خاص مجلة القدس العدد 330 ايلول 2016
تحقيق:غادة اسعد

نأتي إلى يافا، حاملين شوقنا للبحرِ والصيدِ والماء الوفير، وللأرضِ الممتدةِ على مدّ البحر. ها نحنُ في يافا، نشمُ بحرها، ونستنشقُ ترابها، ونتفاءَل بمائها واللون الأزرق الذي يلمعُ ويمتدُّ على مدّ النظر، ذكرياتٌ تُعيدُنا إلى يافا العربية الجميلة قبل النكبة. لكن يافا اليوم تبكي رغم صمتها، فهذه المدينة التي كانت يوماً رمزاً من رموز الثقافة الفلسطينية، لم يبقَ منها إلا بعض الملامح والأحياء العربية المُستهدَفة من قِبَل المؤسسة الإسرائيلية.


يافا عروس البحر وصرح الثقافة
تُعدُّ يافا من أقدم وأهم مدن فلسطين التاريخية التي أسَّسها الكنعانيون في الألف الرابع قبل الميلاد، وكانت منذ ذلك التاريخ مركزًا تجاريًا مهمًّا للمنطقة. وقد اشتُقَّ اسمها من الاسم الكنعاني للمدينة، والتي تعني الجميل أو جميل المنظر، وهي بجميع تسمياتها تعبّرُ عن معنى الجمال. ولطالما احتلَّت يافا موقعًا طبيعيًا متميّزًا، على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، إلى جانب إشرافها على طُرُق المواصلات والتجارة، ما جعلها بوابة فلسطينية مميّزة. ويُعدُّ ميناؤها أحد أقدم الموانئ في العالم، إذ كان يخدم السفن منذ أكثر من 4000 عام، ونشط في حركة الاستيراد والتصدير، حيثُ كان يتم عبره تصدير الحمضيات والصابون والحبوب، واستيراد المواد التي احتاجتها فلسطين. كما كانت تعجُّ بالأسواق المحلية وبساتين الحمضيات والفواكه والخضار المنتشرة حول المدينة، واشتهرت ببرتقالها اليافاوي.
هذا وعُرفت يافا قبل النكبة بعاصمة فلسطين الثقافية بدون منازع، لاحتوائها على أهمّ الصحف الفلسطينية اليوميّة وعشرات المجلات ودُور الطبع والنشر، إلى جانب أهم وأجمل دُور السينما والمسارح والأندية الثقافية.

يافا والنكبة وما بعدها
تبعُد يافا عن القدس نحو 55 كيلومتراً غرباً. وقد احتلّت لفترة مكانة هامة بين المدن الفلسطينية الكبرى من حيث المساحة وعدد السكان والموقع الاستراتيجي، قبل وقوع نكبة 1948، وتهجير معظم أهلها العرب. ولكن في العام 1946 تعرّضت يافا لاعتداء حتى لم يبقَ منها العام 1948 سوى ثمانية آلاف ونيِّف من السكان العرب الذين تشرَّدوا في مختلف المناطق، واستقر عدد منهم في حي العجمي بيافا، ولم يكن يُسمح لهم الخروج من الحي إلا بإذنٍ خاص من سلطة الاحتلال الإسرائيلي، ثُمَّ ارتفع عددهم إلى 4000 بين الأعوام 1949 و1959، ويُقدَّر عدد سكان يافا اليوم بما يزيد عن 120 ألف نسمة معظمهم من المهاجرين اليهود الذين أُسكِنوا في المدينة.
وكانت الحكومة الإسرائيلية قد قرَّرت في العام 1949 توحيد مدينتَي يافا وتل أبيب من الناحية الإدارية، تحت اسم البلدية المشترك "بلدية تل أبيب - يافا"، بعد أن غيَّرت الكثير من معالمها وهدمت جزءًا كبيرًا من أحيائها وقامت بتهويدها بعد أن احتلَّتها المنظمات اليهودية في 26 نيسان 1948، في عملية أُطلِق عليها اسم "عملية درور".
وتتكوَّن المدينة اليوم من 12 حيًا يسكن العرب ثلاثة منها، ويُعتبر حي العجمي من أهم الأحياء وأقدمها، فبعد أن أفل نجم يافا، أثناء النكبة، قرّر رئيس البلدية إصلاح هذا الحي وتنظيف شوارعه، وهي خطوةٌ كانت تبدو لصالح السكان العرب، ولكن سرعان ما تمّ استقطاب المستوطنين من اليهود الجدد الذين وجدوا فيه منزلاً.
وحول طبيعة الحياة في هذه الأحياء التي يسكنها العرب والمستوطنون تقول الناشطة الاجتماعيّة روان بشارات: "يبدو التعايش المشترك أمراً صعباً جدًا بكل ما يتعلّق باليهود الذين ينزعجون من أصوات أجراس الكنيسة وأصوات الأذان في الجامع، ويعتبرون هذا الأمر عدم احترام لهم، ولوجودهم هنا، في حين أنه من المفترض أن يعملوا هم على التأقلُم مع المكان، لا أن يطلبوا العكس!".
وتضيف "في هذه الأحياء العربيّة نجد فوق البيوت الفلسطينية أسماء شوارع ومسميات عِبرية وبيوتاً لا تنتمي إلى المكان شيّدها الإسرائيليون بمبالغ طائلة، ووجود المستوطنين في هذا الحي العربي يُسفر عن توترٍ نابعٍ من فكرة صراع الثقافات واختلافها".
وتقول الناشطة ناهدة سكيس: "لقد مرَّروا قانوناً يقول إنَّ سطح البيت لم يعد ملكك، لذا يجب أن تشتريه، لمنح فرص أكبر للأثرياء وتسهيل إمكانية الشراء بالنسبة لهم، ومع الأسف لم تمر الخطة كما اعتقدنا، بمعنى أنَّ يسكن اليهود والعرب وفق التعايش السلمي المنشود، فالأمر كان معاكسًا تمامًا، وليس فيه أيُ رائحة من السِّلم المنشود والحقيقي".
أمَّا الناشط السياسي سامي أبو شحادة فيقول: "جميع شوارع الحي تمَّت تسميتها وفقاً لأسماء رجال دين يهود مختلفين، أو أسماء قيادات صهيونية أو أناس من التاريخ اليهودي، فعمليًا تم تغيير كل الحيز العام وتهويده، وكجزء من عملية التهويد كان يتم إما هدم كامل لجزء من المدينة، كما حصل في حي المنشية الذي تبقّى فيه مسجد حسن بيك فقط، أو الأحياء الشرقية للمدينة أو هدم جزئي كما حصل في حي العجمي".
ويضيف متحدِّثاً عن النكبة الموجعة: "باعتقادي مِن أهم أبعاد النكبة هو ما جرى للمدينة الفلسطينية، فمنذ العام 1948 وحتى اليوم لم يستطع الفلسطينيون في الداخل بسبب سياسات إسرائيل بناء مدينة حديثة كيافا قبل العام 1948. ويافا قبل النكبة كانت مُحافظة كبيرة لا مجردَ بلدةٍ، إذ ضمَّت 25 قريةً، والحدود الشمالية كانت لغاية سيدنا علي، واليوم أصبحت تسمى هرتسليا. أمَّا الحدود الجنوبية فكانت لغاية النبي روبين وهي اليوم قضاء ريشون لتسيون، فيما كانت حدودها الشرقية لغاية بيت دجن، طريق الرملة".
ويقول الناشط اليافاوي عبد سطل: "إسرائيل هدفت إلى اقتلاع الفلسطيني من أرضه ومسكنه، فكل المعالم الأثرية التي تدل على وجود العرب والمسلمين حاولت إسرائيل أن تمحوها".
ويتابع "يافا الجميلة، لم تكُن تنام أيام الأعياد قبل النكبة، لكنّ الاحتلال أعادنا إلى الوراء أكثر من 100 سنة، واليوم هناك مليون و500 ألف فلسطيني في الداخل يتطورون بدون مدينة، وهذه ظاهرة فريدة من نوعها، فحتى في المجتمعات الإفريقية والمستضعَفة، يكون هنالك مركز أو مدينة، أو عاصمة يريدون أن يهاجروا إليها للوصول إلى الجامعة، وفيها مراكز، يافا بعد العام 1948، هُوِّدَت بقرارٍ وخطة واضحة، حيثُ تمّ تغيير جميع أسماء الشوارع، وطرد السكان واستبدالهم باليهود من جميع أنحاء العالم. وجاء الهروب من يافا بعد وقوع مذبحة دير ياسين، وكانت ضربة معلم، لذا خاف الناس وهربوا".

مخطَّط جديد يهدِّد حي العجمي
يوضح الناشط عبد سطل أنه بعد سقوط يافا ودخول العصابات الصهيونية إليها، غادر 90% من أهل المدينة، مضيفاً "من بقوا جُمعوا في بعض الأحياء وخاصةً العجمي، واستعمل اليهود كلمة "غيتو" لوصف حي العجمي الواقع أقصى جنوب مدينة تل أبيب، ووضع الاحتلال سلكاً شائكاً حول الحي مع جنود وكلاب خارجه، بهدف إغلاق الطريق على الأهالي لأنَّ الحي أولاً صغير ومغلَق مِن البحر، وثانياً لبعده عن مركز المدينة، ومعظم الفلسطينيين كانوا تحت الحكم العسكري حتى العام 1966، وبقي حي العجمي حتى العام 1950 في الغيتو، وبعدها وبشكلٍ رسمي لم يعد كذلك، ولكن حرية التنقُّل بقيت مقيّدة حتى بعد إسقاط الغيتو.  فجدي مثلاً وهو من عائلة فلاحين بسيطة، كان يحبُّ سماع الزجل، ويخرج لسماعه مع أصدقائه عبر تاكسي من برج الساعة حتى بيروت، أصبح يحتاج إلى موافقة الحاكم العسكري للخروج من حي العجمي إلى الميناء دقيقتين سيرًا!".
ويردف "حي العجمي أدّى دورًا تاريخيًا كبيرًا بعد النكبة في حياة اليافاويين، وحتى عندما خرجوا باتجاه الشرق بقيت أهمية بالغة لحي العجمي تختلف عن كافة الأحياء التي نعيشها، فالتعامل معه، والشعور تجاه حي العجمي يختلف عن بقية يافا، فعمليًا بعد الـ48 لغاية أواخر السبعينيّات، يافا كانت هي حي العجمي".
وبعد نجاح تجربتهم في منطقة "الجبلية" في يافا، يبدو أنَّ المستوطنين والشرطة والدولة من ورائهم، يسعون اليوم لتكرار جريمة الاستيطان سابقًا في حي العجمي عبر احتلال المكان والاستفراد بسكان حي العجمي على أمل إبعادهم تمامًا مِن وسط المدينة التاريخية الباقية، وتكرار ذلك لاحقًا في حي العرقتنجي، ويخشى أهالي حي العجمي مِن الغدر الذي قد يطالهم، لتكون نهايتهم بالترحيل والتهجير إلى خارج المدينة، خاصةً أنَّ مساعي المستوطنين في سرقة الأرض والمكان بالقوة غالبًا ما تنجح، لكونِ الصوت اليافاوي ضعيفًا، ومُحاصرًا بكل الأوجاع السابقة، منذ النكبة وحتى اليوم.