جميعنا يدرك أن المفاوضات تحتاج إلى مقومات حتى تُؤتي ثمارها وحتى تصل إلى النتائج المرجوَّة، فالمفاوض الفلسطيني وأي مفاوض آخر يجب أن تكون لديه عوامل القوة والضغط على الطرف الآخر لحمله على الاعتراف بالحقوق، كما أن من يفاوض يجب أن تكون لديه الخيارات المتعددة بما يتناسب مع ظروفه والمعادلات المحيطة به، وأيضاً فإن من يريد أن يفاوض عليه أن لا يبدأ من الحد الادنى وانما الحد الأعلى، وأن يُعدَّ العُدَّة داخلياً وخارجياً،وأن يحشد حوله مختلف الأطراف الصديقة، وان لا يفكر في لحظة من اللحظات بالتنازل عن أي ثابت من الثوابت الوطنية، لأنَّ مثل هذا التنازل يعني أن المواجهة ستصبح بينه وبين فريقه وليس مع الطرف المعادي.

إنَّ ذهاب القيادة الفلسطينية إلى المفاوضات غير المباشرة جاء بعد شهور من معارضة الرئيس أبو مازن لأنه يعرف خفايا الموقف الاسرائيلي الذي لا يريد أصلاً لا مفاوضات غير مباشرة، ولا مفاوضات مباشرة في هذه المرحلة، وهو يريد هذه المفاوضات غطاء للمشروع الاستيطاني والتهويدي.  وأمام الضغط الاميركي الذي مارسه أوباما على الطرفين للبدء في المفاوضات غير المباشرة ( المفاوضات التقريبية ) حفاظاً على سمعة ودور الولايات المتحدة الذي بدأ بالتراجع على صعيد قضية الشرق الأوسط، لم يكن أمام الرئيس ابو مازن إلاَّ أن يختار الخيار الأنسب لكن دون أن يدفع خسائر، ومن أجل تفويت الفرصة على القيادة الاسرائيلية التي كانت تنتظر موقفاً سلبياً من القيادة الفلسطينية حتى تستثمره في حملات التحريض الاعلامية دولياً والاساءة إلى السلطة الوطنية.

منذ الجلسة الأولى للمفاوضات غير المباشرة والاسرائيليون يصرِّحون بأنَّ هذه المفاوضات لن تؤدي إلى نتائج، وانه لا بد من الذهاب إلى المفاوضات المباشرة، وتناول قضايا الحل النهائي دون تدخُّل طرف ثالت.  كما أن الحكومة الاسرائيلية وجَّهت صفعات مخجلة ومحرجة لجون بايدن نائب الرئيس الاميركي، ولجورج ميتشل نفسه بالاعلان عن كل زيارة عن قرار إسرائيلي ببناء وحدات سكنية إضافية في القدس، وبهذه الطريقة تمَّ تدجين وتطويع موقف أوباما الذي بدأ بالتراجع عن مواقفه السابقة، فهو أول رئيس يأخذ قراراً بمطالبة الكيان الاسرائيلي بوقف الاستيطان، وحل الدولتين، إلاَّ أنَّ الكيان الاسرائيلي أجبر أوباما على التراجع بخصوص الاستيطان.

إنَّ المفاوضات المباشرة التي بدأت بموافقة عربية من لجنة المتابعة العربية كانت معقدة فهي محددة بأربعة أشهر، وبطبيعة الحال تفتقر إلى المرجعيات الواضحة، وهي مفاوضات بين ثلاثة أشخاص ،ميتشل، والرئيس أبو مازن، ونتنياهو، أي ليس هناك فريق فني مشارك، ولذلك فالمطوب من هذه المفاوضات أن تكون غير فاشلة حتى لا تتفاقم الأزمة، وغير ناجحة حتى لا تتم الاطاحة بحكومة نتنياهو اليمينية.  وهي مفاوضات تحاول أن تعزِّز وضع السلطة شيئأ ما لكن لا بدَّ من الابقاء على الانقسام، والمطلوب أن يكون هناك تحسين نوعي في الضفة لكن في ظل الاحتلال، والمطلوب عدم حسم الملفات المتعلقة بالحل النهائي لأن إسرائيل غير جاهزة للسلام، والجانب الفلسطيني بأوضاعه الداخلية غير قادر على الوصول إلى حلول مرضية.  كما أنَّ السياسة التي اتبعت في مواكبة المفاوضات غير المباشرة وبدعم أميركي هي توسيع الاستيطان مقابل إزالة بعض الحواجز وبعض التسهيلات.  ولكن أهم ما حصل خلال هذه الفترة إلى جانب الاستيطان هو مواصلة هدم البيوت، وتنفيذ قرارات الابعاد، واستمرار حصار غزة.  كما أنَّ إسرائيل تشترط على العرب والفلسطينيين للسير في هذه المفاوضات عدم الموافقة على القرارات التي تدين إسرائيل بالإجرام، والعنصرية، والارهاب.

الاسرائيليون الآن يعدون أنفسهم لكيفية التعامل مع المفاوضات المباشرة بحيث يستفردون بالمفاوض الفلسطيني، واغراقه في التفاصيل من أجل عدم الوصول إلى نتائج أو إملاء وفرض الحلول الاسرائيلية، وهذا يتطلب برأي نتنياهو تقليص وإذا أمكن إبعاد أي تأتير أميركي في المفاوضات قد يشكل ضاغطاً على اسرائيل.  أما الطرف الفلسطيني فعليه أن يتجاوز هذا القطوع الصعب، وأن يبحث عن الخيارات الأسلم والاكثر فاعلية.  وأن الاقتراح الاميركي بتمديد فترة تجميد الاستيطان مقابل المشاركة الفلسطينية في المفاوضات المباشرة لا يمكن قبوله لأنَّ هناك ما هو أهم للقبول بالمشاركة في المفاوضات المباشرة خاصة المرجعية ، والوضوح ،  والسقف الزمني والأفق.  والرئيس أبو مازن لن يوافق على أية حلول من شأنها نسف الحقوق والثوابت الوطنية وتجربة كامب ديفيد اثنين التي خاضها ياسر عرفات الرمز والقائد  ، ورفض التنازل لا شك ان الموقف نفسه هو الذي سيتكرر مع الرئيس أبو مازن الذي عاهد شعبه على عدم التنازل عن الثوابت الوطنية.  والرئيس أبو مازن بخبرته السياسية الطويلة وتجربته المديدة في المجال التفاوضي يعرف كيف يختار خاصة في قضايا مفاوضات الحل النهائي، وهي قضايا وطنية بعيدة المفترض أن تكون عن الخلافات والاجندات السياسية المتباينة، فهي من الثوابت. 

والرئيس أبو مازن وكافة الاخوة المعنيين بمتابعة المفاوضات سياسياً وإعلامياً اكدوا بأنه لا يمكن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة إلاَّ إذا حصل تقدم على صعيدي الأمن والحدود، ووقف واضح وشامل للاستيطان والتهويد  ، وهذا ما سبق أن تم الاتفاق عليه في كافة الاتفاقات والتفاهمات مع الجانب الاسرائيلي الذي تبرَّأ من كافة الاتفاقات.

والرئيس أبو مازن سبق له أن أوضح بأنَّ لجنة المتابعة العربية اكدت انه بعد انتهاء فترة الشهور الاربعة ستدعم عملية التوجه إلى مجلس الامن الدولي لطلب الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران العام 1967 لاكتشاف نيات واشنطن والمجتمع الدولي ،  ومعرفة من سيستخدم الفيتو ضد حقوق الشعب الفلسطيني ،  وفي هذه الحالة سنكون في وضع أفضل بكثير من الانتقال إلى مفاوضات مباشرة محكوم عيها بالفشل منذ البداية.  وحتى لو حصل هناك استخدام للفيتو في مجلس الامن، فبالإمكان مبدئياً الذهاب إلى الأمم المتحدة وأخذ الموافقة منها حيث لا يوجد استخدام للفيتو، وهذا الخيار له تأثيره السياسي والمعنوي ويعزز الدور الفلسطيني دولياً. الرئيس ابو مازن خلال فترة المفاوضات غير المباشرة أجاب على كافة الأسئلة التي طرحها ميتشل وذلك خطياً، وطلب من ميتشل الإجابة من الجانب الاسرائيلي على الأسئلة المطروحة لكنه لم يحصل على الإجابة وهذا عنوان آخر لفشل المفاوضات  مستقبلاً.  كما طلب الرئيس ابو مازن بأن أية مفاوضات مستقبلاً يجب أن لا تبدأ من الصفر، وانما من النقطة التي وصلت إليها المفاوضات السابقة.

زيارة نتنياهو الأخيرة إلى البيت الابيض والاستقبال الحار الذي وجده عند أوباما بعكس المرات السابقة عندما تمنَّع عن استقباله رداً على الاساءة التي سببتها الحكومة الاسرائيلة لأوباما ونائبة جون بايدن، هذا الاستقبال شكَّل تحوُّلاً ومنعطفاً في سياسة أوباما الاميركية تجاه القضية الفلسطينية، ومشكلة الشرق الاوسط بشكل عام.  هذا التراجع في موقف أوباما يؤكد أن المؤسسة الاميركية هي الأساس، وان اللوبي اليهودي والصهيوني مهمٌّ جداً في قرارات الرئاسة الاميركية، وأصبح الموقف الانتهازي لأوباما ابن الحزب الديموقراطي مكشوفاً، وانَّ ما سبق أن طرحه أوباما من قيم ومبادئ وتعاطف مجرد كلام لا يصلح للتنفيذ أمام الضغط اليهودي الاميركي.  ففي اللقاء الاخير بين نتيناهو وأوباما زال الخلاف تماماً، وتم التأكيد على أمن إسرائيل والالتزام الاميركي به، كما تم التطابق في الموقف حول الملف النووي الايراني، وتشكيل غطاء لاسرائيل من أي مطالبة لها للكشف عن ترسانتها النووية، كما أن التوافق حصل بين الجانبين على دعوة السلطة الوطنية للدخول فوراً في المفاوضات المباشرة، كما اتفقا على أنه ليس هناك أي التزام إسرائيلي بتجميد الاستيطان، رغم ادعاءات نتنياهو بأنه "مستعد للقيام بتنازلات أليمة".  وبهذا التنازل من أوباما فقد  وضع القضية الفلسطينية في زاوية تتحكم بها إسرائيل حيث رفعت واشنطن عن نتنياهو كافة الضغوطات والاشتراطات، ومنحته الحرية الكاملة، وأضعفت الجانب الفلسطيني، وتخَّلت عن دورها الوسيط الذي وعدت به.

ما حمله نتنياهو من هذه الزيارة هو ما سّماهُ "رزمة خطوات لبناء الثقة" مع السلطة وتشجيعها على الدخول في المفاوضات المباشرة ومن بين هذه الخطوات:  وقف نشاط جيش الاحتلال في عدد من المدن، وإزالة عدد من الحواجز، ونقل المسؤولية الأمنية في مناطق أخرى للسلطة، وتسليم السلطة مساحة كافية لشق طريق للمدينة الجديدة (روابي).

وطبعاً هذه الخطوات لا تساوي شيئاً أمام القضية الجوهرية المطلوبة لتعزيز الثقة مع أنه لا ثقة مع الاحتلال الغاشم ـ  فالمطلوب إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، والمطلوب وقف الاستيطان والتهويد، والمطلوب وقف الإجراءات الاستفزازية والحفريات تحت الأقصى، والمطلوب السماح لأهلنا بالصلاة في المسجد الأقصى، والمطلوب فك الحصار عن قطاع غزة، والمطلوب وقف سرقة المياه الجوفية من أرضنا، والمطلوب وقف سياسة الابعاد لأهالي القدس وغيرهمٍ، ووقف سياسة هدم البيوت، وضرورة تدمير الجدار العنصري المُدان بقرار من محكمة لاهاي الدولية، والمطلوب الأهم وهذا حقنا الذي أجمعت عليه قرارات مجلس الامن والامم  المتحدة وهو الانسحاب الكامل من الاراضي المحتلة في العام 1967، والعودة إلى حدود الرابع من حزيران.

تراجع أوباما عن موقفه السابق أعطى الضوء الأخضر لاسرائيل لممارسة سياساتها العدوانية على الجميع.  كما أنه اعتراف بالكتل الاستيطانية أي العودة إلى الوعد المشهود الذي أعطاه جورج بوش الابن لشارون بأنَّ المستوطنات هي أمر واقع، وأنه لا يوجد حق عودة للاجئين.  هذا الواقع يؤشر إلى وجود خطة إسرائيلية جهنمية ستمر بحماية هذا التفاهم العميق الاميركي الاسرائيلي، وتصريحات ليبرمان وزير خارجية العدو عن عدم وجود فرصة لإقامة دولة فلسطينية من الآن وحتى 2012، وأيضاً دعوته للتخلي عن مبدأ "الأرض مقابل السلام"، واعتماد سياسة جديدة تقوم على "مبدأ تبادل الارض والسكان"، هذا يدل على ان حكومة اسرائيل العنصرية ماضية في سياسة تصفية القضية الفلسطينية.  ولعلَّ أهم ترجمة فعلية للموقف الاسرائيلي هي الاجراءات الديموغرافية الاستيطانية والتهويدية التي أقرتها "اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء في القدس" وهو خريطة هيكلية جديدة لمدينة القدس تشتمل على توسيع الاحياء الاستيطانية ، وبناء وحدات جديدة سكنية في أحياء وأماكن مختلفة، وتنفيذ مشروع "الحديقة التوراتية" التي ستكون واجهة للهيكل المزّعوم، وواجهة لمدينة داود التي ستقام بدلاً من بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، إضافة الى مشاريع بناء أخرى مدِّمرة لمستقبل المدينة.

الخيارات أمام القيادة الفلسطيني بشأن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة معقدة، ولا بد دراسة الاحتمالات والتداعيات في مثل هذه الحالة خاصة أن الولايات المتحدة قد نفضت يديها من إمكانية أن تكون وسيطاً نزيها وأصبحت منحازة، وأن نتنياهو الذي يقود حكومة يمينية ستخدم المفاوضات كغطاء لتمديد الاستيطان ويريد مفاوضات من دون مرجعيات.  وأن المجتمع الدولي الذي عبَّر عن مواقف سياسية متقدمة إلاَّ أنه لا يجرؤ على ممارسة دور ضاغط وملزم على إسرائيل، والوضع العربي ما زال منقسماً ويعيش حالة من التجاذب، وهذا ما انعكس حتما على الواقع الفلسطيني فساعد في إبقاء الانقسام مما أضعف القيادة الفلسطينية، وأحاطها بالعديد من الارباكات.

الآن في هذه المرحلة المطلوب من القيادة الفلسطينية ما يلي:

1ـ التمسك بالشروط التي أُعلن عنها للقبول بالمشاركة في المفاوضات المباشرة وهي الوقف الشامل للاستيطان بما في ذلك القدس.  وتحديد الفترة الزمنية المطلوبة لإتمام المفاوضات حتى لا تكون مفاوضات من أجل المفاوضات،ولا بد من تحديد المرجعيات الواضحة:  القرارات (242) و (338) و (194) والمبادرة العربية للسلام، وحل الدولتين، وأيضاً توفير الغطاء العربي الضروري كداعم في معركة المفاوضات.

وهذا يستوجب من القيادة الفلسطينية دراسة الخيارات على أعلى المستويات، واتخاذ القرار الذي يخدم اهدافنا الوطنية، ويحمي جبهتنا الداخلية، ولا يعطي فرصة جديدة للعدو للاستفادة بتحقيق مخططاته.

ولا بد أن نضع لكل خيار آليته، وأدواته، وحساباته سواء كان المشاركة في المفاوضات أو الذهاب إلى مجلس الامن للمطالبة بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

باختصار المفاوضات غير المباشرة فشلت كما كان متوقعاً لها، والموقف الفلسطيني فيها كان صلباً ومبدئياً.  والمفاوضات السرية لا تفيدنا لأنها تعطي الفرصة لإسرائيل للاستفراد، بنا وتحرمنا من تجييش العالم إلى جانب حقوقنا، والمفاوضات المباشرة لا تنجح إلاَّ إذا التزمت إسرائيل بالمرجعيات المحددة دولياً، وأوقفت الاستيطان بالكامل.  والذهاب إلى مجلس الامن الدولي للحصول على قرار بالموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الاراضي المحتلة في العام 1967 هو خيار عربي فلسطيني مدعوم من العديد من الجهات الصديقة،وهو يستند إلى قرارات الشرعية الدولية.