محمد سعيــد

يمرّ الوقت وتتوالى السنوات ويصبح الأمس في ساعات الليل سفراً طويلاً، والفجر قمحاً، واللغة بيدراً، وتلك الأيام التي مضت قناديل مضيئة بالتجارب والألم. نقتفي أثرك، ثلاث عشرة شمعة، وكلّ شمعة أزهرت غصناً أخضر. الطائرة التي هوت في الصحراء مازالت تطير كثيراً في أفكاري، شواطئ بيروت التي أمخرت عبابها أضجرها الإغتراب، لا عليك، باقون على العهد.
يا أخضرنا "عَبَرْنا الكرامة" يوماً إلى حضن أمة ماتت فيها البسالة، لم تكن معك، ولم تهبّ لنجدتك، لا في حصار بيروت، ولا في حصار "المقاطعة" يوم خرجت وأبحرت إلى الوطن سمعتك كثيراً ولم أفهمك وكذا الآخرون كنت عائداً إلى فلسطين! إلى جسد الأرض من غربة الرحيل، علّمتنا أن نحبّ فلسطين كما لم نحبها من قبل، ولكنّك أحببتها أكثر.
معك سرنا المسافة المرّة لنكون أحراراً في بلد حرّ بلا قيود. لم نقبل الإذعان، لم نكفّ عن مناداتك بالبطل والرّمز، والقائد، والختيار، وسنديانة فلسطين، وزيتونها، كلها ألقاب محببّة عشعشت فينا حتّى الخبز، حتّى الرمق، حتى كدنا ننسى أسماءك. يسّرت لنا دخول الوطن، وملامسة حضنه الأخضر، وجعلت عصمة الوحدة في يدك وحرّمت الفرقة بين أبناء الوطن الواحد والقضية الواحدة. وأسريت بنا من البدايات إلى النهايات، هجرت القدر، ولعبة القدر، وظلم القدر، وهجرك أخوة العروبة، وتركوك وحيداً تصارع الرياح الثائرة، والأمواج العاتية، حاصروك بذريعة عشق الوطن، لكنك حاصرت حصارهم بعنادك وصلابتك وعزيمتك وتكسّرت أمواج حقدهم وغدرهم على جدران عنفوانك وإخلاصك علمتهم كيف تكون مواقف الرجال الرجال الذين تهون الحياة عندهم امام التفريط بمبدأ أو قضية، إلى أن ذقت طعم الشهادة وطعم النصر شهيداً شهيداً، لم يدركوا أنك أعلى منهم جميعاً، لم يدركوا أنك كشجر الحور إذا سقط منه غصن نبتت له أغصان وأغصان.
في زمنك عبرنا المصاعب كما يعبر غزال زرقة البراري، في زمنك ملأنا الأنهر بشجى اليمام، حالياً نراك أكثر وضوحاً، مضيئاً مثل الصيف. اليك يا من حملت القضية في عقلك وقلبك، اليك يا صاحب البندقية التي شقّت طريق العودة، اليك يا صاحب الغصن الأخضر، اليك يا من قالوا لك إرحل فالبحر أمامك اليك يا صاحب الزمن  كل التيحات والتقدير والاحترام. ياسر عرفات أبعد من المراثي، جمع في شخصه الماضي والحاضر والمستقبل، حتى ولو تعثّرت اللغة في وصف لحظات رحلته الأخيرة إلى عالم النهايات، إلاّ أنّه لا يستطيع أحد أن ينكر أنّه رجل المرحلة وأبو القضية، وصانع الثورة من الاردن إلى بيروت إلى تونس إلى أرض الوطن.
وأنّه انتصر على كلّ الرموز الوضيعة التي أرادت أن تضعه في لحظة زمنية خارج اطار الحدث، إلاّ أنّه ظلّ الحدث بامتياز حتى اللحظات الأخيرة في مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي، شامخاً شموخ الكرمل على أرض فلسطين المباركة، في رحلته المظفّرة الطويلة المليئة بالمآسي والآلام والتضحيات، استطاع  أن يرسّخ حقّ الفلسطيني في أرضه شاء من شاء وأبى من أبى، واستطاع أن يجعل من شعب اللاجئين ثواراً وفدائيين حقيقيين، في أطول وأصعب ثورة في التاريخ المعاصر، فارضاً واقعاً مغايراً ورقماً صعباً في المعادلات السياسية الدولية، ولم تفتر له عزيمة أو يلين له جانب حتى في آخر لحظات حياته.
 فكان من طبق القادة الأفذاذ الذين من الصعب ان يتكرّر أمثالهم إلاّ بعد أجيال وأجيال، وإذا ما كان لنا أن ندوّن في سجّل سيرته الذهبية، فليس لنا سوى أن نذكر فوق كل المآثر التي قام بها وقدّمها للقضية إلاّ أنه أيضاً لم يفرّط أو يتراجع عن أي حرف من حقوق الشعب الفلسطيني، ولكن يد الغدر والخيانة القذرة امتدّت اليه ودسّت له السّم في ليل مدلهم بعد أن عجزوا عن تفكيك شيفرة هذا الرجل العظيم فلجؤوا إلى أحقر الأساليب للقضاء عليه ولمنعه من الاستمرار في قيادة سفينة الاستقلال إلى شاطئ الأمان بكل جدارة وثقة، ولكن مهما فعلوا سيظلّ الياسر الغصن الأخضر الدائم في حياتنا.