مجلة القدس- غزة/ منال خميس:

وسط صمت عربي ودولي مهين، لا يختلف المشهد من مدينة الى اخرى في قطاع غزة، مجزرة تلو أخرى، شهداء وجرحى وأشلاء، وخراب تطلقه آليات الارهاب الاسرائيلي برًا وبحرًا وجوًا تاركة خلفها رائحة الموت والبارود.

في غزة فقط الحزن والقهر يطغيان على الوجوه منذ 18 يومًا والأيام تتوالى بالعدوان الاسرائيلي، فلا تكاد تسمع في كل المدن غير أصوات نسف البيوت وأصوات القصف الهمجي الاسرائيلي الذي طال كل شيء، فهو أعمى لا يُميّز بين حجر أوشجر أو بشر، ولكن حدّته تشتد على المناطق الحدودية المتاخمة لاسرائيل، حيث قضى على عائلات بأكملها في حي الشجاعية الواقع شرق غزة، ومناطق شرق رفح جنوب القطاع وبيت لاهيا شماله، وخزاعة والقرارة بخان يونس جنوب القطاع، وغيرها في مذابح جماعية أشبه ما تكون بمجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها العدو نفسه في مخيمَي صبرا وشاتيلا للفلسطينيين في لبنان.

 

الأحد الأسود .. 

هنا مجزرة الشجاعية، فجر اليوم الرابع عشر للعداون على غزة، أشلاء مقطّعة وجثثٌ تملأُ البيوت والشوارع. 27 شهيداً تم انتشال جثامينهم، خلال هدنة قصيرة سمَحَ بها الاحتلال  بعد وساطات عديدة ومعقّدة، اضافة الى مئات الاصابات، زد على ذلك من تبقوا تحت الانقاض، ولم تتمكّن الطواقم الطبية من انتشالهم في هذا اليوم والعدوان مستمر.

مجزرة قالت العجوز مريم ملكة (90 عامًا) في وصفها لـ"القدس": "عاصرتُ عدة حروب، ولكن مثل ما حصل لهم في الشجاعية لم يحدث على مدار التاريخ، وتشيب له الولدان".

وأضافت ملكة: "كانت ليلة غبرا... تمكّنا من الهرب بعد حصار منزلنا القريب من الشريط الحدودي الشرقي، وخرجت النساء من البيوت، ولكن بمجرد خروجنا من المنزل انهالت علينا القذائف من دبابات الاحتلال، فأخذنا نركض بغير هدى، وعمّت فوضى كبيرة، وكان هناك صعوبة في لملمة الاطفال الذين بدؤوا يتساقطون على الارض لا يستطيعون المشي من شدة الخوف، وكان اثنان من أبنائي يحملانِني على كرسي الى ان تمكّنا من الخروج من المكان ولكن من عاد الى البيت لا نعلم ما حدث له بعد ذلك، ولا نعلم ماذا حدث للبيت، فهناك حديثٌ عن شهداء كُثر وربنا يستر".

الحاجة ملكة التي التقينا بها في احد مراكز الايواء لا تكف عن الدعاء لأبنائها الذين عادوا  للبيت وبسبب انقطاع الاتصال ومحاصرة الاحتلال للمنطقة، لا تعلم عنهم شيئًا.

وقالت ملكة: "إن جيش الاحتلال القى من الطائرات مناشير طالب فيها سكان الشجاعية باخلاء المكان، وإلا فإنهم سيعرضون انفسهم وعائلاتهم للخطر ولكنهم لم يُصدّقوا ذلك، وبقوا في بيوتهم"، مضيفة: "وزارة الداخلية عبر الاذاعات طالبت السكان بعدم مغادرة بيوتهم، فصمدنا بها الى ان جاء يوم الأحد الأسود وكانت المذبحة".

 

بالرغم من خسائرنا ..إسرائيل تتلقى الصفعات

هذا التغوّل الاسرائيلي أوقع مئات الشهداء وآلاف الجرحى في كافة أنحاء القطاع، حتى باتت المستشفيات تئن تحت وطأة شح المستلزمات الطبية والأدوية منذ بدء عدوانه الهمجي على قطاع غزة فجر الثلاثاء 8/7/2014 في عملية أسماها "الجرف الصامد"، ولا يزال الطيران الحربي والمدفعية الاسرائيلية تطلق قذائفها براً وبحراً  وجواً.

وفي هذا الصدد أعلنت الاذاعة عن "ارتفاع حصيلة الشهداء لليوم الثامن عشر للعدوان على غزة الى 37 شهيدًا باستشهاد خمسة مواطنين في حي الشوافين في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خان يونس". واكد الدكتور أشرف القدرة الناطق باسم وزارة الصحة ارتفاع حصيلة العدوان المستمر على قطاع غزة الى 734 شهيدًا و4605 جرحى حتى تاريخ اعداد التقرير.

واسرائيل التي تلقّت الضوء الأخضر من أمريكا لقتل غزة، تلقته هذه المرة بدعم صريح على لسان باراك أوباما نفسه، الأمر الذي جاء متساوقًا مع رؤية رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو واستراتيجيته في مواصلة عدوانه على قطاع غزة، حيثُ قرّر الانتقال إلى مرحلة  الدخول البري وهي الأكثر خطورة، وتلقّى الأمر من جانبه رئيس وزراء دولة الإرهاب موشيه يعلون، الذي أعلن بأن إسرائيل مصممة على المضي قدماً في عدوانها الإرهابي على قطاع غزة، والمساس بشكلٍ خطير بالبنى التحتية لفصائل المقاومة الفلسطينية.

يعلون قال في كلمةٍ له "أمامنا أيام طويلة من القتال"، وبالفعل أعلن بدء حملته البرية متمركزاً في عملياته على المشارف الشرقية للمدن الحدودية. ففي مدينة غزة تمركز الجيش على اطراف احياء الشجاعية والزيتون والتفاح، ومناطق العاطرة والسلاطين على مشارف شمال غزة، وخزاعة شرق خانيونس، ومنطقة المطار على حدود رفح، وغيرها، ولكن على ما يبدو فهذه المرة ليست كسابقاتها، إذ إنه يواجه مأزقاً خطيرًا بسبب الفخاخ والمواجهات الشديدة مع المقاومة التي شارك فيها جميع ألوان الطيف الفلسطيني، مما تسبّب للعدو بخسائر لن ينساها. وأعلنت جهات اسرائيلية رسمية عن نفوق 13 جندياً إسرائيلياً من لواء غولاني للمشاة، فجر "الأحد"، خلال تصدّي فصائل المقاومة الفلسطينية لمحاولات اقتحام مدينة غزّة من منطقة الشجاعية فقط، وأوضحت تلك الجهات أن 65 جندياً آخرين، يتلقّون العلاج بمستشفيات إسرائيل جراء إصابات لحقت بهم خلال الاشتباكات التي دارت مع فصائل المقاومة على حدود مدينة غزّة، واصفةً جراح سبعة منهم بالخطيرة. وأعلن الجيش الاسرائيلي في وقت لاحق عن اسماء 5 من ضباطه وجنوده في لواء غولاني الذين قتلوا وهم: الرائد تسفرير بار، وهو ضابط في لواء غولاني، والقائد تسفي كابلان، والرقيب جلعاد يعكوفي، والرقيب ماندولوفيس أوقية، ونسيم شون.

ولم تكن تلك هي الصفعة الوحيدة التي تلقتها قوات الاحتلال الاسرائيلي على مشارف غزة، فقد أعلنت المقاومة الفلسطينية عن أسرها لجندي اسرائيلي يدعى شاؤول ارون صاحب الرقم 6092065، وأكّدت اسرائيل ذلك بإعلانها فقدان احد جنودها خلال معاركها في الشجاعية، مما رفع وطأة العدوان، وبالتالي اشتدت وتيرة أعمال المقاومة الفلسطينية مكبّدة هذا الاحتلال خسائر بشرية ومادية فادحة حتى لحظة اعداد التقرير، حيث اعلنت اسرائيل  في آخر احصائياتها الرسمية عن سقوط 33 قتيلاً اضافة الى مئات الاصابات الخطيرة بين صفوف جنودها، وتدمير عشرات الآليات العسكرية، عدا عن  الرعب الذي يستولي على مواطنيها جراء الصواريخ المحلية الصنع الفلسطينية التي تمكّنت من اختراق القبة الحديدية بجدارة.

 

السيناريو يتكرر.. وهجرة من جديد

اذن المحرقة في غزة حقيقية، والجحيم في غزة مستعر، فالحرب من طرف العدو غير أخلاقية، وغير مسبوقة، اسرائيل استهدفت قبل كل شيء الأطفال والنساء والبيوت الآمنة، والسيناريو الاسرائيلي متشابه في كافة المناطق والبلدات الحدودية "الأرض المحروقة"، التي تستهدف كل شيء حي متحرّك، عائلات بأكملها دُكّت بيوتها على رؤوس ساكنيها، فاختلط الدم باللحم بالتراب بالحجر. ومن نجا نزح الى مراكز الايواء التي فتحتها وكالة الغوث، التي استقبلت حوالي 90 ألف لاجئ، بأضعاف مضاعفة عن طاقتها الاستيعابية، حتى اصبحت لا تستوعب المزيد من النازحين، فلجأ الناس الى بيوت لا يعرفون أصحابها قاموا باستقبالهم وبقي آخرون في الشوارع وباحات المستشفيات والمساجد، ولكن لا مكان بآمن هنا في غزة فقد استهدفت قذائف الاحتلال المساجد والمستشفيات وقتلت الطائرات أطفالًا يلعبون على أسطح منازلهم وآخرين يلهون على شاطئ البحر

ومن جانبه أعلن المركز الفلسطيني لحقوق الانسان في قطاع غزة ان حوالي 130 الف فلسطيني فروا من منازلهم في مناطق قطاع غزة القريبة من الحدود مع إسرائيل.

"هجرة جديدة، لقد عاصرت ثلاثة حروب على غزة، في 2008 و2012 والآن 2014 وهذه هي الاعنف والأقسى"، وأضاف الشاب عماد صليح (26 عامًا) من شمال قطاع غزة للـ"قدس": "قصفوا البيت، تشردنا أنا وعائلتي، وحوالي 30 شخصًا في عمارة واحدة مكوّنة من أربع طبقات، الحمدلله أنه ليس بيننا اصابات، رغم أن مدفعية الاحتلال دكّت المنزل بشكل مباشر، و بلا رحمة".

وتابع صليح الذي التقيناه يفترش الأرض في باحة مستشفى الشفاء بغزة: "لانعرف ماذا سنفعل بعد ذلك، ربنا بيعوض، والدي الآن بالمستشفى جرّاء صدمته بفقدان المنزل".

ورداً على سؤالنا حول كيفية تدبر أمورهم، قال "أهل الخير كثر"، لقد جلب لنا الناس أغطية وبعض الملابس وطعامًا، نتمنّى أن لا يطول الحال".

وهذا ما تتمناه أيضاً سيدة التقيناها بأحد مراكز الايواء، حيثُ قالت: "الله ما يطولها شدّة، البيت راح، وزوجي راح، ابني أصيب، ثلاث بنات وولدان معي الآن بالمركز، لا أريد أن أتذكر شيئًا، اكثر من ذلك، فما زلت اسمع اصوات صرخات الجرحى، وصوت القذائف، وصوت حجارة البيت وهي بتنزل علينا، 10 ساعات رعب فقدت بعدها الزوج والمأوى". السيدة رفضت اكمال حديثها معنا قائلة: "حرام عليكو، سيبوني، أنا تعبانة كتير".

مدير مركز الايواء الذي أشار لنا ان نترك السيدة، همس لي بعد ذلك بأنه وصله خبر استشهاد ابنها المصاب ولا يعرف كيف سيخبرها بذلك.

قصص الناجين من الموت التي سمعناها من داخل مراكز الايواء تتشابه، وتترك لديك ما لا يمكنك ان تصفه من مشاعر مختلطة، ولكن ما ان تدخل مستشفى الشفاء- إن تجرّأت ودخلت إليه- فلن تكف دموعك عن السقوط. تكدُّس المصابين على الأَسِّرة والممرات، صرخات الجرحى، الثلاجات أيضاً ممتلئة، جثامين بكامل هيئتها، وأشلاء مختلطة، معجونة ببعضها البعض، ربما هي لعائلات بأكملها، بعضها لم يتم التعرف عليه بعد، وفيما أنت تتجول بالمكان تدوي بين الفينة والأخرى صرخة أحد المفجوعين حين يتعرف على جثمان أو اشلاء أحد من أفراد عائلته.

"هذا رامي، هذه أخته الصغيرة علا، هذا سليم وهذا باسم، هذه جزمة علا الزهري، يا رب ارحمنا.. كتير هيك" حاولت ان أتحدث مع الشاب، لكنه صرخ والدموع تملأ وجهه "لا أريد الحديث مع أحد .. ومحدش يصوّر.. بقول محدش يصور".

المستشفى من الداخل جحيم أرضي تختلط فيه رائحة الموت واليود وصراخ الجرحى وعذاب المكلومين، وفزع المنكوبين، وأصوات قصف الطائرات وزوارق الاحتلال البحرية.

 

مساعٍ للتهدئة

الحديث عن هدنة ولو لساعات قليلة هو الأمر الذي يغلب على جمّ أحاديث النازحين الراغبين بالعودة إلى منازلهم لتفقد باقي افراد عوائلهم الذين لم يتمكنوا من الخروج، الحديث هنا بين الناس يدور عن التوقعات حول العثور على اقاربهم اما شهداء او جرحى.

وفيما يعلو صوت الحديث في المجالس حين  احصاء أعداد الشهداء والجرحى واحصاء عدد الغارات التي استهدفت كل منطقة، وتتبُّع أماكن سقوط الصواريخ التي تطلقها طائرات الاحتلال، وسعر كيلو الفلفل الأخضر الذي تجاوز ثمانية شواكل، وتحركات وجهود الرئيس محمود عباس للتوصل إلى تهدئة، لوقف سيل دماء أبناء شعبه، ثم القفز الى تحليل لخطاب خالد مشعل، وموقف بان كي مون المخزي، يعلو صوت الأطفال فجأة، الذين بدا الأمر لهم كلعبة... ( طالع..طالع..طالع) أو (نازل..نازل..نازل)، وذلك حين انطلاق أحد صواريخ المقاومة من فوقهم، أو سقوط قذيفة من طائرة حربية اسرائيلية من السماء.

ومن جهته يواصل الرئيس محمود عباس جهوده للتوصل إلى تهدئة، ويأمل التوصل خلال أيام إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في قطاع غزة". وخلال كلمة تلفزيونية له من العاصمة القطرية الدوحة التي وصلها للقاء خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، قال: "نحن نجمع الليل بالنهار لنوصل أهلنا لوقف القتال ونوقف شلال الدم". وتابع "أنا كمسؤول عن هذا الشعب يهمني نقطة دم لأي طفل ألا تراق ونحفظها ونحميها مهما كان الثمن، هم أغلى من كل شيء، وبعدها نتكلم في قضايا السياسة وكل شيء نريده، لكن الدم الأغلى عندنا".

وأضاف: "هدفنا الأساس أن نوقف شلال الدم الذي يقع الآن في قطاع غزة، لذلك كانت كل مساعينا في الأسبوع الماضي متّجهةً نحو العالم كله لنوقف شلال الدم الذي يجري". ووصف الرئيس عباس ما يجرى في غزة بأنه "مأساة"، مشدّدًا على أن التركيز هو لوقف القتال لفترة معينة من الزمن أسبوع أكثر أو أقل، ثم توضع الطلبات على الطاولة وتُنَاقش، فمن جهة نعطي فرصة للناس كي يرتاحوا، ومن جهة أخرى لعل وعسى أن نحصل على بعض الأمور التي نحتاجها، والمهم أن نوقف القتال".

وفي وقت لاحق قالت مصادر فلسطينية متطابقة في السلطة الفلسطينية وحركة حماس، انه جرى التوافق على نطاق واسع فلسطيني وعربي ودولي، على تطوير خطة لوقف العملية الإسرائيلية في قطاع غزة بضمانات عربية - مصرية – أميركية، بحيث يتحقّق وقف إطلاق النار بشكل فوري ثم تناقش مطالب حماس وبقية الفصائل على الفور.

ولفت مسؤول في حركة حماس إلى حصول تقدّم في المحادثات الجارية في القاهرة من اجل انهاء المعركة الحالية في قطاع غزة، غير انه اضاف ان حماس تطالب بضامنات مفصّلة حول رفع الحصار عن القطاع. واقر المسؤول بعدم وجود فرصة لحمل اسرائيل على رفع الحصار بالتزامن مع دخول وقف اطلاق النار حيز التنفيذ، إلا انه اضاف انه يجب الاتفاق على المبادئ، ثم على الجدول الزمني والآلية لإنجاز ذلك.

وفي غزة، قال المسؤول الحمساوي اسامة حمدان، انه ليس هناك ضمانات امريكية بشأن رفع الحصار، بل هناك وعود امريكية بتوفير هذه الضمانات.

هذا وتوقع وزير كبير في المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر، بعد جلسة عاصفة التوصُّل إلى وقف لإطلاق النار خلال أيام معدودة. ورأى الوزير أن مقترحًا جديدًا بوساطة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وسكرتير عام الأمم المتحدة سيلقى موافقة إسرائيل وحماس.