خاص مجلة "القدس" العدد 338 حزيران 2017

تحقيق: مصطفى ابو حرب، ولاء رشيد

أسرانا الفلسطينيون هم طليعةُ النّضال الوطني ورمزٌ للحريّة والتضحية من أجل تحرير فلسطين وبناء دولتنا المستقلّة. أسرانا بصمودهم الأسطوري حقَّقوا في اليوم الحادي والأربعين من معركة الأمعاء الخاوية انتصاراً على سجّانهم، ولكن هذا الانتصار لم يأتِ بلا ثمنٍ، وإنمّا دفعوا لقاءه جوعاً وصبراً ودماً. وللاطلاع على بعضٍ من تفاصيل تجربة الاعتقال، وما يتعرّض له الأسير داخل المعتقلات، وحيثيات معارك الإضراب عن الطعام، أجرت مجلّة "القدس" لقاءاتٍ مع عددٍ من الأسرى المحرَّرين.

تعدَّدت أشكالُ الإضراب والهدف واحدٌ
شكَّلت "الحركة الوطنية الأسيرة" تجربةً رائدةً ومسيرةً حافلةً في العطاء على مدار سنوات الصراع مع العدو الصهيوني. وقد ابتدع الأسرى من وراء القضبان أسلوبهم الخاص لمواجهة الاحتلال عبر معارك الأمعاء الخاوية. غير أنَّ هذه المعارك بدورها تتَّخذ أشكالاً ومستوياتٍ عدة تبعاً لمقتضيات المرحلة وطبيعة المطالب، بحسب الأسير المحرّر أسامة سليمان أبو حرب، المولود في مخيّم شاتيلا العام 1958، وهو مهندس أعالي بحار، ويحمل بكالوريوساً في أصول الدين. وأبو حرب الذي أمضى 15 عاماً في المعتقلات الصهيونية، كان قد التحقَ بالثورة الفلسطينية شبلاً العام 1970، ومقاتلاً على قيود البحرية العام 1977، وكان ضمن فريق العملية الاستشهادية "صمود طرابلس" العام 1985. وحول أهمية وجدوى معركة الإضراب عن الطعام بالنسبة للأسرى يقول أبو حرب: "لأنَّ الأسرى يتطلَّعون دائماً للأمام، فقد وضعوا نصب أعينهم السير باتجاه تحسين شروط حياتهم في المعتقلات، مما يستدعي دوماً إبقاء باب الحوار مفتوحاً مع إدارة مصلحة المعتقلات أو اللّجوء إلى استخدام السلاح الأوحد لدى الأسرى وهو الإضراب التكتيكي أو الاستراتيجي عن الطعام، والإضراب المفتوح. وقد تمكَّن الأسرى عبر خوضهم العديد من معارك الأمعاء الخاوية من انتزاع حقوقهم من بين أنياب السجّان، وتوفير وضعٍ يعيش فيه الأسرى بشروط الحد الأدنى من الحياة الكريمة، بيدَ أنَّ تحصيل هذه الشروط جاء باللّحم والدم والشهادة، وبشكل تراكمي".
ويُضيف: "الإضراب المفتوح عن الطعام في مجتمع الأسرى هو الكيان النضالي والحاضنة الثورية للأسير، وخلال فترة اعتقالي خاضت الحركة الأسيرة مجموعةً من الإضرابات التكتيكية، أي المحدودة، لمدة أقصاها ثلاثة أيام، وذلك رفضاً لإحدى سياسات إدارة المعتقل مثل أسلوب التفتيش أو رداءة جودة المواد الغذائية وغيرها. وفي العام 1991 خاضَ معتقل "نفحة إضراباً عن الطعام لمدة 16 يوماً، ورغم عدم تمكنه من تحقيق مطالب الأسرى إلّا أنَّه مثّل رسالةً واضحةً للسجّان تُعبِّر عن تماسك الأسرى. وفي العام 1992، انطلق إضرابٌ شامل واستراتيجي يحمل العديد من المطالب المهمّة، وقد شارك فيه أكثر من 7000 أسيرٍ من غزّة والضّفة والقدس، وكان الإضراب صعباً والصدام عنيفاً، واستمرَّ 20 يوماً ارتقت خلالها كوكبةٌ من الشهداء، ولكنَّه حقَّق الكثير من الإنجازات أهمّها العلاج الطبي الشامل، والتعليم الجامعي وتحسين المواد الغذائية في (الكانتين). وبالطبع فإنَّ أهم عوامل نجاح تحدي الأسرى للسجَّان هو تماسكهم الذي يُشكِّل سداً يمنع إدارة المعتقل من قضم هذه الإنجازات، ولا شكَّ أنَّ أكثر ما يرفع معنويات الأسرى في معتقلاتهم هو التفاعل الشعبي والجماهيري الداعم لتحركاتهم، وهذا ما يشعرهم بأنَّهم جزءٌ ومكوِّنٌ أساسيٌّ من الشعب والقضية".
أمَّا عن علاقة السجَّان والأسير فيقول: "هي علاقة مد وجزر، وكلٌّ يُبقي سلاحَهُ مُشهراً. فالسجّان يُبقي يده على زناد مدفع الغاز، والأسرى يُبقون سيف اللّحم مُشهراً، فيخوضون معارك بأمعائهم الخاوية، ويصنعون تاريخهم المشرق بالحرية بلحمهم وصبرهم وبتماسكهم ولُحمتهم. وأسرانا اليوم خاضوا إحدى أكبر المعارك بصورة الالتحام المباشر مع العدو، سيف اللحم، وسيف الجلاد، فبمئات أطنان اللحم والشهداء يصنع الأسير فجره، ويستمر حتى يعانق حريته. وكما أنَّ تحرير فلسطين يمر عبر فوهة البندقية، فإنَّ الحياة الكريمة للأسرى تمرُّ عبر الإضرابات الاستراتيجية المفتوحة عن الطعام، وسيبقى الأسير ينتقل من نصر إلى نصر بإذن الله.. وفجر الحرية آتٍ بإذنه لا محال".

تجربة الأسر في معتقل "أنصار"
إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982، أقامت قوات الاحتلال معتقل "أنصار" إلى الشرق من بلدة أنصار في جنوب لبنان، وزجَّت فيه الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين، ومن بينهم الأسير المحرَّر محمد أحمد عبدالقادر حسن الملقب بـ"أبو أحمد الجريح". وحول ظروف اعتقاله والمعاناة التي خاضها يقول حسن: "التحقتُ بحركة "فتح" شبلاً بتاريخ 18/3/1974، وبعدها واصلتُ العمل العسكري الى حين الاجتياح الإسرائيلي للبنان، إذ أُصبتُ إصابةً بليغةً في 21/6/1982 في منطقة ناصرية بحمدون، فاعتقلوني، ونقلوني بطائرة مروحية إلى مستشفى حيفا في فلسطين المحتلّة حيثُ عُولِجتُ وأُخضِعتُ لعمليات جراحية، وبقيتُ فترةً في المستشفى مُقيَّداً بسلسلة حديديّة، وكانوا يعاملونني معاملةً سيئة جداً، ثُمَّ نقلوني لمستشفى عسكري إلى جانب مطار اللّد حيثُ ذقتُ ألواناً أقسى من التعذيب، وبعد نحو 3 أشهر نقلوني إلى معتقل أنصار، وهناك حدثت انتفاضة التصعيد الكبير، وأخذ الناس يرشقون الجنود الإسرائيليين بالحجارة".
ويردف: "رغم أنَّني كنتُ في المستشفى مُصاباً ومقيَّداً غير قادر على مقاومة السجّان، ولكنَّني كنتُ أرى الخوف في عينيه. وحين صفعني أحد الجنود على وجهي، نزعتُ المصل ووحدة الدم، وقلتُ لهم إمّا أن تقتلوني أو تُخرجوني من هنا"، مضيفاً: "واليوم يعيش الأسرى نفس الحالة وهم يخوضون إضراب الحرية والكرامة، هم يحاصرون السجان من قلب الزنازين، ويقاومون بلحمهم الحي، فالسجان الإسرائيلي يخاف من الأسير الفلسطيني حتى وهو مكبَّل. أسرانا أحرار وإن كانوا وراء القضبان لأنَّ إرادتهم حرّة، هذه هي ثورتنا التي ربينا عليها، وهم ينفِّذونها في المعتقلات التي تعلّمنا فيها الصبر والتحدي والعنفوان، وبإذن الله تكون هذه المعركة فاتحةً للنصر وتحريرهم من الزنازين". وختم كلامه موجِّهاً تحيَّة إجلال وإكبار من مخيّم البداوي لأسرانا البواسل.
بدوره، خاضَ الأسير المحرَّر شكري أيوب، مواليد العام 1961، تجربة الاعتقال في معتقل أنصار، وهو الذي كان قد التحق بحركة "فتح" في العام 1977 ضمن اللّجنة العِلمية في بيروت، قبل انتقاله إلى الجنوب، إذ يقول: "بقيتُ في الجنوب اللبناني حتى الاجتياح، وفي تلك الفترة أدّيتُ واجبي، واعتقلني عميد إسرائيلي في صيدا، ونُقِلتُ إلى منطقة عيتيت حيثُ حقَّقوا معي، وأمضيتُ فترة 3 أو 4 أشهر عانيتُ خلالها بسبب الأساليب الشرسة والقاسية التي انتهجوها في التحقيق معنا. وبعد التحقيق نقلوني إلى معتقل أنصار، حيثُ مارسوا علينا القهر والتعذيب النفسي والجسدي، ولكنَّنا بحمد الله صمدنا، وشُكِّلَت لجنةٌ ساعدتنا كثيراً بالتواصل مع الصليب الأحمر ليتم التنسيق عبرهم مع الصهاينة، وكانوا يؤمِّنون لنا ما يلزمنا من طعام ودواء. ولكنَّنا أيضاً لم نقف مكتوفي الأيدي، بل قاومنا السجّانين بعنفواننا، وبدأنا انتفاضة الأربعين يوم، وسمعنا أصوات أهلنا وهم يُكبِّرون ويهلِّلون، واستنفرت جميع المعسكرات بعبارة واحدة (الله أكبر) فارتبك الإسرائيليون، وعندما سمعوا الأصوات شرعوا بإطلاق النار علينا فأُصيب 16 جريحاً. وبعد فترة من هذه الحادثة، ومن خلال التنسيق ما بين لجنة المعسكرات والصليب الأحمر الدولي، صرنا نتابع مهمّاتنا داخل المعسكرات واجتماعاتنا التنظيمية، ونُحيي المهرجانات والمناسبات الوطنية اللبنانية والفلسطينية، وكانت أولها مناسبة عيد الاستقلال اللبناني، حيثُ كانت هذه الاحتفالات شعلة من النار".
أمَّا عن "معركة الحرية والكرامة" فيقول: "انتفاضةُ أسرانا البواسل اليوم هي تحدٍّ للسجّان، لأنَّ الأسرى يشعرون بظلم كبير واقع عليهم، ومن البداية كنا متفائلين بهذا الإضراب، واليوم بات أملنا أكبر بتحرير فلسطين، وبرأيي فأقل واجب نُؤَدّيه هو دعم ومواكبة حركات الأسرى بفعاليات حاشدة في كل مكان، لنؤكِّد لهم أنَّهم ليسوا وحدهم في معاركهم التي نستبشر أنَّها ستُكلَّل بانتصارات مؤزَّرة، وخير مثال على ذلك، نيلسون مانديلا الذي خرج رئيساً لجنوب إفريقيا بعد سنوات طويلة من السجن.. لذا أملنا كبير بالنّصر، وتبييض المعتقلات إن شاء الله".

فصول الصّمود في معتقلات الصهاينة
خلال زيارة وفد اللجنة التنظيمية لحركة "فتح" في منطقة مخيّم قلنديا - إقليم القدس إلى لبنان التقت مجلّة "القدس" عضو اللّجنة التنظيمية نضال أحمد سمارة، والضابط في الاستخبارات العسكرية الفلسطينية رائد ربحي محمد عوّاد. لم يكن اللّقاء ممزوجاً فقط بعبق الوطن، وإنَّما بنكهة الكرامة والنّضال والإباء. فابنا حركة "فتح" الرائدة ومخيَّم الصمود قلنديا، أسيران محرَّران أيضاً، رسمَا بدورهما محطّات في الصمود والنضال.
 فـنضال سمارة المولود العام 1973، وهو ضابط في حرس سيادة الرئيس، اعتُقِل أربع مرات أمضى خلالها 18 عاماً متقطّعة في معتقلات العدو الصهيوني. كانت واقعة اعتقاله الأولى وهو لم يزل طفلاً، إلّا أنَّه لم يستقل يوماً من النضال الوطني، وخرج العام الماضي من الاعتقال بعد أن قضى خمسة عشر عاماً متواصلةً.
وحول تجربته مع الاعتقال يقول: "اعتُقِلتُ للمرة الأولى في العام 1989، خلال مشاركتي في انتفاضة الحجارة، وأمضيتُ فترة 5 أشهر. صحيحٌ أنَّ تجربة الاعتقال الأولى كانت صعبةً علي، ولكنّها صقلت شخصيتي وحوَّلتني من طفلٍ مشاغبٍ وطالبٍ كسولٍ، إلى طالبٍ مُجتهد يملك كمًّا من الوعي السياسي، وذلك بفضل جلسات التعليم بين الأسرى، وتُسمَّى الجلسات التنظيمية، التي تُناقَش فيها مبادئ حركة "فتح" وأهدافها، وتتم تنمية الوعي السياسي والثقافة الفلسطينية العامّة لدى الناشئة من الأسرى، ولا سيما بالنسبة لتاريخ وجغرافية فلسطين الطبيعية".
أُعيد اعتقال نضال سمارة في 17/5/1990، حيثُ أمضى 9 أشهر بدعوى إلقاء الحجارة على جنود الاحتلال، ثُمَّ في 17/5/1991، على خلفية إلقاء حجارة وزجاجات حارقة والتحريض عبر شعارات، فأمضى عاماً ونصف، خرج بعدها ليستقرَّ ويكوِّن أسرة. ولكن هذه الفترة لم تطل كثيراً، وما لبث نضال أن اعتُقل للمرة الرابعة والأطول، وحول ذلك يقول: "كنتُ قد دخلتُ مرحلة الاستقرار والاهتمام بأسرتي، لا سيما مع دخولنا مرحلة السلام بعد توقيع اتفاق أوسلو، ولكن مع تصاعد الهبَّة الجماهيرية خلال انتفاضة الأقصى، وارتقاء قوافل الشهداء، فإنَّ العسكريين المنضوين ضمن إطار السطة الفلسطينية هبّوا للدفاع عن أبناء شعبنا، فوجّهنا بندقيتنا نحو العدو الصهيوني، واتُّهِمنا بعسكرة الانتفاضة، ونتيجة ذلك شرعت إسرائيل بحملة اعتقالات واسعة في صفوفنا، فاعتُقِلتُ مع مجموعة من الشُّبان في 17/5/2001، حتى بات السابع عشر من أيار تاريخَ نكبة خاصة بي".
ويضيف: "في المرة الرابعة التي اعتُقِلتُ فيها، وضعوني في زنزانة انفرادية، وتعمّدوا شبحي على الكرسي لساعات طويلة معصوبَ العينين ومُقيَّداً للكرسي المثبَّت بأرضية غرفة التحقيق، وكانوا يبقونني مستيقظاً طوال 8 أيام لا يدعونني أنام خلالها سوى ساعتين من الـ6 وحتى الـ8، ومارسوا ضغوطاً علي لإرهاقي، وإذلالي، ولكنَّني كنتُ قد عقدتُ العزم على عدم الإفصاح بأي شيء. وفي فترة التحقيق أخذوني عند (العصافير)، وهم عملاء عرب للاحتلال يحاولون سحب المعلومات من الأسير عبر الاستفزاز أو الاستدراج، ولكنَّني كشفتهم ولم أُدلِ بشيء، وبعد يأسهم من تعنُّتي أرسلوني للقاضي، ولكنّهم للأسف مارسوا علي خدعة انطلت علي إذ أرسلوا لي محاميًّا ادّعى أنّه من طرف محاميّتي نائلة عطية، وبعد إطمئناني إليه أخبرتُه أن يحذّر شباناً من مجموعتي، فتبيّن أنه عميل، وكانت هذه غلطة عمري، وأُلقيَ القبض على عددٍ من الشبان، أمَّا صديقي رائد عوّاد فكانوا يبحثون عنه بحثاً حثيثاً، ولكنه كان يُعرَف بالاسم الحركي (محمد ربحي) لذا لم يتوصّلوا لهويته، حتى استوقفتهم صورة له وهو يرتدي سترة مشابهة لسترتي كنا قد اشتريناهما معاً، فقالوا لي إمّا أن تقول لنا مَن هو محمد ربحي أو نقتل هذا الذي في الصورة، وليس أسهل من القتل لدينا، فاضطررتُ أن قول إنَّه هو نفسه. ومع توالي اعترافات الشبان من مجموعتي بات كلُّ شيء مكشوفاً فاضطررتُ للاعتراف لأنَّ المماطلة لم تعد تفيد بشيء، وإنَّما ستؤدي لتكثيف العقاب وتمديد التوقيف". وجاء حكمي بـ15 عاماً بناءً على 23 بنداً اتهامياً، اثنان منهما إطلاق نار على جسر عطارة، ومحاولة خطف ضابط إسرائيلي ضمن الاحتياط، والتخطيط لإرسال انتحاري (علماً أنَّ العملية كانت زراعة عبوة ناسفة فقط)، والتحريض على عسكرة الانتفاضة تحت مسمّى إصدار بيانات باسم كتائب شهداء الأقصى، وإلقاء زجاجات حارقة، وحيازة سلاح كلاشنكوف و(M16)، وكانت الأحكام عالية في تلك الفترة لوجود ما يُعرَف بمحكمة الطوارئ، أمّا اليوم فمثل هذه التُّهم لا يُحكم صاحبها بأكثر من 5 سنوات".
سمارة الذي لُقِّب بـ"شيخ الزنازين" لصموده نحو 65 يوماً في عمليات التحقيق المكثَّفة يروي تجربته مع الأساليب المختلفة من التحقيق والتعذيب الممارَسة بحق الأسرى، فيقول: "يتعمَّد الإسرائيليون خلال فترة التحقيق ممارسة شتى أنواع الامتهان والتعذيب النفسي والجسدي بحق الأسير. فكانوا يعمدون لضرب الأسير وشَبحه وتعليقه من يدَيه وبِصُور أخرى، ووضعهم في خزائن، ولم يفرّقوا بين طفل وبالغ، ولم يكن بوسع أي أسير الصمود تحت التعذيب أكثر من 4 أيام، كما لم يكن بإمكان الأسير إبلاغ لجنة الصليب الأحمر كون دور اللّجنة صُوَرياً أصلاً، ولأنَّ الإسرائيليين كانوا يطَّلعون على التقارير ليعرفوا ما قاله الأسير، ومَن كان يُدلي بشيء كانوا يُعيدون تعذيبه. أمّا العزل الانفرادي فكان أصعبَ ما مررتُ به، فقد وصلتُ إلى مرحلة صرتُ أُكلِّم فيها نفسي وأضحك بمفردي، حتى أنَّ أول مطالبي بعد الإدلاء باعترافي كان أن يضعوا معي أيَّ شخص في الزنزانة".
ويردف: "من الأساليب النفسية التي اتبعوها، أنَّهم قيَّدوني إلى الكرسي المثبّت في غرفة التحقيق، ثُمَّ جلب المحقِّق مجموعةً كبيرةً من الأوراق، وبدأ بإلصاقها على الجدران حتى امتلأت بها، وذلك بعد أن كتب عليها ضاع باسل (ابني الأكبر) ضاع بلال (ابني الأصغر) ثم ضاعت أُم باسل (زوجتي)، ضاعت أُم نضال (والدتي) وكانت تعيش معي هي وشقيقي المصاب بإعاقة، ولم يكن لها سواي"، تدمع عيناه وعبثًا يحاول إخفاء غصته، قبل أن يردف: "لكنَّني حاولتُ قلبَ الأمر عليه واستفزازه، فقلتُ له لو أن شارون –الذي كان رئيساً للوزراء في تلك الفترة- عرف ما تفعله لفصلك من العمل، فقال لي لماذا؟ فقلتُ له لأنَّك تبذِّر بالأوراق، وكنتُ بحكم احتكاكي تلك الفترة بهم أعرف الحرص الزائد لدى اليهود على عدم التبذير بالمواد الخاصة بالحكومة".
أمَّا الأسير المحرَّر رائد عوّاد، المولود العام 1973، وهو من سكان مخيّم قلنديا، فمتزوج وله 7 أبناء، وكان قد اعتُقِل بدوره عدة مرات منذُ كان طفلاً، كان آخرها وأطولها اعتقاله في 15/10/2001، بعد مطاردته لنحو 5 أشهر، حيثُ أنَّه كان معروفاً باسمه الحركي "محمد ربحي" وبلقب "الهبيشي"، مّا استغرق الاحتلال وقتاً طويلاً للوصول إليه، وتمّت محاكمته على خلفية تسجيل اعترافات عليه بإلقاء زجاجات حارقة، وإطلاق نار، والتخطيط لعملية إلقاء قنابل يدوية في رأس خميس في منطقة القدس. وعن تجربته في المعتقل ومع التحقيق يقول: "حاولوا على مدى الفترة الأولى دفعي للإقرار بأنني محمد ربحي (الهبيشي)، ولكن كانت لدي إرادة بأنني سأصمد، ولن أعترف بشيء، فمكثتُ في التحقيق 25 يوماً في بيت إيل، مارسوا علي خلالها شتى أنواع وأساليب التحقيق، كالعزل الانفرادي والتحقيق بطريقة استفزازية وغير إنسانية، وحتى أثناء التحقيق كانوا يمنعوننا من دخول الحمام والنوم، وداخل الزنازين كان يدخل المجنّدون ويقومون بحركات استفزازية، وبعد اليوم الخامس والعشرين، نقلوني لمعتقل عصيون الواقع بين الخليل وبيت لحم، حيثُ مكثتُ 4 أيام، وأعادوني بعدها لبيت إيل وكانت عملية النقل تستغرق ساعات طويلة، رغم أنَّها لا يجب أن تستغرق نصف ساعة، ولكنَّهم كانوا يتعمَّدون إرهاق الأسرى وكسر عزيمتهم عبر إطالة الطريق وتصعيب ظروف النقل بالتعذيب والتنكيل وعصب العينين والتقييد، وتوجيه الإهانات والاستفزازات".
ويضيف: "داخل الزنزانة الانفرادية كانوا يضعون الأسير بمفرده لمدة تزيد على 15 يوماً أحياناً، في غرفة لا تتّسع إلا للنوم، ويمنعونه من دخول الحمام، ويضعون له وعاءً لقضاء حاجته داخل الغرفة نفسها، ولكنّني كنتُ جاهزاً لمواجهة كل أساليبهم، لأنَّ الأسير إذا عقد عزمه على ألّا يعترف فإنَّ ذلك لن يحصل، ويمدّه الله بالصبر للصمود، وقد واصلت الإنكار، لكن بعد إقرار عدد من الشباب الذين كانوا ضمن مجموعتنا بمعلومات تمّت الإدانة، وحُكِمتُ ثلاث سنوات ونصف، وأُفرِج عني في 29/11/2004 في تبادل للأسرى، وبعد دفع غرامة 4000 شيكل، علماً أنَّ محكوميّتي كانت ستنتهي بعد بضعة أشهر".
وعن تأثير تجربة الأسر عليه يقول: "المعتقل مدرسة تعلَّمنا فيها العديد من المبادئ والمفاهيم، وخلال اعتقالي في معتقل مجدو قدَّمت امتحان الثانوية العامة (التوجيهي) الفرع الأدبي، ونجحت بنسبة 67%. وقد ترسّخت لدي في المعتقل مبادئ حركة "فتح" والقِيَم الوطنية والثورية". ويشير إلى أنَّ "عدد أسرى حركة "فتح" كان في السابق لا يتجاوز نحو 70 أسيراً، ولكن مع توالي الانتفاضة والهبّات الشعبية، تضاعف عدد أسرى "فتح" حتى بات يُشكِّل أكثر من ثُلثي الأسرى اليوم".
وخلال فترة اعتقاله خاض عوّاد ما بين العامين 2002 و2003 إضراباً عن الطعام، وكان الهدف منه آنذاك تحسين الوضع المعيشي للأسرى في المعتقل، لجهة المأكل والمشرب والتلفاز وغيرها، وفي هذا السياق يقول: "من أهم الأمور التي ينبغي الإشارة إليها أنَّ الالتفاف الجماهيري والإعلامي حول قضية الأسرى والمعركة التي يخوضونها جانبٌ لا ينبغي الاستهانة به أبداً. فالأسرى خلال إضرابهم يتوقون وينتظرون بفارغ الصبر سماع أي خبر مهما كان عن تضامن معهم أو موقف داعم لهم، وهذا كان يمدُّهم بالعزيمة والإصرار على مواصلة المعركة، إذ يشعرهم بأنَّ هناك مَن يسندهم ويقف معهم، فتزيد رباطة جأشهم وتماسكهم".

الإضراب عن الطعام حربٌ تتصدَّى لها إسرائيل بكل جبروتها
على مدى الـ18 عاماً التي أمضاها نضال سمارة في المعتقلات الإسرائيلية، فإنَه شهد وشارك في أكثر من إضراب عن الطعام، وفي هذا السياق يقول: "لدى الحركة الأسيرة يومان مقدَّسان تبدأ الإضراب فيهما، هما: 17 نيسان (يوم الأسير الفلسطيني)، و15 آب (ذكرى استشهاد عدد من الأسرى خلال إضراب عن الطعام). وعلى مر السنوات شهدتُ وخضتُ عدة إضرابات عن الطعام، منها إضراب نيسان العام 1992، الذي استمرَّ 29 يوماً، وأنجزنا بفضله كلَّ مطالب الحركة الأسيرة آنذاك، من إدخال أسِرّة وفرشات ومواد غذائية معيّنة وزيت وزعتر وملابس ملوّنة ورفع مدة زيارة الأهل لـ45 دقيقة، وبالتالي كان هذا الإضراب تاريخيًّا".
ويردف: "وفي 15/8/2004 خضنا إضرابًا مفتوحًا عن الطعام لمدة 19 يوماً، وقد نجح بشكل عام وإسرائيل استجابت لجميع المطالب، ولكن في اللحظة الأخيرة قبل توقيع الاتفاق قام أحد المناضلين في حركة الجهاد الإسلامي بعملية استشهادية في بئر السبع فداءً للأسرى، وعلى اثرها قال وزير الأمن الإسرائيلي فليمت الأسرى، لن نوقِّع الاتفاق مقابل أرواح من سقطوا من الصهياينة! فاضطُرِرنا لفك الإضراب فوراً، وهنا لا بدَّ أن نؤكِّد أنَّ أي َعمل عسكري يتزامن مع الإضراب يفشله، لأن الساحة الأمنية والسياسية في إسرائيل تعتبر أن الدم اليهودي يساوي الكثير".
ويتابع: "أيضاً خضنا إضراباً في العام 2012، وكانت الحكومة الفلسطينية عبر رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين الفلسطينيين الوزير عيسى قراقع قد طلبت أن ينطلق الإضراب في 17/4/2012، ولكنّ القوى الإسلامية في ذلك الوقت طلبت تأجيل الموعد لـ27/4 لتلتحق معنا في الإضراب، فوافقنا عن حسن نية، وقلنا سيكون أفضل أن ننطلق معاً بعدد أكبر، وزخم أكبر، ولكن تبيّن لي لاحقاً أنَّ الهدف كان أن يقولوا إنَّ الأسرى لم يُصغوا لطلب الحكومة بل لطلب حماس، فقلتُ للأسرى في عوفر إذاً ننطلق نحن في 23/4/2012، وهكذا حصل، مع الإشارة إلى أنَّ الإضراب استمرَّ 28 يوماً وخاضه أسرانا كاملاً ومفتوحاً، أمَّا أسرى حماس فخاضوه تضامنياً عبر الاستبدال، أي في كل 10 أيام تقوم مجموعة بالإضراب وتفك الأخرى إضرابها، وكان الهدف الأساسي من الإضراب دعم الأسرى من غزة الذين مُنعَت عنهم زيارات الأهل والملابس وغيرها بسبب انقلاب حماس، وبالفعل حصلنا على نحو 60 مطلباً".
وينوِّه إلى أنَّ أهم إضراب خاضته الحركة الأسيرة كان إضراب نفحة في العام 1980، الذي استمرَّ 36 يوماً، وخاضه جميع أبناء الحركة الأسيرة، ودخلت فيه كل المعتقلات، وارتقى خلاله الشهداء علي الجعفري، راسم حلاوة، واسحق مراغة.
أمَّا عن آلية الإضراب وكيفية مواجهة إسرائيل له فيقول: "نحن في كلِّ إضراب نشكِّل اللجنة العليا للإضراب وطواقم خاصةَّ للإضراب، ونجري تعبئة داخلية، وندرس الظرفين الداخلي والموضوعي أي الحالة العامة والمنظومة الدولية للتأكُّد من عدم وجود أحداث أخرى تتصدَّر المشهد. ومن جهتها تعمل إسرائيل على إحباط الإضراب عبر شتى الوسائل، منها: شواءُ الطعام داخل المعتقلات، والنداءُ عبر مكبِّرات الصوت عن أنَّ فلاناً فك إضرابه أو غيره لضرب عزيمتنا، وسحبِ كل الإنجازات من الأسرى المضربين، كالتلفزيونات وزيارات الأهل، الخ، وسحبِ الملح ومياه الشرب وترك مياه الاستخدام فقط، وتنفيذ اقتحامات عبر وحدة القلعة (الماتسادا)، وتعمُّدُ نقلِ الأسرى المضربين من زنزانة لأخرى واستدعائهم لمحاكمات ونقلهم عبر البوسطة مع إطالة الطريق لإرهاقهم، والتنكيل بالأسرى المرضى الذين يطلبون الذهاب للعيادة، كما قد يقومون بإدخال طعام عند الأسير ويتركونه وكأنهم لا يراقبونه، وعندما يأكل يلتقطون له الصُّور، ثُمَّ يعلنون فكّه الإضراب ويأخذونه لمعتقلات غير المضربين عن الطعام".

أهم عوامل صمود الأسرى
يؤكِّد الأسيران المحرَّران نضال سمارة ورائد عوّاد أنَّ جميع الإنجازات التي انتزعها الأسرى لم تكن مجانياً، وإنَّما دفعوا لقاءها ثمناً كبيراً من الصبر والصمود والألم والدماء والأرواح. ويشدِّد الأسيران على أنَّ نجاح الإضراب وخضوع إسرائيل لمطالب الأسرى، وحتى إن كان لجزء منها، يقوم على أربعة عوامل أساسية هي: الالتفاف الجماهيري حول الأسرى عبر الهبّات الشعبية في وجه إسرائيل في كل مواقع التّماس؛ ودور الإعلام في التركيز على النشاطات التي ينظِّمها المتضامنون، وشرح قضية الأسرى ومطالبهم؛ والتعبئة الداخلية للأسرى وصمودهم لفترات طويلة في الإضراب؛ والتفاف الحركة الأسيرة ووحدة صفها الوطني؛ ثُمَّ العامل التصعيدي الأخير وهو إبلاغ الأسرى إدارة المعتقل بأنه لم يعد لديهم سوى خيار الشهادة، وينقطعون عن شرب الماء والملح، ممّا يُصيب إسرائيل بالذعر.
ويوضح سمارة وعواد أنَّ إسرائيل قبل أيِّ إضراب تحاول إجراء مفاوضات، وإذا لم تتوافق مع مطالب الأسرى، فإنَّ الأسرى يرفضون ويمضون في إضرابهم، لافتَين إلى أنَّ إسرائيل تضطّر للموافقة بعد ضغط إضراب الأسرى، لئلا يتم تصعيد الموضوع ويتحوّل لإلزامها بتنفيذ اتفاقية جنيف الرابعة بما يخص الأسرى الفلسطينيين، واعتبارهم أسرى حرب، في حين تعاملهم إسرائيل على أنَّهم أسرى مدنيوين (مرتكبو جرائم)، وهو ما سيقلب المعايير على إسرائيل التي لا تلتزم بالاتفاقية، علماً أنَّ الأسرى كانوا قد طالبوا بتطبيق الاتفاقية في العام 2012.