تقرير: غادة اسعد


لم يتوقَّع أبناء بلدتِه أنَّه سيكون ضحيّةً جديدةً، ولم يكُن يعرفُ أنَّ مصيره سيتغيّر بين ليلةٍ وضحاها، كان الشهيد محمد محمود طه، كما عرفَهُ أبناء بلدته كفر قاسم، إنسانًا طيّبًا وكريمًا ومُحبًّا للصغير والكبير لدرجة أنَّه قد يبكي تعاطفاً مع طفلٍ صغير، أو لخطأ بدرَ منه عن غير قصد. لكنَّ شرطة الاحتلال لم تتوانَ لحظةً عن إطلاق النار عليه لتُردِيَه شهيداً رغم كونه أعزل من السلاح.
ولا تزال عائلة الشهيد محمد تبكي فقده وغيابه وكأنَّها لا تصدِّق أنَّه تُوفّيَ رغم مرور نحو أسبوعين على استشهاده، وفي كلِّ صباح، عندما يفتح شقيقه صبحي "الفيسبوك" يُرسل رسالةً لحساب محمد ويقول له: "اشتقتُ لك يا أخي". وإذا كان هذا حال العائلة، فإنَّ حال قِطِّه الأليف لم يختلف أيضاً، إذ تروي الأُسرة أنَّه في اللّيلة التي استشهد فيها محمد بقي القط ينتظر عودته على الكرسي، وكان كلَّما سمع صوت بوق سيارة مشابه لسيارة محمد الـ"مازده" يقف وينظر للخارج، لكنَّه لم يلمح محمداً، وظلّ يموء حزناً بصوتٍ عالٍ على فراق صاحبه الذي كان يطعمه ويكرمه ويعامله بكلِّ حُب.

الشهيد محمد لم يشكِّل أيَّ خطر!
شهدت كفر قاسم أجواءً قاسية مشحونةً بالاستفزاز من قِبل الشرطة الإسرائيلية للأهالي، ارتقى خلالها الشهيد محمد محمود طه برصاص غدرٍ من بندقية شُرطي إسرائيلي، لم يتجرّأ على الخروج من غرفته التي تُحاذي مركز الشرطة في مدينة كفر قاسم خلال تشييع جثمان الشهيد.
محمد طه، الذي استشهد في سن السابعة والعشرين، كان قد تزوَّج قبل ثلاثة أعوام، ولكنّه لم يُرزَق بأطفال. أكملَ الشهيدُ المرحلة الثانوية، ثُمَّ عَمِلَ في مخزَنٍ للبضاعة في مدينة كفر قاسم، كمُعدٍّ للطلبيات، وكان ينوي الحصول على رخصة سواقة لشاحنة كبيرة. وللشهيد ثلاثة أشقاء وشقيقتان، ووالده محمود طه، مدرّسٌ للغة العربية في مدرسة الغزالي في مدينة كفر قاسم.
وقد شاركت الجماهير العربية بصلاة الجنازة عليه أمام المنزل، ومن ثُمَّ سارت الحشود باتجاه مقبرة الشهداء ليُوارى جثمانه الثرى، وسط هتاف الـمُشيِّعين للشهيد "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، ورفعِ الأعلام الفلسطينية. وباستشهاد محمد محمود طه مساء الاثنين 6-6-2017، يصلُ عددُ شهداء بلدة كفر قاسم إلى 51 شهيدًا، بمن فيهم شهداء مجزرة كفر قاسم في العام 1949.
وَتعُمُ أجواء الغضب مدينة كفر قاسم جرّاء تزايدِ جرائم القتل التي تجاوزت العشرين، وتقاعُسِ الشرطة الإسرائيلية عن أداء واجبها والكشف عن خيوط الجرائم التي تحدُث والقبض على مُرتكِبيها الذين ما زالوا طلقاء، في حين تُولي جُلَّ اهتمامها نحو هدمِ البيوت غير المرخَّصة، وإصدارِ مخالفاتٍ تُثقِلُ كاهل ربِّ العائلة، ما يجعله يشعُر بالإحباط التام، بسبب قِصر ذات اليد،وكلُّ ذلك بهدف الضغط على المواطنين والتضييق عليهم ومنعهم من العيش الكريم.
وأوضح شقيق الشهيد أحمد محمود طه أنّ شقيقه أُصيبَ بثلاث رصاصات في القسم العلوي من جسده، اخترقت اثنتان صدرَه وواحدة رأسه، بينما أكَّد المحامي عادل بدير أنَّ "الشهيد لم يُشكِّل خطرًا على أيِّ شرطي، وكان بالإمكان تجنُّب الجريمة، لو أنَّ الشرطي لم يضغط على الزِّناد".
يُشار إلى أنّ العنف بات أشبه بمرضٍ مُتفَشٍّ في البلدات العربية، وقد سُجِّلت منذ مطلع العام الحالي 6 جرائم قتل لم تنجح الشرطة في فكِّ رموزها، أو إلقاء القبض على مُرتكبيها. وعندما استُشهد الشاب محمد محمود طه، أعلنت لجنة المتابعة العُليا للجماهير العربية عن إضراب شامل للمدارس، ردًا على جريمة الشرطة بحق مواطني كفر قاسم، وكانت قد سبقت جريمة الشهيد محمد طه، جريمة إعدام الشهيد المربي يعقوب أبو القيعان، في أم الحيران.

الدَّم العربي رخيصٌ في عيون الشرطة!
حول واقعة استشهاد نجله قال محمود طه: "تلقَّينا نبأ استشهاد ابني كالصاعقة، وما زالت العائلة تعيش في حالة من الصدمة الشديدة، ونكادُ لا نصدِّق هولَ الفاجعة، خاصّةً أنَّ ابني كان إنسانًا مُسالـمًا وعلى علاقة طيّبة مع كلِّ مَن عرفَهُ".
وأضاف: "لقد أُعدِمَ ابني بدم بارد مع سبق الإصرار على يد شرطي لأنَّه عربي، وذلك بعدما أطلق الشرطي ثلاثة عيارات نارية عليه خلال مشاركته بمظاهرة سلمية أمام مركز الشرطة، احتجاجًا على اعتداء عناصرها على رجال الحراسة الذين لم يُشكِّلوا أي ذرة خطر كما تدَّعي الشرطة".
وحمّل والد الشهيد الشرطة الإسرائيلية مسؤوليةَ استشهاد ابنه، وقال: "الشرطة هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن تفشي العنف وجرائم القتل بالمدينة في ظلِّ تقاعسها عن أداء واجبها من جهة، واجتهادها في تحرير المخالفات للمواطنين من جهة أخرى".
وأردف: "الشرطة ترى بأنَّ دم المواطن العربي رخيص، وأنا أقول لها إنَّ دمنا غالٍ جداً، وأتمنَّى من الله أن يقتص لابني من قاتله، وأن يُحاكم بشكل عادل وألا يُغلَق الملف بدون نتيجة فيما بعد.. وأرجو أن يكون ابني آخر الضحايا في مجتمعنا العربي، لئلا تتذوّق أي عائلة مرارة ما نمرُّ به".
زعزعة الأمن وزيادة العنف مصلحةٌ إسرائيليةٌ
ينوِّه مدير المدرسة الثانوية الشاملة في كفر قاسم المصلح الاجتماعي الشيخ إياد عامر إلى أنَّ ما تشهده كفر قاسم والبلدات العربية عموماً في السنوات الأخيرة من حوادث عنفٍ وقتلٍ تُثير التساؤلات حول دوافعها والجهة المنتفعة منها.
ويضيف: "المشكلة هي أنّ مجتمعنا العربي في الداخل يخسر يوميًا عددًا من الشُّبّان بسبب حوادث الطرق، والعنف المستشري في جميع البلدات العربية، وكأنَّ مجتمعنا اعتاد على العنف، وباتَ جزءًا من واقع مجتمعنا العربي في الداخل للأسف. وفي ظلِّ المحاولات الدائمة من قِبَل المؤسسة الإسرائيلية للمسِّ بكرامة أهل كفر قاسم، يظهر المأجورون الذين سقطوا في فتنة الطّمع بالمال، وهُم الذين أصبحوا الآن السلاح الوحيد الذي يُسلَّط علينا، إذ يعمدون لإثارة الشغب وارتكاب الاعتداءات كلّما منعهم أفراد الحراسة من أخذ الخاوة، وقد راح أحد الحراس ضحيّة ذلك أثناء ممارسته مهامه في منع عصابات الإجرام والشرطة الإسرائيلية من اعتداءاتها والتضييق على أبناء شعبنا".
ويتابع: "كجماهير عربيّة قُتِلَ منا نحو 20 شخصًا، منذ العام 2010 وحتى اليوم، ولم يُعتَقَل شخصٌ واحدٌ ضمن هذه الجرائم، ولم تُقدَّم أيّة لائحة اتهام ضد القاتل، وكأنَّ الشرطة لا ترى شيئاً، لنا الحق في التساؤل: هل للشرطة دور في هذا الأمر؟ وهل تقوم بالتغطية على منظمات الإجرام لتقوم بعملياتها؟ أين وسائلها التكنولوجية التي يمكن أن تُستعمَل في حال تمَّت أي عملية صغيرة أو كبيرة في الوسط اليهودي؟ ولماذا يُعتقل المجرم هناك فورًا، بينما يموت القاتل وأبناؤه والشرطة لا تنجح بإيجاده في وسطنا؟!".
ويُردف: "منذ فترة وصلت كفر قاسم إلى المرتبة الرابعة عشرة بين المدن المزدهرة والمتطورة اقتصاديًا وعلميًا واجتماعيًا، وباتت تنعم بالأمن والأمان، وهذا ما لم يعجب الكثيرين، الذين يُبيِّتون مؤامرات، ربما خفيّة أو غيرها لزعزعة الأمن والأمان في كفر قاسم، ويجب علينا نحنُ كسكان أن نتساءل مَن المسؤول عن هذه الزعزعة؟ ومن تخدم هذه السياسة؟ هناك محاولات عديدة من منظمات الإجرام لاختراق كفر قاسم، ونشر ظواهر لاأخلاقية وفرض الخاوة لتدمير الازدهار الذي تميَّزت به كفر قاسم. ونلحظ أنَّ السلاح غير المرخَّص والمنتشر في كفر قاسم يُشترَى من الجيش الإسرائيلي بشكلٍ صريح، فوجود أكثر من مئة ألف قطعة سلاح، هل هذا الأمر يخدم المجتمع العربي أم اليهودي؟ فكيف لا تلحظ إسرائيل السلاح المنتشر وتنتبه فقط عندما تُصَوَّب البنادق التي وصلت من الجيش، إلى صدور اليهود، فتجمع عندها قطع السلاح؟! بل وتقوم عندها الشرطة بحلِّ لغز مرتكب الجريمة وتأتي به في ثوانٍ أينما كان! وقد تكرَّر ذلك أكثر من مرة".
ويتابع: "أصبحنا نعلم أنَّنا كعرب ليس لنا مواطنة، أي أنَّنا لسنا مواطنين، والدليل أنّ اليهودي يتظاهر كما يشاء، ففي (إسرائيل) نرى مظاهر الديمقراطية، كالمتديّنين في القدس وغيرهم، الذين يسكبون المياه الحارقة والغازات والمواد الكيماوية، ويحرقون مستوعبات النفايات، ويحرقون سيارات الشرطة، ويقومون بضرب المواطن، ولم تُطلَق رصاصة واحدة عليهم ولم يُخدَش أحدهم، أمَّا في حال قيام عربي بضربهم أو تصويب السلاح نحوهم يصبح من حقهم اعتقالنا، بل وقتلنا ونحن عُزَّل!! رحم الله الشهيد محمد طه وغيره من الشهداء الذي سقطوا وهم عُزَّل، لأنَّ الإسرائيليين لا يعتبرون الدم العربي بشرياً، ولكن ينبغي للعالم أن يعرف أنَّنا لن نتزعزع، ولن نتنازل عن ذرة تراب في كفر قاسم، فهذه الأرض واجبٌ علينا السكن عليها، لأنّ أهلها دفعوا ثمنها دماءً، وامتزج ترابها بدمائنا وبدموعنا على الشهداء، وبإذن الله تعالى ستخيب مساعيهم في دفعنا للتنازل عن الأرض".