جميل ضبابات

في هدأة الصباح، تغرق اطراف برية القدس في الهدوء… وما ان تشرق الشمس فوق الهضاب الجرداء حتى يندفع ملتحون بعمامات فاقعة الالوان نحو المنطقة التي أرادها في يوم من الايام القائد المسلم الكردي صلاح الدين الايوبي ان تبدو على هذا الحال، كما يعتقد على نطاق واسع.

مليئة بالمئات من المتعبدين الذين يندفعون لإحياء موسم النبي موسى، وهو مقام ديني في منطقة خالية من السكان.

وقرب المقام اقيم في عهد الايوبيين أثناء حملتهم التحريرية في فلسطين، تنشأ أسواق صغيرة، تؤدي دورها يوما واحدا في العام.

انه يوم دخول المتصوفة الفلسطينيين وغيرهم من القادمين من دول عربية، وغربية الى المقام، وهي سنة شعبية سنوية دأبوا عليها منذ قرون.

واقفا الى جذع نخلة، قال حابس كورشان وهو شاب في الثلاثينات من عمره، "انه يعمل يوما في السنة حين يقدم ناقته لحمل الناس مقابل أجر".

وموسم النبي موسى، واحد من المواسم السنوية التي يحيها الفلسطينيون منذ نحو تسعة قرون، واخذ اهتماما سياسيا ودينيا اعمق بعد عام 1920 عندما تزامنت فعالياته مع هبة فلسطينية ضد القوات الانجليزية.

لكن الموسم الذي يبدأ بعد مسيرة شعبية ذات طابع ديني بدا في العقود الماضية بعمق صوفي.

والمتصوفة يجتمعون هنا ليوم او عدة ايام، وفي الجمعة الثانية من نيسان في كل عام تنطلق مسيراتهم من مدن فلسطين التاريخية صوب المقام الواقع في فضاء مفتوح بين القدس وأريحا قريبا من النقطة التي تستوي فيها اليابسة مع سطح البحر.

وفي هذا اليوم، تفتتح الاسواق الصغيرة، التي تقدم الحلوى، وبعض الاكسسوارات والعصائر والعسل.

وعادة ما تقيم العائلات التي ترتاد هذا السوق الصغير الذي لا يتعدى باعته اصابع كفين ليالي معدودة في المكان.

يقوم بعض الباعة بوظائف لهذا اليوم تدربوا عليها جيدا.

فهناك من يبيع حلوى خاصة قاسية تسمى حلاوة الموسم، وهي مصنوعة من النشاء والماء والأصباغ والسكر.

وهناك مثل كورشان الذي يعرف التعامل جيدا مع الجمال.

وهؤلاء الباعة ملمح أساسي للمكان الديني.

وقال كورشان: "كثير من الناس يريدون ركوب الجمل". ويبدي بعض الذين يرغبون في الاستفادة من خدمة الجمل رهبة ورغبة في ان واحد".

بحسب التقليد السائد في التاريخ المنظور، فإن فرق صوفية تتزاحم للدخول الى المقام في هذا اليوم وملابس اتباعها تجعل من السهل التعرف عليهم، ومن ورائها وقبلها تتقدم عائلات تعيش حياة اجتماعية ليوم او عدة ايام، تنام وتطهو الطعام وتعد المكان لراحتها أثناء الموسم.

قادمين من بعض بلدات شمال فلسطين التاريخية، قال بعضهم مصطحبين أبناءهم، انه سيعدون طعاما للزوار هذا اليوم.

وشوهدت مغارف واوان من المنيوم تنقل في الصباح الباكر للمقام، استعدادا لنهار اختلط فيه الديني بالشعبي بالتجاري.

انها تبدو حياة كاملة ليوم واحد.

فالباعة على قلتهم، يعرضون بضاعتهم، تماما، مثلما يحدث في ازقة الاسواق الداخلية، لكن هذه المرة في فضاء مفتوح يحيط بمكان ضيق.

بالنسبة لعامر جابر، وهو عضو في جمعية تعاونية تعنى بتربية النحل، في مدينة اريحا التي تبعد عن المقام نحو 8 كيلومترات، فإن هناك فرصة ليوم كامل لتسويق بعض منتجات الجمعية من العسل، الذي وصفه بالصحراوي.

قال جابر وهو يقدم عينات مجانية صغيرة لا تتجاوز ملعقة واحدة لدفع الحضور على شراء العسل "انه عسل بطعم الصحراء(...) يختلف عن عسل فلسطين".

ولبرهة يتوقف القادمون ويتذوقون العينات المجانية، وبعضهم يمضي الى داخل المقام، لمتابعة الرقص المولوي وهو تقليد سنوي يحدث هنا ايضا، حين تقوم فرق مولوية بالرقص الفردي والجماعي.

وتختلط المعاني هنا، مثلما تختلط الروائح.

فرائحة البخور المنبعثة من غرفة اقيم فيها قبر رمزي للنبي موسى، الذي لم يدخل الى فلسطين البتة، مثلما يقول العهد القديم، تتداخل مع روائح دخان النرجيلة، مع رائحة الطعام، ورائحة العطور الفواحة التي يضعها بعض المتصوفة.

لكن المعاني تختلط بعمق اكثر، فمدائح نبوية تعقب التهجد والتعبد، واهازيج على وقع الطبول، والادوات الموسيقية النحاسية، لا تطغى ايضا على مشاهد تصوير فيلم سينمائي عالمي قرب المقام، او دراجون يمضون بدراجتهم الهوائية في مناطق وعرة قبالة المشهد.

تسقط اشعة الشمس الهادئة في الجمعة الثانية من نيسان فوق رؤوس الحاضرين وقد اعتنت بعض الفتيات بوضع قبعات واسعة فوق رؤوسهن وتبدو مثل تلك التي تظهر في دور عرض الأزياء في منطقة معروفة انها من اكثر مناطق فلسطين التاريخية حرارة في الصيف ودفئا في الشتاء.

تتمازج اغطية الرأس هنا بشكل ملفت، وتظهر الوانها لتعكس فكر الطريقة الصوفية، فهناك الاغطية الحمراء وهناك السوداء وهناك الخضراء.

وفي بيئة رمادية بالكامل، يمكن تمييز ألوان القبعات الدينية وغيرها بنظرة سريعة، وكثيرا ما يمكن العثور عليهم بالنظر.

قال غاندي الباشا (40 عاما) انه يعتمر العمامة الخضراء تيمنا باللون النبوي (كما يعتقد). كان الباشا يرتدي أيضا شالا اخضر وابدى اهتماما زائدا في ثنية فوق كتفيه.

حضر غاندي الى المقام في المرة الاولى عندما كان عمره 8 سنوات، لكنه قال وهو يستخدم عدادا الكترونيا يحصي من خلاله المرات التي يتلو فيها الادعية والاذكار الدينية "انه يرى بركات المكان كلما حضر إليه في الموسم".

والمكان مبنى وفق الطراز المعماري الإسلامي، فثمة القباب المعقودة والأقواس، وهو لا يبعد أقل من نصف كيلومتر عن طريق القدس التاريخي، وقد حظر الاحتفال لفترات في ظل الحكم العسكري البريطاني لفلسطين، لكن اتفاقية أوسلو أتاحت طريقا ضيقا للوصول اليه، ووضع تحت إشراف فلسطيني.

مستغلين هذه الطريق المعبدة وسط التلال الرمادية التي يندفع التراب من حوافها يصل الباعة والصوفيون والزوار والسياح وأعضاء فرق الغناء الصوفي.