بقلم/ صقر أبو فخر

كتب الكثير جداً عن قضية فلسطين، وعن فلسطين تاريخاً وشعباً وحضارة، وسالت أحبار غزيرة عن منظمة التحرير  الفلسطينية وعن النضال الفلسطيني الموشوم بالنار، وعن اللاجئين وأحوالهم ومخيماتهم وأعدادهم وغير ذلك. لكن لم يكتب إلا القليل جداً عن الحركة الوطنية المعاصرة بتشكيلاتها ومنظماتها وفصائلها والبدايات الأولى لتأسيسها وأشخاصها المؤسسين، وأسرار البدايات الأولى والعمليات الأولى. ومع أن حركة فتح كانت الرائدة في إطلاق الحركة الوطنية الجديدة، والسبّاقة في إطلاق الرصاصات الأولى، إلا أن تاريخها الحقيقي ما زال يلفه بعض الغموض، وما زالت وقائع سنوات الجمر، أي من التأسيس السري في سنة 1959 حتى الانطلاقة في سنة 1965، عرضة لروايات كثيرة ومتناقضة. والرواية الصحيحة لهذه الحركة الجبارة ما برحت تفصيلاتها متناثرة هنا وهناك، ولا سيما في المذكرات والسِيرَ مثل كتاب "فلسطيني بلا هوية" لأبو إياد. أما الكتب الأخرى مثل "صفحات مشرقة من تاريخ الثورة الفلسطينية" للرئيس محمود عباس وكتاب محمود حمزة عن "أبو جهاد" فهي تدخل في باب التاريخ الشفوي وليس في باب التأريخ كعلم يعتمد على التقصي والبحث والمقابلة، ويستند إلى الوثيقة والمعلومة الصحيحة.

إن تاريخ حركة فتح هو تاريخ المؤسسين الأوائل بلا ريب. لكن هذا التاريخ يكاد يُهال عليه أكوام من الغبار بعدما استشهد معظم هؤلاء قبل أن يسجلوا هذه التجربة الغنية. لكن، في المرحلة الأخيرة، راحت بعض الشهادات الجزئية تصدر تباعاً مثل "شهادات عن تاريخ الثورة الفلسطينية"، وفي ذكريات شفوية سجلها الأخ يحيى يخلف (أبو الهيثم) من أفواه سليم الزعنون وأبو علي شاهين وأبو الرائد الأعرج وانتصار الوزير وعبد الحميد القدسي ومحمد صبيح ونصر يوسف ومروان عبد الحميد وأنيس الخطيب، وكذلك أصدر سعيد المسحال ذكرياته سنة 2013، وهو من الجيل المؤسس. ولعل كتاب أمنون كابليوك "عرفات الذي لا يقهر" هو من أفضل كتب السيرة في هذا المجال فضلاً عن كتاب سعيد أبو الريش على الرغم من أن هذا الكتاب الأخير مرصود لمجاراة العقل الانكليزي بالدرجة الأولى. أما كتاب يزيد صايغ "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة" فهو من الكتابات العلمية النادرة في الثقافة الفلسطينية.

في خضم هذا القحط في التدوين التاريخي الفلسطيني أصدر اللواء محمود الناطور (أبو الطيب) كتابه "حركة فتح: بين المقاومة والاغتيالات" (جزآن، عمان، الدار الأهلية، 2014). وهذا الكتاب الذي قدم له السيد هاني فحص تقديماً يمزج الذكريات بالحنين، يأتي في أوانه تماماً ليغطي النقص الكبير في الكتابة التاريخية الفلسطينية عن حركة فتح. وهذا الكتاب ليس مجرد كتاب يُقرأ ويوضع على الرفوف، بل هو مرجع شامل، ولعله الأكثر تفصيلاً في رواية التاريخ الحقيقي لحركة فتح.

 

الأول

يغطي الجزء الأول من هذا الكتاب (775 صفحة) المرحلة الممتدة بين إعلان انطلاقة الكفاح المسلح في سنة 1965 والخروج من بيروت في سنة 1982. ويروي اللواء محمود الناطور استناداً إلى الوثائق والمعلومات المتاحة والمراجع المنشورة، علاوة على المعلومات الخاصة والوثائق السرية غير المنشورة، قصة تأسيس حركة فتح، وإنشاء قواعدها الأولى في سورية، ثم عملياتها الأولى، وحكايات الشهداء الأوائل والأسرى الأوائل، ويسهب في الكلام على أمن الحركة وإنشاء "الرصد المركزي" وحوادث أيلول 1970 في الاردن، لينتقل إلى المرحلة اللبنانية وعمليات أيلول الأسود وملاحقة الجواسيس والاغتيالات والعمليات السرية الفلسطينية المضادة، فضلاً عن "الأمن الموحد" و "الأمن المركزي" و "قوات الـ 17" والاجتياح الاسرائيلي في سنة 1982 وخروج القوات الفلسطينية إلى المنافي الجديدة. وفي غمرة سرد هذه الوقائع كلها يروي من جعبته التي تحمل كثيراً من الأسرار والمعلومات حكايات عن ياسر عرفات وأبو حسن سلامة وأبو جهاد وأبو إياد وسعد صايل وراسم الغول وغيرهم من المقاتلين والمناضلين.

 

مسيرة الأمل

أما الجزء الثاني (576 صفحة) فيتناول المرحلة الممتدة ما بين سنة 1983 وسنة 2004 التي استشهد فيها ياسر عرفات. وفي هذا الجزء يؤرخ أبو الطيب للانشقاق في حركة فتح الذي وقع في سنة 1983،وينثني إلى الحديث عن انشقاقات حركة فتح منذ حادثة النقيب يوسف عرابي في سنة 1966 إلى تمرد أبو يوسف الكايد سنة 1972 إلى انشقاق صبري البنا (أبو نضال) في سنة 1974 والاغتيالات التي نفذها بحق مناضلين من الحركة. وفي هذا الجزء عرض تفصيلي للرحلة الخطيرة التي قام بها أبو عمار من تونس إلى قبرص فإلى طرابلس، فضلاً عن سرده للصراعات المالية بين المنشقين والعقارات التي اشتراها أبو خالد العملة من حصيلة بيع ممتلكات فتح في لبنان وسورية، وفي الكتاب عرض لحرب المخيمات ولبعض العمليات الخاصة التي نُفذت في هذه المرحلة مثل عملية اليخت الاسرائيلي في ميناء لارنكا في 25/9/1985. ويروي أيضاً تفصيلات اغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) ودور كاتب الدولة التونسية لشؤون الأمن (الشاذلي الحامي) في تزويد الموساد بالمعلومات عن أبو جهاد، وتسهيل تنفيذ عملية الاغتيال، وكذلك يسرد قصة اغتيال أبو إياد وأبو الهول وفخري العمري وعاطف بسيسو، ولا ينسى حكاية زواج أبو عمار وسقوط طائرته في الصحراء الليبية حتى اغتيالِه في سنة 2004.

* * *

هذا الكتاب مرجع شامل عن فتح ورجالها المؤسسين ومناضليها الأحياء وشهدائها الراحلين، وهو تاريخ مفعم بالمعلومات عن مسيرة الشعب الفلسطيني نحو الحرية طوال خمسين سنة بما فيها من صعود وهبوط، وانتصارات وخيبات، دموع وآمال، سقوط ونهوض، انجازات وعثرات. ولا يخلو الكتاب من الذكريات المرة والطريفة عن مناضلين كانوا بيننا ورحلوا نحو مصائرهم.