يتعرض "تل سكن" جنوب مدينة غزة  لهجمة تدمير بشعة تقضي في نهاية المطاف على آخر ما تبقى من واحد من أقدم معالم الوجود الحضاري في فلسطين. تل سكن ليس كومة من الطين وحجارة، وليست منطقة جميلة من الأرض قرب البحر، ولا هو منطقة هواؤها عليل وتصلح للسكن وبناء الفيلات والبنايات للموظفين أو لميسوري الدخل، وهو ليس مجرد قطعة أخرى من الأرض يمكن أن يجري عليها ما يجري على بقية المناطق. تل سكن واحد من أهم المعالم الأثرية في فلسطين التي تعود لآبائنا الكنعانيين الأوائل وتدلل بقوة على حضارتهم القوية الصلبة الممتدة في الجذور.  فهو ليس فقط أقدم من الأهرامات بمائة عام، وليس مسجلاً فقط في اليونسكو كموقع ذي أهمية خاصة، وهو لا يشير إلى مجرد بقايا حضارة كانت في البلاد، إنه أحد البراهين الحية على هذا الامتداد الحضاري والحضري في فلسطين عبر التواصل الدائم الذي يقود إلى نفي الرواية الصهيونية وتثبيت الحقوق الفلسطينية.

ورغم كل المحالاوت الشجاعة التي قام بها المعارضون لتدمير التل وتحويله إلى منطقة سكنية، إلا أن هناك من يصر على تدميره بحجج واهية ولغايات تفضح أكثر مما تستر. ورغم كل التقارير الصحفية التي تحدثت عن مخاطر ما يجري إلا أن عملية التجريف لم تتوقف، بل إن هناك من يصر على مواصلة ما يجري كأنه عمل وطني عظيم يقوم به. وبعبارة أخرى فإن أحداً لا يلتفت للرأي العام ولمواقف المواطنين ولتحذيرات العارفين. وربما إن الخيبة تصيبنا أكثر إذا ما عرفنا أن جامعة فلسطين مقامة على أراضي التل. واعتقد أن تحقيقاً وطنياً شاملاً يجب أن يحقق في كل تلك المخالفات التي قادت إلى عمليات التجريف التي تمت منذ أكثر من عقد من الزمن وتم خلالها بناء أبراج سكنية وبمنح قطع أراضي واسعة لغايات أخرى يجب محاكمة كل المسؤولين عن مثل هذه المخالفات والانتهاكات الصارخية للحق التاريخي وللوجود التاريخي الفلسطيني. لأن المساس بتل سكن لم يبدأ من اليوم بل بدأ منذ زمن حين بدأت عمليات التجريف والطمس لواحد من أهم المعالم الأثرية الكنعانية في البلاد. وهو يتواصل اليوم رغم ارتفاع وتيرة الوعي وكمية المعلومات عن اهمية التل التاريخية.

إن خطورة ما يجري لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعداه. فهو يحرم الفلسطينيين من فرصة الاستدلال على المزيد من الدلائل على وجودهم الحضاري في فلسطين. فمواصلة التنقيب والبحث في الموقع قد يقود إلى اكتشافات أكثر أهمية حول واقع الحياة الكنعانية القديمة في فلسطين، وقد يقود إلى المزيد من الآثار وربما الكتابات والإشارات المادية إلى معالم تلك الحضارة التي صمدت كل تلك السنين، والتي تأسس المشروع الصهيوني على نفيها أو هزيمتها مادياً وعلى صعيد المسرودات.

هل يعقل أن يقوم شعب بطمس ماضيه، وبتدمير آثاره التي تدل على وجوده؟ تلك الآثار التي تشير بقوة إلى زيف الرواية الصهيونية وبطلان كل المسرودات التوراتية عن الوجود التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين مقابل نفي أي وجود فلسطيني، وأي حضارة قديمة على أرض فلسطين. بل وفي اللحظات النادرة التي تعترف فيها تلك المسرودات بمثل هذا الوجود فهي تقوم بذلك من أجل تثبيت بطولات مزعومة للعابرين في تاريخ الأرض تتمثل في معارك خارقة وممالك ومعابد وهياكل، حتى اللحظة لم تفلح كل مرويات التاريخ المزيف في الإتيان بدليل على وجودها. هل يعقل أن يقوم شعب بمثل هذا الفعل الشنيع بحق ماضيه وتاريخه؟

أي منطق هذا الذي يقوم بتدمير مثل هذه المنجزات العظمية، ويطمس تلك المعالم الكبرى الدالة على الوجود الحضاري الكنعاني العربي في بلاد بنى المحتل المغتصب كل رواية سرقته للبلاد على نفي وجودها؟ وأي منطق هذا الذي يعيد النقاش إلى مناطق خطرة في الوعي تمس مكونات الهوية الوطنية الفلسطينية؟ ألا يقوم الكثير من مكونات تلك الهوية على التواصل الكنعاني العربي في فلسطين، وعلى حضارة عريقة امتدت في فلسطين، التي قاوم سكانها الكنعانيون العرب الغزو تلو الغزو، ونجحوا في إحباط سرقة بلادهم من قبل الغزاة العابرين الذين لم يكن بنو إسرائيل إلى قطرة في بحرهم. ورغم كل ما قاسوه إلا أنهم نجحوا في الحفاظ على هوية البلاد الكنعانية العربية. وذهب الغزاة وظلت فلسطين. بنوا قصوراً وقلاعاً، وشيدوا مواقعاً عسكرية، وقد يكون بعضهم قد استوطن في البلاد لكنهم في نهاية المطاف إما باتوا جزءاً منها، انصهروا في أتون حضارة سكان البلاد الأصليين ونجحوا في أن يكونوا مثلهم، او أنهم خرجوا وعادوا إلى بلادهم خائبين يجرجرون ذيول الخيبة. أي منطق هذا الذي يقوم فيه شعب بتدمير ذاته، ويساعد المحتل في نفي أي صلة له بالأرض، وربما مساعدته في تثبيت وجوده هو في حال وصلت مثل تلك الآثار ليديه ليقوم بنسبيها لمكتشفات أثرية زائفة تتعلق بتاريخه المزعوم! هل يوجد من يتفنن في الانتحار مثلما نفعل نحن؟

لابد من أن تقف الجهات المسؤولة أمام واجباتها في وقف هذا التدهور الخطير في تل سكن والقضاء على آخر من تبقى منه. ولابد من جهة رقابة وطنية لضمان ذلك. كما يجب فتح تحقيق يتم خلاله إدانة كل من ساهم في قضم تل سكن وتحويله إلى مناطق أبراج أو تحويل ملكيته إلى جامعة فلسطين، وهذا يجب أن يقود إلى إزالة هذه التعديات واسترداد ما أمكن من مناطق تل سكن لصالح مواصلة التنقيب في تلك المدينة الأثرية التي تقول بوضوح أن شمشون كان غازياً ولم يكن من سكان الأرض. وقتها يمكن إعادة الاعتبار للروح الفلسطينية التي سكنت تلك الأرض قبل أن يصاغ التاريخ في كلمات.