خاص مجلة "القدس" العدد 338 حزيران 2017
  بقلم: صقر أبو فخر

  في 20/6/2017 افتتح الجنرال عاموس غلعاد الدورة السابعة عشر لـِ"مؤتمر هيرتسليا للمناعة القومية" الإسرائيلية. وفي كلمته تحدث غلعار عن المكاسب السياسية التي حققتها إسرائيل مؤخراً مثل علاقات التعاون مع بعض الدول العربية، الأمر الذي عزز أمن الدولة الصهيونية في غير مجال. واللافت أن الدورات الماضية لهذا المؤتمر كانت تشهد خطباً وأوراقاً بحثية تركز على المخاطر المحدقة بإسرائيل كالترسانة العسكرية لحزب الله، ومخزون الصواريخ لدى حركة حماس في قطاع غزة، والعمليات المتزايدة ضد الجنود الإسرائيليين في الضفة الغربية، علاوة على البرنامج النووي الإيراني. أما في هذه الدورة فهناك كلام متواتر على المكاسب وعلى الأرصدة السياسية والأمنية، وحتى الاقتصادية التي تجنيها إسرائيل من علاقتها ببعض دول العالم العربي. ولتعزيز تلك المكاسب دعا عاموس غلعاد إلى اتخاذ قرار تاريخي ببدء الانفصال السياسي بين إسرائيل وفلسطين ما يشي بأن مبادرة أميركية في هذا الشأن يجري صوغها الآن لإطلاقها إما بعد حل المشكلة الخليجية الداهمة، أو  في أثناء القمة العربية- الأميركية المحدودة المتوقع عقدها في منتجع كامب دايفيد لمعالجة "المسألة القطرية".

الصورة المعاكسة
في الوقت الذي كان الجنرال عاموس غلعاد يتباهى باختراق العالم العربي كان أفيغدور ليبرمان يقول إن إسرائيل لم تحقق أي إنجاز استراتيجي في أي حرب خاضتها ضد العرب بعد حرب 1967.
وهذا الكلام مدعاة للتدقيق حقاً، خصوصاً أنه يصدر عن وزير للحرب في إسرائيل اشتهر بعنصريته ضد العرب وتطرفه، فهو صاحب فكرة طرد 300 ألف فلسطيني من منطقة المثلث إلى البلدان العربية المجاورة، وإرغام من يبقى من الفلسطينيين على الولاء للعلم الإسرائيلي ونشيد "ها تكفا" اليهودي، وعلى الخدمة في الجيش الإسرائيلي، وإلا فسيتم تحويل أولئك الفلسطينيين إلى فئة "مقيم دائم"، أي نزع المواطنة عنهم.
نعم، لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أي إنجاز استراتيجي حاسم في الحروب الشاملة أو الجزئية التي خاضتها بعد عام 1967 الذي وصلت فيه إلى ذروة قوتها وتوسعها. فحرب تشرين الأول 1973 شنتها سورية ومصر لا إسرائيل، وكانت نتيجتها نص انتصار ونصف هزيمة. وما جعل الكفة تميل إلى جانب الهزيمة هو أنور السادات وسياسته الإنسحابية وإدارته الظهر لقضية فلسطين في معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية في عام 1979 وفي حرب 1982 التي تمكنت فيها القوات الإسرائيلية من الوصول إلى مدينة بيروت، وكان من نتائجها خروج القوات الفلسطينية من بيروت والجنوب اللبناني، سرعان ما راحت إسرائيل تخسر جميع مكاسبها التي حققتها في تلك الحرب، فاغتيل رجل إسرائيل الأول في لبنان بشير الجميل، وانهارت خطتها لتوقيع معاهدة سلام مع لبنان (اتفاق 17 أيار 1983)، وبدأت المقاومة الوطنية عملياتها ضد وحدات الجيش الإسرائيلية المنتشرة بين بيروت والجنوب اللبناني، الأمر الذي أرغمها على الانسحاب السريع من بيروت، ثم الانسحاب المتدرج من الشوف وصيدا، لتنحصر في الشريط الحدودي الذي كان قائماً في أي حال منذ سنة 1978. وجراء هذه التراجعات انزوى ميناحيم بيغن في مصحة نفسية في دير ياسين ليعيش آخر أيامه وحيداً بعد موت زوجته عليزا، وبائساً جراء خيبة حرب 1982. ولو عاش فترة أطول لرأى بأم عينه كيف فرَّ جنوده من جنوب لبنان في أيار 2000 تاركين وراءهم حتى عملاءهم.
الأمر نفسه ينطبق على حرب تموز 2006، إذ تمكنت إسرائيل من إيقاع خسائر هائلة بالبنية التحتية في لبنان، وذهب ضحية غاراتها التي استمرت طوال 33 يوماً مئات الشهداء من اللبنانيين، لكنها لم تستطع أن تحقق أي انجاز استراتيجي غير مجيء قوات دولية لمراقبة وقف إطلاق النار بين الجيش الإسرائيلي وقوات حزب الله، والفصل بين الجانبين، وما زالت قوة حزب الله تتعاظم أكثر فأكثر منذ ذلك الوقت. وفي السياق نفسه فإن جميع العمليات الإسرائيلية الكبرى ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية (إعادة احتلال الضفة ومجزرة مخيم جنين وحصار الشهيد ياسر عرفات)، وكذلك في قطاع غزة مثل "حقل الأشواك" (2001) و"قوس قزح" (2004 و"أيام الندم" (2004) لم تسفر إلا عن مغادرة القوات الإسرائيلية من قطع غزة في سنة 2005، ولم تتمكن من تأخير كأس الإنسحاب.
وحتى بعد الإنسحاب من غزة فإن العمليات العسكرية الكبرى التي هي أشبه بالحروب مثل "أول الغيث" (2005) و"سيف غلعاد" (2006) و"الشتاء الساخن" (2008) و"الرصاص المصبوب" (2009) و"عمود السحاب" (2012) و"الجرف الصامد" (2014)، لم تنجدها في إحراز مزايا إستراتيجية كالقضاء على المقاومة، أو إخماد جذوة النضال لدى الشعب الفلسطيني.

تهتك عقيدة الردع
ما لم يُفصح عنه إفيغدور ليبرمان أو عاموس غلعاد هو أن عقيدة الردع الإسرائيلية نفسها تهتكت وفشلت لأن الفلسطينيين، بكل بساطة، لم يرتدعوا، وها هم يقاومون بما ملكت أيديهم، بالدهس والطعن والمواجهة اليومية. وعقيدة الردع الإسرائيلية كانت تعني أن الخصم، أي الفلسطينيين والعرب، يجب أن يدرك أنه سيدفع ثمناً لا يمكن احتماله في ما لو حاول المساس بأمن إسرائيل، وبهذا الإدراك يمتنع عن المساس بالأمن. وهذه النظرية صاغها دافيد بن غوريون، وكان آخر ممثل لها أريئيل شارون، وهي تقوم، تطبيقياً، على استغلال التفوق العسكري لتحطيم الخصم كقوة مقاتلة وإضعاف موقعه السياسي. ويُشتق من عقيدة الردع تلك نظرية "الحرب الجامحة"Crazy war   أو "الجدار الحديدي" التي صاغها فلاديمير جابوتنسكي والتي تزعم أن العرب لن يكفوا عن محاولة الهجوم على إسرائيل كلما سنحت لهم الفرصة، وسيتوقفون عن ذلك عندما يدركون أن الهجوم المتكرر على إسرائيل يشبه اختراق الجدار الحديدي: مستحيل ويحطم الجماجم.
وخلاصة هذه النظرية هي ضرورة العمل على حرمان العرب من امتلاك أي قدرة لمهاجمة إسرائيل في أي مرحلة.
انتهت منذ زمن ليس ببعيد عقيدة الردع الإسرائيلية بصيغتها القديمة، وانتهت معها مقولة دافيد بن غوريون التي كانت تزعم أن "أفضل مفسر للتوراة هو الجيش الإسرائيلي". وتحاول إسرائيل، بلا ريب، تعويض ما تهتك من قوتها بالتفتيش عن مكاسب خارج حدود فلسطين، أي في قلب العالم العربي. ولعل "الانفجار العربي" أو ما سمي "الربيع العربي" قدم لها كثيراً من المزايا (بالنقاط السالبة)، فتفكيك دول العالم العربي، خصوصاً سورية والعراق واليمن وليبيا، نحن مَن صنعناه، أما إسرائيل فهي التي تتنعم بآثاره. وتراجع قضية فلسطين في المجال السياسي الرسمي كان النتيجة المباشرة لتفكك العرب واندلاع حروبهم البينية، وانتهاء شعار "التضامن العربي" بين الدول العربية.

هبوب العواصف النجدية
ما هي صورة الحال العربية اليوم؟ يمكن القول إن سقوط نظام حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس، وهما من عصائب السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، جعل الأميركيين يعيدون النظر في سياساتهم الخارجية. ثم جاء سقوط معمر القذافي ليجعل الفوضى سيدة الموقف في شمال أفريقيا والصحراء الأفريقية معاً. واكتشف منظرو السياسات الأميركية متأخرين أن دعم العائلات الحاكمة في الخليج العربي أدى إلى انتشار "القاعدة" في الشرق الأوسط، وازدياد فاعليتها في العالم كله. ثم إن دعم المعارضات العربية التي لا تحصى  في سياق "الربيع العربي" لم يؤدِ إلى الديمقراطية، بل إلى المزيد من تمدد الحركات الإسلامية الإرهابية في كل مكان. وهذا ما جعل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يصرح بأن الشرق الأوسط منطقة في قيد التفكك، ولا يمكن إصلاحه، وبات منطقة غير ذات أهمية إستراتيجية لأميركا، وأن مصدر الأزمات في الشرق الأوسط ليست إسرائيل، بل هي دول الخليج العربي نفسها، والسعودية بالتحديد، وهي المسؤولة عن صعود المنظمات الإسلامية المتطرفة (مجلة "أتلانتيك"، 10/3/2016).
ما عادت الولايات المتحدة الأميركية تحتاج إلى السعودية، فهي لا تستورد منها إلَّا 8% من حاجاتها النفطية، و 5% من بقية دول الخليج العربي كلها. ومع مجيء دونالد ترامب إلى موقع الرئاسة في أميركا، تبين أن خطته هي تصفية الحقبة الأوبامية داخلياً وخارجياً، لذلك بادرت السعودية وخلفاؤها إلى الحج نحو أميركا للتأكيد على أنهم هم مَن يحتاج إلى أميركا في مواجهة الخطر الإيراني وليس العكس، وأنهم في سبيل هذه الغاية مستعدون لبذل ما في صناديقهم من أموال.
وفيما تنحسر عاصفة "الربيع العربي" بالتدريج، ها هي عواصف الجزيرة العربية الآتية من نجد تهب بقوة. ويلوح لي أن المرحلة المقبلة هي مرحلة الصراعات المكشوفة بين الأنظمة المتشابهة (قطر-السعودية)، خلافاً لما كانت حال الأمور عليه في السابق. ويبدو أن حرب اليمن فككت عرى دول النفط، وجعلتها تدخل في طور الأنظمة المتصارعة والمتنافسة في الملعب الأميركي وليس خارجه، بينما إسرائيل تدير ثلاثة أنظمة للحكم: نظام ديمقراطي لليهود (80% من السكان)، ونظام عنصري يطاول 20% من السكان (فلسطينيو 1948)، ونظام احتلال للضفة الغربية. فمتى يتفكك هذا النظام الثلاثي الأبعاد؟