تقرير: وعد الكار

بين أحضان حوش البلبول وسط مدينة بيت لحم العتيقة، الذي اكتست جدرانه القديمة بزهرة الياسمين، وعجّت فيه الحياة من جديد بعد أن كان مهجورا، وتحوّل برد الصمت إلى دفء الإبداع، تتعلم مجموعة من الصم والبكم فن الفسيفساء على يد المدرب خلدون البلبول، ضمن الدورة الأولى من نوعها في بيت لحم لفئة الصم والبكم.

وفي إحدى زوايا المشغل تحنو المتدربة سماح الأقرع على حجارتها الصغيرة، التي تقصها بعناية وتلصقها بكل شغف على لوحتها التي تعبّر عما في داخلها من إبداع، وبلغة الإشارة استطاعت الأقرع أن تشرح عن حبها لهذا الفن، وقالت "إن هذا التدريب جعلها تلفت نظر المجتمع إلى أن ذوي الإعاقة يستطيعون العمل بجدارة دون النظر لهم بعين الشفقة"، مضيفة "أنها تفتخر بتعلمها فن الفسيفساء وهو العمل الذي سيجعلها تعتمد على نفسها ماديا وأنها لن تكون عبئا على أحد، مضيفة أنها تجعل بإحساسها الحجارة تنطق ما تريد إيصاله للناس.

أما الشابة ابتهال حساسنة خريجة الخدمة الاجتماعية فقد دفعها شغفها بأن تكون حلقة الوصل بين المدرب والمتدربين لترجمة لغة الإشارة وتوصل المعلومات بينهم، "أنا أحب أن أعمل مع هذه الفئات وأن أساعدهم وأقف إلى جانبهم، كما أنني أشعر بالفخر بأني تعلمت لغة الإشارة خلال فترة قصيرة، واستطعت أن أذيب عقبات التواصل بين المدرب والمتدربين، وأصبحت أشعر بأني واحدة من هذه المجموعة، وأستمتع بالحديث معهم بلغة الإشارة" تقول حساسنة.

بدوره قال المدرب خلدون البلبول، "إن هذه الدورة تأتي ضمن برنامج تدريبي يستهدف ذوي الإعاقة من فئة الصم والبكم برعاية وزارة الثقافة وبعض المؤسسات المجتمعية في بيت لحم، وتعد الدورة الأولى من نوعها لهذه الفئة في بيت لحم، التي تشجعهم للانخراط بالمجتمع.

وأشار البلبول إلى أن المتدربين في هذا البرنامج استطاعوا التواصل مع الناس على مواقع التواصل الاجتماعي وعرض منتجاتهم من خلالها وتلقي ردود الأفعال الإيجابية التي تدفعهم للاستمرار بكل ثقة، فهم قادرون على استيعاب الفكرة وصياغتها من خلال لوحات فسيفسائية تعبر عما يجول في خواطرهم.

وأضاف "في البداية كان التواصل مع هذه المجموعة بحضور المترجمة حساسنة، لتشرح أساسيات العمل وخطواته، ومع الوقت أصبح التواصل معهم أسهل من خلال لغة العيون وحركة الشفاه، وبذلك أصبح بيننا لغة مشتركة ألا وهي لغة الفن".

وتابع أن "من أهم الصعوبات التي واجهتهم عدم اعتياد أفراد المجموعة على مخالطة الناس، خاصة الفتيات، ولكن مع الوقت أصبح هناك نوع من التعارف والثقة التي تتعزز في أنفسهم يوماً بعد يوم، واستطاعوا النجاح في أعمالهم التي زادت من رصيد الثقة بأنفسهم أمام الناس.

وأكد البلبول أن روح الابتكار حاضرة في أعمالهم، حيث ابتكروا رسومات من نسج خيالهم، ويلحون بطلب الأعمال الصعبة التي تبرز إبداعاتهم الظاهرة جلياً في لوحاتهم الرائعة والتي يعجز كثر عن صنعها بهذه الدقة والإتقان".

واضاف "في بداية الدورة أنجزوا تركيب أشكال هندسية بتفاصيل كبيرة ثم بناء أشكال مباني ومناظر عامة فاستطاعوا خلق صورة كاملة بكل تفاصيلها، وفي المرحلة المقبلة سيتم تعليمهم على "مايكروفسيفساء" على شكل مجوهرات وحُلي ومن ثم رسم وجوه أشخاص بالفسيفساء، مؤكدا أن العمل في هذا الفن أصبح بمنهجية علمية من خلال تدرج الألوان وخيالاتها، خاصة أن أحجار الفسيفساء لا يتم تلوينها تعتمد على الألوان الطبيعية للحجارة.

ويقول المدرب البلبول "إن انتاج الفسيفساء يحتاج الى الدقة والصبر في العمل ولا يخلو الامر من اللمسة الابداعية تبدأ من عملية جلب الحجارة الطبيعية بألوانها واشكالها المختلفة المحلية والمستوردة، وتقطيعها الى اصابع حجرية ضمن مقاسات معينة ومحددة.

ويتابع "توجد اكثر من 5 مراحل مترابطة لإنتاج قطعة فنية من الفسيفساء تنطلق من اختيار الشكل او الرسمة المطلوبة ثم يتم اختيار الحجارة المناسبة وتقطيعها يدويا باستخدام المطرقة والإزميل والكماشة وبعدها تبدأ عملية التركيب والتصفيط حسب نمط محدد مسبقا ولسقها ببعضها البعض على قطعة قماش باستخدام الماء والطحين لنحصل على الشكل النهائي وبعدها نقوم بوضع مادة لاصقة لتثبيت الحجارة في مكانها ثم تترك لتجف وتكون جاهزة للاستخدام".

ويقول البلبول ان "افضل الحجارة لهذا الفن هي ذات الالوان الطبيعية وطريقة الانتاج التقليدية كوّنها تعطي الفسيفساء شكلا فنيا رائعا ومتميزا ومنظرا ثقافيا يحمل معاني كثيرة تختلف كثيرا عن تلك القوالب الجاهزة".

ويتطلع البلبول الى ان يكون هؤلاء المتدربين منارة يتحذى بها، ويؤكد أن ذوي الإعاقة قادرون على العمل بإبداع وان أعمالهم شاهدة على ذلك، لافتا الى انه سيتم عرض هذه الاعمال في معرض في الفترة القريبة القادمة لتسويقها والترويج إليها، معتبرًا أن هذه الخطوة تشجيعية لجهودهم ليستمروا بالعمل في هذا الفن الذي ظهر قبل عشرين عاما في بيت لحم.