تُرى (الاستمرارية ) قوة حقيقية في مقابل التوقف أو الجمود أو الشلل الذي يصيب أولئك الراجفين عند أول مغامرة أو مجازفة وما كان لنا في اتفاقية أوسلو (1993) إلا (مجازفة تاريخية) كما قال صخر حبش ونحت المصطلح على بوابة الزمن الحالي من زمنه الماضي.

ان سمة التعمق والتأمل و التريث في اطلاق الأحكام ما يتجاور مع التفهم والتقبل والتجاور للمفاهيم و الأفكار المتنوعة كان وسيظل سمة من سمات حركة فتح، فلا هي تمسك بخاتم الرب فتطّلع على الأفئدة ولا هي بوارد نصب آلات التعذيب القاسية لمحاكم التفتيش ضد الآخرين، ولا هي بوادر المذابح النازية لهتلر و موسوليني ضد المخالفين أو المنافسين، وما كانت تطل على الناس من أبراج عاجية أبدا ما جعلها بحق تنظيم الطلائع أو الرواد أو الصفوة المتماهية والمتشابهة والمتقاطعة مع الناس.

 

التنظيم كائن حي

 التنظيم (المنظمة ) كائن حي يأكل و يشرب ويتنفس ويفرح ويبكي ويستشيط غضبا ، ويفشل ويتقدم وينتصر ، ويدخل في معارك وصراعات ويصاب بخيبات أمل و أزمات ويعاني من مشاكل صحية فيعتل جسده أو يصاب بمشاكل نفسية فيحبط ويقلق ويتوه ، ولكن الفرق بين التنظيم والانسان أن التنظيم يستطيع أن يتجدد في دورة حياته، فيمر بأطوار الطفولة والشباب والكهولة لأكثر من مرة ، وبالطبع قد يموت لأسباب عديدة ، وتعددت الأسباب والموت واحد.

 الانسان مجموعة من المواقف التي تمكّن الآخرين من تحديده أوتوصيفه وتصنيفه، وكذلك الأمر مع التنظيم ، فالربط بين المواقف متقاربة التشابه وبين طريقة التصرف حال تكرارها تعطي الانطباع، والرأي، وقد تكرس النظرة ثم الصفة التي تطلق سواء على التنظيم أو على الشخص.

خاض ياسر عرفات معارك ضد النفوذ السوري كما خاض معارك ضد محاولات الهيمنه الليبية... ولم يتوقف عند حدود التدخلات العراقية عبر البندقية للإيجار وغيره،  ما يجعلنا بكل بساطة نقرر أن حركة فتح شديدة الحساسية بالدليل القطعي لأي تدخل في شأنها الداخلي ما أصبح سمة من سمات فتح بل و أصبح أساسا من أسس فكرنا الوطني الجليل، أما أن ننظر لحالة حركة فتح التنظيمية في اقليم القدس مثلا، و نقرر  دون سند أو مقارنة بالأقاليم الأخرى  أوبالتاريخ أن حركة فتح في أعوام شبابها الخمسين كلها منهارة ففي ذلك افتئات وتزوير للحقائق، أو محاولة لاسقاط القوالب المصبوبة السلبية في الذهن على حدث محدد وتعميمه بشكل تصبح فيه الواقعة المحددة وكأنها فكرة معممة على كل الواقع القائم مع ما سبقه.

 

مظاهرالنجاح: التوسع والتجدد والاستمرار

لا شك أن الإنسان وكما التنظيم أو أي مؤسسة تمر بمشاكل وأزمات كما تمر بنجاحات وانتصارات ودلالة (النجاح عبر مسار التاريخ) هو في 3 معطيات رئيسة في أي تنظيم وهي: 1-التجدد و2-التمدد أو التوسع و3-في القدرة على التواصل و الاستمرار وتحقيق والديمومة ، فإن طبقنا ذلك على حركة فتح التي واكبت عشرات الأزمات والمشاكل و المآسي نستطيع أن نخرج باستخلاص محدد لأننا بوضعنا المقياس الصحيح يكون القماش الذي نصنعه محدد الجوانب والإطار.

 

الأزمة و أبوعمار والتنظيم

الأزمة كموقف أو حالة تتلاحق فيها الأحداث و الأسباب والنتائج للدرجة التي قد تتقطع فيها أنفاسها كرجل يركض محاولا اللحاق بحافلة تجاوزته، أو بموعد مضروب وتجاوز وقته، هي موقف أو حالة متشابكة حيث يفقد فيها متخذ القرار قدرته على السيطرة عليها وعلى اتجاهاتها المستقبلية.

وقع ياسر عرفات في أزمة المباحثات في كامب ديفيد عام 2000 ما بين الاستجابة للضغوط الأمريكية ضمن أساس العصا والجزرة أو الثواب و العقاب الذي استخدمه الامريكان معه مهددين إياه بالخروج من المعادلة في مقابل إغرائه بالمليارات كما قال له الرئيس كلنتون حينها فاختار فلسطين، وخرج من معادلة الضعف والانصياع والأسر الى فضاء الحرية والديمومة والخلود.

يصادف التنظيم بمعنى قيادة التنظيم في مفوضية التعبئة والتنظيم عشرات المشاكل يوميا، وهذا من طبائع البشر والأمور، فما دمت تتعامل مع الناس فان ارضاءهم جميعا غاية لا تدرك كما يقولون، لذلك تتعانق آليات المتابعة المتصلة بأساليب لادارة والقيادة مع القيم والنظام الداخلي لتحقق العدالة والاستقرار والاتزان أو تفشل في ذلك.

 لا بد أن تجد نفسك كمسؤول تنظيمي أمام عقدة أو مشكلة، أو بمواجهة أزمة تتلاحق فيها الأسباب والأحداث والنتائج وتتشابك (فتفقد السيطرة عليها وعلى اتجاهاتها المستقبلية – كما هو تعريف الأزمة) ولنا في ذلك عديد الأمثلة، فهل نستطيع القول أن حركة فتح ناجحة أم فاشلة في حل الأزمات؟ نعم نستطيع أن نقول بوضوح ومن خلال تقييم قطعي وعام، فمن يخرج في كل معركة (أو معظم المعارك) عسكرية أو سياسية او تنظيمية دون أن يكسر ظهره، ودون أن يصاب بالاحباط واليأس، ودون ان يفقد البوصلة، ودون أن يفقد جماهيره  فهو بالضرورة تنظيم مؤمن ثابت صلب قادر على تجاوز الأزمات وحلها.

 

حراكية حركة فتح في 3 أمور

حراكية (ديناميكية) الثورة وحركة التحرير الوطني الفلسطيني- فتح تظهر جليا في قدرتها التاريخية والتنظيمية والسياسية على التعامل مع  ثلاث أمور رئيسة:

1- قدرتها على التعامل مع المستجدات سواء في الأفكار أوالوسائل (لننظر لعمق المتغيرات في ظل انتشار وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي على الشابكة وما يعكسه ذلك على تفكير وميول وقيم وسلوك الأفراد وعليهم في التنظيم) والتعامل مع المستجدات في ذات الشخص-العضو نفسه.

2- قدرة التنظيم على التعامل مع (الواقع) ورؤية المتغيرات فالنظرة الصحيحة هي في النظر الى أن العوامل المتحكمة بالواقع يجب أن تُفهَم، إما للانخراط في معادلتها أو قلبها أوتعديلها أو الثورة عليها، وفق طبيعة ما نحمل من فكر وما نمتلك من قدرة وما نشتق من رؤية لهذا الواقع من جهة وللمتغيرات التي قد تقلب الواقع رأسا على عقب. وكما كان يردد المفكر والقائد الفتحوي هاني الحسن فان القائد الذي لا يدرك المتغيرات هو كجدتي إذ تستطيع أن تقرأ أو تشخّص الواقع وربما تحلله وهنا يكمن الفرق.

3- قدرة التنظيم على التعامل مع الأزمات، وما في ذلك لدينا شك، فكم من أزمة مرت بها الحركة منذ  رفض الواقع العربي لإنطلاقتها، ومنذ أزمة قرار الانطلاقة وتوقيته عام 1964 ، وليس ختامها اليوم عام 2014 في أزمة المؤتمرات التي عقدت مؤخرا في الوطن، ومدى تطابقها مع النظام الداخلي من عدمها، وما نعانيه حاليا من أزمات في المفاوضات والمصالحة، وفي وسائل عمل لجنة المتابعة التنظيمية وفي تفعيل المقاومة الشعبية .....الخ.

إن القدرة لدى قيادة التنظيم على التعامل مع الأزمات لم تعن يوما أن أي حل لأي أزمة كان تام الصواب، أو أن تخيّر البديل فيه من مجموعة بدائل كان الأنجح بالضرورة، أوأنه لم يخلف آثارا جانبية ، عدا عن أن الحركة في بعض مراحلها تركت الأزمة تتصاعد وتتشابك لتحل نفسها بنفسها ما حصل في تعاطيها مع المنشقين عام 1993  اتُّهمت القيادة الفتحاوية ظلما –ما انعكس على وصم كل الحركة-بالتهاون أو الفوضى أو المزاجية أو الشخصانية والشللية (الاستزلام) في مراحل محددة أو مواقف بعينها بحيث عكس الأشخاص أصحاب الاتهام هذه المواقف المحددة على مجمل الحركة ضمن عقلية التعميم لحالة وافتراض أن تعبر عن أزمة بينما في حقيقة الأمر هي في ذات صاحب التعميم من التجربة الخاصة أو الموقف المحدد هذا من جهة محددة، أما من جهة أخرى فإن ما يسميه أولئك الفوضى أوالتهاون نتيجة الإرجاء أو التأخر في حل المشاكل أوالأزمات هو لسبب صفات ثلاث تتمتع بها قيادة حركة فتح وكوادرها وهي: الانتماء، والحب، والصبر، ما يعني رحابة التقبُّل وكظم الغيظ وتحمل الألم والاستيعاب بكل طاقاته الايجابية للاشعاعات السلبية.

 

في الأزمة والصبر

لقد كان لعمق الانتماء الفلسطيني أن تسامحت الحركة مع الكثيرين من أجل خاطر الوحدة الوطنية، ونتيجة قانون المحبة في الحركة تجاوزت عن اساءات وتهجمات واتهامات بل وحرب الكثيرين ضدها في بعض الحالات، ولاتسامها بالصبر كما كان في شخصية ياسر عرفات الذي كتب فوق رأسه في مكتبه ببيروت (سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري)، هذا الصبر هو الذي جعل حركة فتح تتلقى طعنات القريب قبل البعيد بحلم و أناة وطول بال ما جعل كثير من مشاكلها وأزماتها تطول أحيانا - هذا صحيح برأينا- مخالفة بذلك الأصول العلمية للتعامل مع إدارة الأزمات.

يقول العلماء أن الأزمة كمفهوم تأخذ (بعد الرعب والذعر الناجم عن التهديد الخطير للمصالح والأهداف الجوهرية الخاص بالمنظمة حاليا ومستقبليا الأمر الذي تختل وحدته بالكامل) كما تأخذ ايضا ببُعد الزمن وهو الوقت، الذي(هو الوقت المتاح أمام القيادة لادارة الأزمة لاتخاذ قرار سريع حازم  وصائب لا يتضمن أي خطأ- الخضيري 1990:54)

  للأزمة مراحل أربعة هي مرحلة الإنذار ومرحلة نشوء الأزمة ومرحلة الانفجار ثم مرحلة الانحسار، وما يرافق ذلك من مناخ مهيّىء مشجع على استفحالها ضمن العوامل الذاتية والموضوعية وما عدم الاكتراث أو الاستهتار ببوادر الأزمة إلا دلالة على عدم قدرة على التنبؤ أو عدم التصديق بإمكانية حدوث أزمة حيث (يؤتى الحذر من مكمنه) أو لإهمال وتركيز في اتجاه آخر كما حصل مع قيادتنا في الحركة في الكثير من الأزمات التي يحتاج كل منها للدرس والاعتبار.

 

خلاصة

قلنا أن منطق الصراع في حركة فتح لم تكن نتيجته حصول التضارب الى حد الفوضى العارمة والاقصاء ، ولم تكن نتيجته غالبا جيوش تتحارب وتتقاتل وإنما كثيرا ما كانت محصلته التقارب والابقاء على المختلفِين وما عدا ذلك شذوذ.

إن مفهوم حسن الاتصالات والحوار والمشاركة في حركة فتح في ظل فيوض من الاتصالات اللامنقطعة أفقيا وعموديا وفضائيا، وفي ظل صراع المدارس ما بين الديمقراطية المفرطة والمركزية الديمقراطية والاستبداد الديمقراطي تحتاج منا لإغناء، كما تحتاج لتفكير عميق ودروس نتعلمها، فلا نخجل أن نعود في كل مرة تلاميذ في مدرسة حركة فتح وفي مدرسة الجماهير وفي مدرسة الحياة.

  التنظيم (المنظمة ) كائن حي، لكن عمره قد يتجاوز عمر الانسان كثيرا جدا فينمو ولا يضمر ويسمو ولا يتبدد ويرتقي ولا يشيخ إن استطاع أن يحقق شروط البقاء وطول العمر.

إن بقاء التنظيم وطول عمره يحتاج لمجموعات من الشروط هي شروط التجدد وشروط التمدد (التوسع) وشروط الاستمرار.