بقلم/ جهاد أحمد صالح

في ذكرى أربعينة، مرة أخرى يجتاحنا حزن نبيل، مثلما اجتاحنا منذ اللحظات الأولى لنبأ رحيل الشاعر الكبير علي الخليلي، وكنّا قد تصوّرنا من فرط ما مُتنا، ورأينا من ألوان الموت وجنائزه، أن زمن الإحساس بالموت والتفجّع قد انتهى، لكن موت الخليلي، من نابلس، قد جاء لينبّهنا أن موت الأصدقاء الأحبة، مثلما موت الكبار في التاريخ، لا يمرّ دون أن يحفر في الوجدان حزناً متقداً لا يمكننا أن نفلت من سطوته.

رحل علي الخليلي إلى الأرض التي لم يراها أرضاً للبطولة فحسب، بل وأيضا،ً رأى فيها وكراً لنسور الشعر المقاوم فوق قمة جبل النار، وكل جبال الوطن، من مائه في بحره، إلى مائه في نهره، ناهضاً من رماد المأساة إلى حقه في الحياة، وفي المقاومة والثورة والعدل، حافراً بأصابعه المدمّاة في الليل والحجر بحثاً عن خصوصيّته، دون أن يعترف بما فعلته أنياب جرافات الإحتلال ومخالبها تقطيعاً لأرضه، ودون أن يستسلم لمتاريس السياسة القائمة على سذاجة القبول ببعض الحق، وانتظار الوصول إلى بعضه الآخر الأوسع. وفي خندق الثقافة والشعر، ظل فلسطينياً لا يغادر ظلال التاريخ والجغرافيا والحلم، لا ينوب عن سواه، ولا ينيب عنه أحد، مهما علا شأنه وبلغت سطوته. تلك السطوة التي خضع لها بعض المنافقين في ساحتنا الثقافية، الذين زيّنوا للسطوة بالدعوة للقبول بالأمر الواقع، والبعض الذي نصّب نفسه قيّماً على مشروعنا الثقافي مخبّئاً في جيوب بنطاله دماءً نزفت من أجل الحلم، وبعض قصص الأطفال والحكايا قبل التكوين.

أمه، والأرض، والذاكرة ظلّت دخيلته بالحرية التي يرضاها لنفسه، ويختارها لقصيدته الرافضة للسقوط، هكذا يقول:

انتظري!

لم أسقط. لم أفقد ذاكرتي

لون العشب هو

الأخضر، والزيتون جميل جداً يا أمي

انتظري!

ما زال الصبح يهدهدني قبل الصّحوِ

ويرسمني في الدفاتر،

والشارع،

والماء...

انتظري!

بابنا مغلقٌ

من يقرع / الوردَ لملمنا ثم بعثرنا في الأناشيد

من يفتح / الأرض نائمةٌ

آ ... حبيبي،

وآ ... غائب لم يعد من سنين

2 ـ

بين ضوء القصيدة، وظلمة الزمن القسرية، فتح علي الخليلي لغته الشعرية على الرياح من جهاتها الأربع، وقراءة شعره تشعرنا منذ اللحظة الأولى بالعزّة والسمو والإباء ... وبمعنى الكرامة الإنسانية في جميع تجلياتها، ومواقعها. فكلما توغّلنا في شعره نكتشف ذلك الوجدان اليقظ المتنبّه إلى موقع العدالة والحرية، المطالبة بالحق، والمنادية بانتزاعه قولاً وسلوكاً.

في شعره نرى الوطنية بأبهى صورها ووضوحها، فإلى جانب الإصرار على المقاومة والثورة، نجده صوتاً إنسانياً رهيفاً يتلمّس عذابات شعبه ومعاناته كمسألة إنسانية فائقة الرعب، ونجده العقل المنفتح على الثقافة الإنسانية التاريخية والمعاصرة، فلم يكن لسان حال المقاتلين في خنادق المواجهات، ولا لسان حال الأشجار والأحجار التي تئن وطأة الإحتلال، ولا لسان حال شعبه الذي يتعرّض للإقتلاع فحسب، بل كان، إلى جانب كل ذلك، ناياً غائراً بأنغامه الحزينة والمتمرّدة معاً، ففي رحلته الشعرية التي امتدت نحو سبع وثلاثين سنة ( من 1973 حيث صدر ديوانه الأول: تضاريس من الذاكرة، إلى 2010 بعد صدور ديوانه الأخير: شرفات الكلام)، نظم فيها ثلاثمائة وخمس وثلاثين قصيدة، جاءت في أربعة عشرة ديوان من الشعر، في هذه الرحلة ظلّ علي الخليلي يحاول اختراق الصعب في اللغة وفي المعنى نحو اكتمال الصعود الذي حافظ عليه مستمراً ومتواصلاً، ويحاول أن يجد التوزان الذي يرضى عنه في الفكر السياسي كما في الوجدان الإنساني، دون أن يؤرقه طلب وظيفة، أو موقع سلطوي أو منفعة شخصية. يواجه الحقيقة ويعلن موقفه بصدر مكشوف، حافي القدمين مرفوع الرأس، يتأمّل كارثته كإنسان وُجد على هذه الأرض العابقة بالتاريخ تمور في مرجل الأحداث العاصفة، وكارثة شعبه المقتلع إلى مخيمات اللاجئين في الشتات والمحاصر والمكبّل على أرض وطنه بأغلال الإحتلال وغطرسته.

يتأمّل، ويتألّم، ويحزن، لكنه لا يتخلى عن حلمه قيد أنمله، فيقول:

أحلم كل ليلة

بذلك الباب الذي كنت صغيراً عنده،

أصغر من خشبه فيه،

وأصغر من الأعشاب حول دفّته

ألمسه فينفتح

عن جنّة وراءه،

عن جنّته

شجرة التوت على مدخلها تفرح أو تفرش لي أوراقها

يا توت، يا توت الذي يصبغ كفي وقميصي

راقصاً ألتقط الحبّة، أم حلمتها

حمراء في فمي

أطيرُ أرتمي

وثمة الليلة، أنسى الحبّة التي عرفتها

شجرةً شجرةً

وأذكر الباب وأطرق ثلاثاً ثم عشرين

فلا يفتح لي صدراً، ولا تردّ عشبه

3 ـ

كتب علي الخليلي على صفحة رحيله قبل الرحيل: "ومع الشعر، تعلّمت أن فلسطين وطني، وفلسطين قضيتي، وفلسطين إنسانيتي، تتجلّى في نسيج هذا العشق، صعوداً إلى المعرفة العميقة لموسيقى النفس وموسيقى الكون كله".

وبهذا المعنى الذي حمله في وجدانه، يرحل علي الخليلي إلى أنسجة المكان والزمان على سعة الإمتلاء التراثي الوطني والقومي، وعلى سعة الإمتلاء الحضاري الإنساني في رحلة إبداعية متواصلة الحلقات.

وبهذا المعنى أيضاً، يرحل من بيننا ولا يغيب عنّا، ويقيم سؤاله الأصعب بين الرحيل وعدم الغياب في مواجهة فلسفة الحياة عند كبار الشعراء والمبدعين ورجال التاريخ.

وإلاّ كيف نفهم عدم غياب المتنبي وأمرؤ القيس والبحتري وعمر بن أبي ربيعة وقيس بن الملوح... وغيرهم، وبقائهم في ذاكرتنا، وتراثنا، وثقافتنا على الرغم من رحيلهم منذ مئات السنين، كذلك لم يغب عنّا عبد الرحيم محمود وإبراهيم طوقان وأبو سلمى وبدر الدين شاكر السياب وأمل دنقل وغيرهم. رغم رحيلهم منذ عشرات السنين.

أما شاعرنا الراحل علي الخليلي، فيعفينا من الخوض في سؤال رحيله مع عدم الغياب، فيكتب:

"مع الشعر، تعلّمت أن أنتبه لأدقّ التفاصيل في حركة الكائنات وسلوكها. وتعلّمت أن لكل تفصيل في ذاته، حياة قائمة بذاتها. وأنني في فضاء هذا الإنتباه أعيش أكثر من حياة، في أمكنة وأزمنة عديدة، ليس لها من حدود، سوى حدّ الإنسان في معنى إنسانيته".