بقلم/ صقر أبو فخر

من المفارقات الغريبة أن فلسطين لم تعرف، خلال القرن العشرين، مطربة فلسطينية مشهورة، أو راقصة مهمة، أو ممثلة لامعة أو موسيقية ذات شأن، أو حتى مفكرة. ولم تلمع في فلسطين، ولا سيما في النصف الأول من القرن المنصرم، أي روائية ذات حضور أدبي لافت، فبقيت هذه الفنون، وهذه الضروب من الكتابة الابداعية، مرصودة للذكور ومقصورة عليهم. وحتى الروايات التي تناولت أحوال المرأة الفلسطينية بعد النكبة كتبها ذكور وبعضهم غير فلسطينيين مثل رواية "لاجئة" لجورج حنا (1952) ورواية "أرملة من فلسطين" ليوسف السباعي (1956)، وكانت تعكس الانهدام الكياني الذي حفر عميقًا في روح الأمة بعد نكبة فلسطين في سنة 1948. ومع ذلك فإن حتى الروايات الفلسطينية التي ظهرت في حقبة ما بعد النكبة كتبها ذكور مثل  "المتشائل" لإميل حبيبي (1974)، و "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا ابراهيم جبرا. استثني من ذلك رواية يتيمة لهدى حنا عنوانها "فتاة الملاجئ" (1953)،ورواية "فتاة النكبة" لمريم مشعل (1957) والروايتان بوح وتعبير عن واقع الحال، ولا يمتلكان من مضمون الرواية إلا الاسم. وكان يُقال دائمًا إن القوائم الثلاث التي تقوم عليها الرواية الفلسطينية هي غسان كنفاني وجبرا ابراهيم جبرا وإميل حبيبي. لذلك كان ظهور روائية فلسطينية مثل سحر خليفة في سبعينيات القرن العشرين حدثّا مميزًا حقًا. قبلها اشتهرت في فلسطين أسماء نسائية بارزة في القصة والمقالة والشعر والخاطرة أمثال سميرة عزام وأسمى طوبي ونجوى قعوار فرح  وغيرهن، لكن سحر خليفة كانت علامة فاصلة في تاريخ الادب الفلسطيني المعاصر. قبلها ظهرت روائيات فلسطينيات ثم لم يلبثن أن اختفين تمامًا أمثال هيام رمزي الدردنجي التي كتبت "إلى اللقاء في يافا" (1970)، وامتثال جويدي التي كتبت "شجرة الصبير" (1972)، ونهى سمارة صيداوي التي صاغت رواية "في مدينة المستنقع" (1973)، وفاطمة دياب التي كتبت "قطار الماضي" (1973). والوحيدة التي استمرت في الكتابة الروائية منذ روايتها الأولى "عروس خلف النهر" (1972) هي سلوى البنا. أما بعد سحر خليفة فقد ظهر عدد من الروائيات الفلسطينيات أمثال لبانة بدر ومي ضاهر يعقوب وديمة السمان وحزامة حبايب وسامية عيسى وأخريات.

***

كثيرًا ما حلمت سحر خليفة في طفولتها بأن تكون فنانة تشكيلية. وقد تبدل حلمها من الرسم بالألوان إلى الرسم بالكلمات. وكان عالمها في نابلس ضيقًا جدًا، فجعلته فسيحًا بالخيال واللعب والصخب والمشاكسة، وكانت شقية بالمعنيين: الشقاوة، أي التمرد، والشقاء الانساني. لهذا جمعت في شقاوة الطفولة، وفي كتاباتها، الفضيلة إلى "الاثم". ويبدو أثر راهبات الوردية التي درست لديهم في عمان واضحًا في سيرتها؛ فهي، في مرحلة ما، كانت تعتقد أنها قديسة، لكنها كانت تتصرف كراقصة أو ممثلة أو مغنية. وفلسطين، كما هو معروف في تاريخها الديني والانثروبولوجي، عرفت عابدات الهيكل والعذارى المنذورات لزوار السماء أو للغرباء السائحين في الأرض.

 

***

 

ولدت سحر خليفة، في مدينة محافِظة هي نابلس التي يسمونها "دمشق الصغرى" والتي أفاضت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان في الكلام على حياة النساء فيها في سيرتها الجميلة "رحلة جبلية رحلة صعبة" و "الرحلة الأصعب". وقد عرفت سحر خليفة التي كانت واحدة من ثماني فتيات شقيقات (توفيت اثنتان منهن صغيرات) منذ طفولتها المبكرة موقع الفتاة في هذا المجتمع المحافظ، وكثيرًا ما سمعت النسوة يتحدثن عن أن موت الطفلتين أمر ليس سيئًا لأنه يخفف العبء على العائلة، فعانت آلاماً مكتومة آنذاك، وقاست أهوالاً اجتماعية حين أرادت الانطلاق.

لسحر خليفة وجوه وأحوال، فهي روائية بالطبع، وكاتبة وإعلامية وأكاديمية ومنتجة أفلام تلفزيونية ومترجمة ونقابية ومناضلة نسوية وسياسية مستقلة، وعملت سابقًا زوجة من دون أجر. ومن بين هذه الصفات كلها، فإن صفة الروائية هي الأكثر التصاقًا بها، مع أنها جسدت في سيرتها مثال المرأة المتحدية والمكافحة. فبعد زواج دام ثلاثة عشر عامًا تخللته الاحباطات وخيبات الأمل، انعطفت نحو امساك مصيرها الفردي بيدها، وتمكنت من أن تنال الدكتوراه من جامعة "أيوا"، وهذا برهان إضافي عن قدرة المرأة على تقرير  مصير حياتها بنفسها إذا بادرت إلى هذا الأمر بثبات وشغف. وقد كافحت سحر خليفة كثيرًا في هذا العالم القاسي كي يكون لها مكان، فتمكنت من أن تنتزع لنفسها مكانة رفيعة في الأدب. فحين انفصلت عن زوجها لم تكن تملك إلا ثلاثة آلاف دولار وشهادة ثانوية وطفلتين. وكانت والدتها قد فعلت بها هموم الزمن ما فعلت، وتزوج والدها امرأة ثانية، وأصيب شقيقها الوحيد بالشلل جراء حادث سير، وشقيقاتها غرقن في شؤونهن المختلفة. وفي معمعان هذه المصائر المتنافرة واجهت الحياة منفردة وبشجاعة وإصرار وعناد. لقد حوّل زواجها حياتها حطاماً، لكنها تمكنت من أن تبتدع من هذا الحطام أزاهير ووروداً ورياحين.

 

***

 

لم نقرأ روايتها الأولى "بعد الهزيمة" التي صادرتها السلطات الاسرائيلية عند الجسر الفاصل بين ضفتي نهر الأردن. أما روايتها الثانية، أو الأولى بحسب تسلسل روايتها، فهي بعنوان "لم نعد جواريَ لكم" (1974). وهذه الرواية وضعت حداً لحقبتين من حياتها: حقبة الجارية وحقبة المبدعة. وفي هذا الحقل من الابداع ظهرت روايتا "الصبار" (1976) و "عباد الشمس" (1980) كروايتين توأمين عن الحياة اليومية تحت الاحتلال  الاسرائيلي ، ولا سيما حياة النساء. ومع أنها أنجزت حتى الآن إحدى عشرة رواية، إلا أن مكانتها الأدبية ترسخت مع صدور "الصبار" ثم "عباد الشمس". ومنذ روايتها الأولى اتضحت مضامين أفكارها وطرائق التعبير التي اتبعتها، وكثيراً ما أفصحت عن أن الوعي الذاتي للمرأة ليس إلا جزءاً من وعيها السياسي، ومن المحال، في الواقع الفلسطيني، فصل النضال من أجل حرية النساء عن النضال في سبيل حرية فلسطين،  فالخلاص الفردي مستحيل. وفي هذا الميدان كرست أيام حياتها للنضال في سبيل حرية شعبها، وللدفاع عن قضايا المرأة. ونالت جوائز أدبية عدة مثل جائزة ألبرتو مورافيا للأدب المترجم إلى الايطالية، وجائزة ثرفانتس للأدب المترجم إلى الاسبانية، وجائزة نجيب محفوظ عن روايتها "صورة وإيقونة وعهد قديم" (2006) وجائزة سيمون دي بوفوار التي رفضت اقتسامها مع الكاتبة الاسرائيلية سيفيا غرينفليد، (2009)، وجائزة محمد زفزاف للرواية العربية (2013) التي منحها إياها منتدى أصيلة الثقافي في المغرب.