لن نقبل أموال الشعب الفلسطيني منقوصة، لأنَّ قبولنا باقتطاع مخصّصات الأسرى وعائلات الشهداء يعني إقرارنا بعدم شرعية نضالنا وكفاحنا والمصادقة على رواية الاحتلال بأنَّ الأسرى والشهداء إرهابيون وهذا ما لم ولن نفعله ما دمنا على قيد الحياة.

أعلاه كان رد الرئيس أبو مازن على عروض الغزاة المحتلين الإسرائيليين في نظام تل أبيب العنصري، فهؤلاء الذين تستحكم فيهم عقلية الاستكبار، والاعتقاد بقدرتهم على شراء ضمائر الأحرار ظنوا أنَّ الرئيس أبو مازن في مأزق وأنّ عروضهم ستكون مغرية وقد يقبلها رغم أنَّهم جاءوه على أربع هيئات واقتراحات رفضها جميعًا لأنَّ فيها التفافا على حق الفلسطينيين بأموالهم، والأهم على المبادئ الناظمة لمواقف وقرارات الرئيس والقيادة، وانتقاص مقصود لكرامة الشهداء والأسرى، وأُولى الضربات إلى ضمير الثورة الفلسطينية المعاصرة ومبادئ وقِيَم وشرع حركة التحرّر الوطنية الفلسطينية، فرجعوا خاسئين.

اعتقد البعض أنَّ على الرئيس والقيادة قبول أموال المقاصة التي تجبيها سلطات الاحتلال وترفعها للسلطة الوطنية منقوصة حتى لا يمر المواطنون وتحديدًا الموظفون بأزمة، ومن ثُمَّ تتم المطالبة بالملايين التي اقتطعتها حكومة نتنياهو بقانون لا يمكن وصفه إلّا بقانون جبروت واستبداد عنصري، وغاب عن ذهن البعض أنَّ هدف التحالف الأميركي الإسرائيلي هو تدمير ركائز المشروع الوطني، وتبديد فكرة التحرّر الوطني، وسلخ الشعب الفلسطيني عن هُويّته وثقافته الوطنية، وتركه عاريًا في الدنيا كمجموعات بشرية تبحث عن مأوى ومكان لجوء ومسكن وغذاء ومال للعيش فقط، فهذا الجانب اللامرئي وغير المعلَن هو الهدف الأهم لدى تل أبيب وإدارة دونالد ترامب الأميركية، فصدمهم الرئيس أبو مازن برؤيته البعيدة المدى وبقدرته على قراءة أفكارهم وسياساتهم، وشجاعته في قول (لا) حاسمة واضحة لا لبس فيها عندما تتعارض طروحاتهم أو سياستهم أو عروضهم مع مبادئه كمناضل وقائد وطني ومصالح الشعب الفلسطيني، ونعتقد بعد تجاربهم معه باتوا يدركون أنَّهم بمواجهة شعب في قامة رئيس وأنَّهم بمواجهة رئيس بقامة وضمير الشعب.

ظنَّ العنصريون المحتلون المستوطنون في حكومة دولة الاحتلال أنّ إغلاق الباب على أموال الشعب الفلسطيني (المقاصة) سيدفعهم إلى القطع مع مبادئ ثورتهم وحركة تحررهم الوطنية، وقِيَمهم الأخلاقية والوطنية الفردية والجمعية، وربما ذهبوا إلى أبعد من ذلك فتخيلوا مشهدا لا يفكر فيه الفلسطيني إلّا بنفسه ومصلحته الشخصية، لكنَّ المقدسيين سرعان ما هدموا أركان خيالاتهم المقطوعة أصلاً عن أي فكر أو منهج عمل إنساني.

هبَّ الفلسطينيون المقدسيون لفتح (باب الرحمة) في ذات اللحظة التي قرر فيها المحتلون إغلاق باب أمل على الأسرى وعائلات الشهداء، وخصم رواتب الأسرى والشهداء من أموال الضرائب الفلسطينية الواقعة تحت سيطرتهم بحكم اتفاقيات سابقة.

غرق المحتلون في الاعتقاد بان القيادة الفلسطينية لن تستطيع إيجاد بدائل، لكن الإرادة الحرة، ومعاني الكرامة المتأصّلة لدى كل مناضل في موقع القرار والمسؤولية، واعتبار الوفاء للشهداء والأسرى بمثابة الامتحان الوطني الصعب، كانت وما زالت عوامل الدفع للعمل على ضمان ديمومة الأمل بالحياة والحرية والاستقلال لدى كل فلسطيني شهيدا ارتقت روحه أو أسيرًا أو صامدًا في أرض وطنه أو لاجئا ينتظر لحظة العودة.

الأقصى مسجد مقدس لدى كل المؤمنين في العالم وليس لدى المسلمين وحسب، وأرواح الذين يقاتلون في سبيل أوطانهم تحسبهم ثقافات الشعوب والأمم بدون استثناء شهداء ما يعني أنَّها في درجة عالية من القدسية. أمَّا الأسرى فإنّهم كانوا في هذا الحسبان، لكن الوقائع الزمانية والمكانية منَّت عليهم بالحياة، فاخذ منهم الغزاة المحتلون الحرية وهو اثمن ما يمتلكه الإنسان، وكل ذلك في سبيل حرية واستقلال الشعب الذي ينتمون إليه، وبما أنَّ للحرية قداسة لا يختلف عليها عاقلان، تحرير أحد أبواب المسجد الأقصى المقدس باعتباره قِبلة المسلمين الأولى في العالم أتى في سياق الوفاء لمقدساتنا.

نحن شعب لا نفصل بين أكان ومقومات ثقافتنا، فلا فصل بين مقدس وآخر، ولا نقطع مع ركن مهما تراكمت علينا الشدائد، فلا حُرّيّة الصلاة والعبادة في المسجد الأقصى قد تجعلنا غافلين عن الحُرّيّة للأسرى، والوفاء لهم ولعائلات الشهداء، ولا النضال في سبيل تحرير الأسرى كثابت وطني، والاستمرار بالوفاء على عهدنا للشهداء قد ينسينا حقنا في الصلاة وحرية العبادة ضمن مساحات رموزنا المقدسة، فكيف إذا قلنا إنّ كل شبر من أرض وطننا فلسطين مقدس.

لم يفهم العنصريون في نظام تل أبيب أن أي انتصار للأقصى هو انتصار لكنيسة القيامة، وأنّ أي إنجاز لكنيسة القيامة هو إنجاز للأقصى، وأن تفاؤلنا يكبر ويتعاظم عندما نحرز انتصارًا مباشرًا متعلِّقًا بحياتنا الروحية، فالمؤمنون الحقيقيون لا يقطعون مع الأمل، لذا تراهم يعملون ثُمّ يعملون، ثُمّ يعملون ويراكمون، ثُمّ يجربون ويستخلصون العِبَر حتى يحققوا خطوة إلى الأمام تقربهم أكثر من لحظة الانتصار والحرية.

لكن الصم العمي في حكومة تل أبيب العنصرية لا يريدون رؤية الحقائق الفلسطينية على الأرض وحسب، بل يمضون في التفنُّن بجرائمهم ضد الإنسانية أي ضد المقدسات التي يجمع عليها كل أبناء آدم في الدنيا ولا تفسير لذلك سوى أنّهم افتقدوا فعلاً معنى القداسة، والرحمة، والسلام، فالإنسان الذي لا يعرف قيمة الحرية، ولا يدرك معنى الوفاء للشهداء، ولا يعلم مدى قدسية أرض الوطن، سيفقد قيمته بسبب عقليته وسلوكياته العدائية وجحده، ومثل هذا المستوطن المحتل العنصري لن يجد بابًا للأمل، لأنّه كان قد أغلق أبواب الرحمة على نفسه وأحكم إقفالها، وحاول بكل ما أوتي من قوة سدها على الآخرين، أمَّا الوطني المؤمن بقداسة الحرية والوطن الذي امتلك مفتاح الوفاء للشهداء والأسرى فلن يعجز عن فتح باب الرحمة ليُصلّي في الأقصى وليمكن أبناء الشهداء من حياة كريمة عزيزة، ويوفي الأسرى وعائلاتهم العهد والحق الطبيعي لهم.