أسابيع قليلة على دخول القرار الإسرائيلي حظر التعامل بالنقد، وهو إجراء سيكون له تداعيات كبيرة وفورية على الاقتصاد الفلسطيني، ورغم ان سلطة النقد الفلسطينية تعمل منذ سنوات استعدادا لتجنيب الاقتصاد الفلسطيني، وخصوصا الجهاز المصرفي، التداعيات المحتملة لهذا الإجراء، إلا أن التقديرات، بما في ذلك تقديرات سلطة النقد، ان السوق الفلسطينية على موعد مع موجة تدفقات كبيرة للشيقل، في المرحلة الأولى على الأقل.

القرار الإسرائيلي يمنع التعامل بالنقد في المعاملات التجارية، بما فيها دفع الأجور، بمبالغ تزيد عن 11 ألف شيقل، والاستعاضة عنها بوسائل الدفع الالكترونية، بهدف محاربة التهرب الضريبي، وغسل الأموال، والتجارة غير المشروعة، وتداول العملة المزورة، إضافة إلى تقليل تكلفة إدارة النقد، ما يعني تكدس النقد في خزائن البنوك، ومع ضعف وسائل الدفع الحديثة في فلسطين، في ظل التعاملات اليومية الكبيرة بالعملة الإسرائيلية، يخشى أن تدفقات كبيرة للشيقل إلى السوق الفلسطينية، التي تعاني أصلاً من فائض كبير في هذه العملة.

"هناك استعمال فلسطيني للنقد بعملة الشيقل، فهناك تعامل يومي مع متسوقين من إخواننا الفلسطينيين بأراضي العام 48، وهناك عمال فلسطينيون في الاقتصاد الإسرائيلي. القرار الإسرائيلي سيزيد من استعمال الشيقل لأنه من الصعب التعامل مع فائض الشيقل في إسرائيل في المرحلة الأولى"، قال محافظ سلطة النقد الفلسطينية عزام الشوا. قبل أيام، أعلنت سلطة النقد الفلسطينية عن موعد إطلاق نظام الكتروني جديد للتقاص بين البنوك، في مطلع العام 2019، وبالتزامن معه ستطلق سلطة النقد نظامًا للتعاملات التجارية الالكترونية، وكلاهما يضافان إلى مجموعة من الأنظمة بدأت سلطة النقد تطبيقها منذ سنوات، بهدف تسريع دوران رأس المال، وأيضًا لتعزيز شروط السلامة والأمان في المعاملات المصرفية، وهي بمجموعها، بحسب الشوا، "ستساعدنا في خفض تراكم النقد".

وقال "بالنسبة لنا، نضع معايير ومحددات للبنوك في التعامل مع ما هو قانوني . في المرحلة الأولى، سنكون جميعنا متفهمين، لكن بالنسبة لنا في فلسطين، اعتقد أن المعايير التي نتعامل بها يوميًا ستساهم في تجنيبنا عبء انتقال النقد إلى سوقنا فقط لأنه أصبح هناك قانون لا علاقة لنا به في منطقة أخرى".

المخاوف المحتملة من تدفق الشيقل بكميات كبيرة مع بدء سريان القانون الإسرائيلي الجديد، تضاف إلى مشكلة قائمة أصلاً بتراكم العملة الإسرائيلية في البنوك الفلسطينية، مع مماطلة إسرائيلية مستمرة في ترحيله إلى البنوك الإسرائيلية خلافا لالتزاماتها بموجب بروتوكول باريس الناظم للعلاقة الاقتصادية بين الجانبين.

منذ العام 1994، ترحل العملة الإسرائيلية عبر بنكي "هبوعليم" وديسكونت"، بتكليف حكومي، وعلى مدى العقدين الماضيين، أوقف البنكان أكثر من مرة التعامل مع البنوك الفلسطينية بحجة الحفاظ على البنوك المراسلة في الخارج، وتحت ضغوط دولية، منحت الحكومة الإسرائيلية هذين البنكين، قبل نحو عامين، حصانة ضد أية دعاوي قد تقام عليهما بما يسمى "تمويل الارهاب"، نتيجة تعاملها مع البنوك الفلسطينية، والتزمت بتعويضهما أية خسائر قد تنجم عن ذلك، لكن هذا لم يرق إلى مستوى مطالب الجانب الفلسطيني بحل كامل وشامل لمشكلة تراكم الشيقل في البنوك الفلسطينية.

وقال الشوا "توصلنا مؤخراً إلى آلية جديدة مع البنك المركزي الإسرائيلي لترحيل الشيقل، عبر إنشاء مؤسسة حكومة إسرائيلية تتولى هذا الأمر بدلا من بنكي "هبوعليم" وديسكونت"، إضافة إلى ذلك، اتفقنا على رفع سقف المبالغ المرحلة من 300 مليون شيقل شهرياً إلى مليار شيقل، على أن يرفع السقف في مرحلة لاحقة. اعتقد ان هذا سيحل المشكلة نهائيا".

مصادر الشيقل

لكن ما هي مصادر تدفقات الشيقل إلى السوق الفلسطينية، وما حجم هذه التدفقات؟

لا يوجد رقم دقيق لحجم الشيقل في السوق الفلسطينية، وبحسب البيانات الصادرة عن مؤسسات رسمية مختلفة، فان هناك عدة مصادر لتدفق الشيقل، بعضها واضح وثابت تقريبا، والبعض الآخر قانوني لكن تقديره صعب، وأخيراً تدفقات غير قانونية.

في المصادر الثابتة والمعروفة، هناك نحو 10 عشر مليارات شيقل تأتي إلى الخزينة العامة من عائدات المقاصة، تحول شهرياً بمعدل شهري 800 مليون شيقل، ونحو 13 مليار شيقل تحويلات العاملين الفلسطينيين في الاقتصاد الإسرائيلي بمعدل شهري حوالي مليار شيقل، إضافة إلى حوالي 3 مليارات شيقل سنوياً مشتريات فلسطينيي 48 من الأسواق الفلسطينية، ومثلها صادرت فلسطينية إلى إسرائيل، ومجموع هذه المبالغ حوالي 30 مليار شيقل سنوياً.

يضاف إلى ذلك، ودائع حملة "الهويات الزرقاء"، خصوصا من القدس، في البنوك الفلسطينية، ولا يوجد رقم رسمي بحجمها، لكنها ليست كبيرة لخضوعها لرقابة مشددة من قبل سلطة النقد والبنوك.

المصدر الأخطر، والذي لا يعرف عنه شيئا تقريبا، تلك الأموال التي تدخل نقدا إلى السوق الفلسطينية، على الأغلب على شكل تحويل عملة لدى بعض الصرافين دون تدقيق بمصدرها، وعن طريقهم تدخل إلى البنوك الفلسطينية.

وبحسبة بسيطة، فان كمية الشيقل التي دخلت السوق الفلسطينية، من المصادر الواضحة والثابتة الثلاثة، عائدات المقاصة وتحويلات العمال ومشتريات فلسطينيي 48، في عشر سنوات، تبلغ حوالي 300 مليار شيقل، في حين ما تمكنت سلطة النقد من ترحيله إلى إسرائيل، خلال نفس الفترة، لا يتجاوز 60 مليار شيقل فقط، ويتوقع ان ترتفع هذه الفجوة بين الداخل والخارج من النقد في السوق الفلسطينية، بشكل كبير، مع بدء سريان القانون الإسرائيلي.

تشدّد أكبر في البنوك الفلسطينية

في السنوات الأخيرة، اشتكى التجار من تشدد البنوك الفلسطينية في قبول إيداعات بالشيقل، والذي تبرره عادة بوجود فائض كبير لديها من هذه العملة، مع مماطلة إسرائيلية في ترتيبات إعادة هذا الفائض إلى البنوك الإسرائيلية "ونعتقد ان الجهات الإشراقية والرقابية الفلسطينية، ستتخذ إجراءات أكثر تشددًا في التعاملات النقدية بالشيقل، حيت لا ينتهي الفائض في السوق الفلسطينية مع تطبيق القانون"، قال أحمد الحاج حسن مدير عام البنك الوطني.

وأضاف الحاج حسن: القرار الإسرائيلي من شقين، الأول منع التعامل بالنقد فوق حدود معينة، والثاني الإبلاغ عن تعاملات معينة مع أطراف فلسطينية. الاقتصاد الفلسطيني مرتبط يوميا بتدفقات نقدية كبيرة من إسرائيل، ليس فقط لان الشيقل عملة متداولة رسميا لدنيا، وإنما هناك كميات كبيرة من الشيقل تدخل وتخرج من الاقتصاد الفلسطيني سواء من العمال الفلسطينيين في إسرائيل، أو تسوق فلسطينيي 48 في أسواق الضفة، أو التبادل التجاري بين الجانبين. أي قرار يؤخذ في إسرائيل بهذا الخصوص ينعكس فورا في الجانب الفلسطيني".

وتابع: كل شيقل موجود في خزنات البنوك الفلسطينية، وهو متراكم أصلاً، يعني خسارة للاقتصاد الفلسطيني. شحن هذه الأموال إلى إسرائيل بحاجة إلى ترتيبات تأخذ وقتا طويلاً، والنتيجة خسائر بعشرات الملايين للاقتصاد الفلسطيني".

وحتى نهاية حزيران 2018، بلغ حجم الودائع بالشيقل لدى البنوك الفلسطينية أكثر من ثمانية مليارات شيقل.

الصرافون .. الثغرة الأخطر

وتوقع الباحث في معهد أبحاث السياسات الاقتصادية "ماس"، سمير عبد الله، ان يكون لتطبيق القرار الإسرائيلي "تأثير كبير على الاقتصاد الفلسطيني، فمن الصعب على الإسرائيليين التعامل مع فائض النقد الذي سيترتب على تطبيق القرار، وستكون السوق الفلسطينية وجهة للتخلص من هذا الفائض، الأمر الذي سيرفع فائض النقد لدينا، المرتفع أصلاً لأسباب بعضها غير معروف حتى الآن".

وأضاف: ستكون لدينا مشكلة يترتب على سلطة النقد تحضير نفسها لمواجهتها، ووضع خطة للتعامل مع فائض كبير من النقد بالشيقل، خصوصا إن إسرائيل تعرقل إعادة الشيقل الى بنوكها".

وتابع: سيكون هذا النقد عبء على الاقتصاد الفلسطيني، وعلى البنوك بالدرجة الأولى، وسيخلق مشكلة حقيقية، ما يستدعي قيودا مشددة على التعاملات النقدية بالعملة الإسرائيلية، خصوصا على الصرافين".

وأوضح عبد الله، إن "سلطة النقد تستطيع منع البنوك من قبول الشيقل من أفراد ليس لديهم حسابات في البنوك الفلسطينية أو ليس لديهم تدفقات نقدية بالشيقل معروفة لدى البنوك. تبقى المشكلة في تكدس الشيقل في السوق عن طريق الصرافين، وبعض الشراكات التي تكون مشترياتها ومبيعاتها بالعملة الإسرائيلية".

مشكلة أخرى يتوقع أن تبرز بتطبيق القرار الإسرائيلي، بحسب عبد الله، تتمثل بفقدان قدرة التجار الفلسطينيين تسديد قيمة الواردات من إسرائيل نقدا، وهي مبالغ تقترب من 20 مليار شيقل سنويًا، "وهنا ستبرز مشكلة في التجارة بين الجانبين، تستوجب اتفاقا مع إسرائيل لتجنبها، وإلّا سيكون هناك مضاربات، وخسائر تلحق بالمواطن الفلسطيني".

ارتفاع محتمل في التضخم

احد المخاوف تتمثل في أن يتم التخلص من النقد، خصوصا لدى حملة الهوية الزرقاء من فلسطينيي 48، عبر عمليات شراء واسعة في الأراضي الفلسطينية، ما يتسبب، مع وجود معروض ضخم من النقد، بارتفاع في معدل التضخم، خصوصا في أسعار العقارات.

لكن أستاذ الاقتصاد في الجامعة العربية الأمريكية، نصر عبد الكريم، يقلل من خطورة هكذا احتمال، بقوله "سيبقى استخدام النقد مستمرا في إسرائيل حتَّى بعد نفاذ القانون، ولكنه قد يتخذ أشكالا أخرى بعيدة عن الأجهزة المصرفية الرسمية. في الجانب الفلسطيني قد نشهد اندفاعا للشيقل في الأسابيع الأولى لسريان القانون، لكن البنوك الفلسطينية ستتحوط لذلك جيدا".

كما استبعد عبد الكريم توجيه جزء من فائض النقد في إسرائيل لشراء عقارات في الضفة الغربية، "وأتوقع أن تتدخل سلطة النقد الفلسطينية بالتنسيق والتعاون مع سلطة الأراضي ودائرة ضريبة الأملاك، بجملة من الإجراءات السياساتية تشترط اتمام صفقات بيع وشراء الشقق والأراضي من خلال الجهاز المصرفي، وهذا من شأنه أن يحول دون تدفق النقد من إسرائيل إلى الضفة الغربية"، إضافة إلى اشتراط شراء حملة الهوية الزرقاء لأراض وعقارات في الأراضي الفلسطينية بموافقة مجلس الوزراء.