خاص-مجلة القدس

تقوم وظيفة الأدب على نقل مجريات الواقع،وصياغة الأحداث، وإحالتها الى مادة مقروءة على الورق، بأسلوب أدبي، يعبّر عن حقيقةالمشاعر الانسانية والعاطفية والوجدانية بتعابير مغلّفة بالمجاز، وبلغة فصيحة، تحرّكواقع الأحداث خدمة لقضايا وطنية وانسانية واجتماعية ومبادئ أخرى، وتتبلور في الشعروالنثر. وللأقلام الفلسطينية في الأدب دور ريادي في كتابة الشعر والقصة والرواية والمسرحيةوالنصوص الأخرى. وبمناسبة مرور ثلاثة عقود على مجزرة صبرا وشاتيلا، وأكثر من ذلك علىغيرها من المجازر، والمقصود بهذه المجازر هنا تلك التي ارتكبت بحق الشعب الفلسطينياثناء الحرب اللبنانية التي اندلعت في العام 1975، لوجدنا أن بعض هذه الأقلام الفلسطينيةتأثرت الى حد كبير بهذه المجازر، بحيث كان لها أثرها المباشر في أساليب الكتابة والتعبيروظهر ذلك بقوة وحرقة وبتقنيات تعبيرية عالية، وأحاسيس مريرة في الكتابة عنها والتيمازالت تداعياتها ماثلة امامنا الى يومنا هذا، بحيث حصدت الآلاف من أبناء شعبنا الفلسطينيابتداء من مجزرة عين الرمانة التي وقعت في 13 نيسان 1975، وأدت الى سقوط 26 شهيداًفلسطينياً عند كوع المراية بعين الرمانة اثناء مرور حافلة تقل فلسطينيين الى تل الزعتر،حيث فتح ملثمون النار عليهم دون سابق انذار، فسقط الشهداء والجرحى، وسميت منذ ذلك الوقت"بمجزرة بوسطة عين الرمانة". وما لبثت خيوط الجريمة أن بدأت تحاك ضد مخيمتل الزعتر، الذي يقع في منطقة مناوئة للوجود الفلسطيني، فوقع ككبش محرقة للمليشياتهناك، ودفع عدداً كبيراً من الشهداء حيث تم محاصرته لمدة 52 يوماً، وثم مهاجمته وسقوطهفي 12 آب من الفترة نفسها، وارتكبت بحق أبنائه أبشع عمليات القتل والتصفية، وراح ضحيةهذه المجزرة أكثر من 2000 شهيد، وغيرهم من الجرحى، وسقط هذا العدد اثناء اتفاق الخروجمن المخيم! ونزح من نزح، وفُقِد من فُقِد، ودُمّر المخيم، ولم يبق له أثر، ولم يتوقفالوضع على هاتين المجزرتين المذكورتين، بل حصلت المجزرة الكبرى في مخيمي صبرا وشاتيلافي يوم أسود من ايام شهر ايلول –  في السابععشر منه -  عام 1982، بعد مغادرة الفدائيينالفلسطينيين للبنان، إثر الاجتياح الاسرائيلي حيث قامت قوى الغدر والعمالة وبالتعاونمع الاسرائيليين بتطويق المخيمين، وارتكاب أبشع جريمة عرفتها البشرية في هذا العصر،وسقط من جرّاء ذلك بحسب الاحصاءات المتوفرة 3500 شهيد، ومئات بين مصاب ومفقود ومخطوفأثناء المجزرة، ولا احد يعرف عن هؤلاء شيئاً حتى الآن.

لغة العقاب

                وفي حقيقة الأمر فإن هذه المجازر المرّوعة تركت آثاراً نفسية واجتماعيةواخلاقية وسياسية ووطنية وأدبية، وحركت مشاعر ومهج وأقلام بعض الكتاب الفلسطينيين،فكتبوا عن تفصيلات هذه المجازر، وأوجاعها، في نصوص، ومقالات سياسية، وبيانات استنكار،وشجب واحتجاج، وتعليقات على ما جرى، وأظهرت هذه النصوص بشاعة ما ارتكب من مجازر بحقالفلسطينيين وتحدثت عن هذه الجرائم، وما حصل من قتل وذبح، كذلك تحدثت أدبيات التنظيماتالفلسطينية في بياناتها عن تلك المجازر  فشجبتهاواستنكرتها أشد استنكار بلغة معبرة عن رفضها لما حصل.

ومع ذلك فإن ما جرى لازال موجوداً في الوجدان،مخبوءاً في الصدور، متحركاً على الارض التي سُفحت عليها هذه الدماء الطاهرة. ففي وجدانكل فلسطيني، شاهَدَ ما شاهَدَ، وكان ضحية لهذه المجازر قصص وحكايا لا زالت تعتصر روحه،وتؤلمه، ولا يمكن ان ينساها، وستبقى تتناقلها الاجيال كأضخم ملحمة انسانية بشرية ترويقصة هذا الشعب المعذَّب المجاهد، ولن يستكين الا بتحرير أرضه والعودة اليها مهما طالالزمن. لقد تناول الكتّاب هذه المجازر من الناحية السياسية والاخلاقية والانسانية فيكتاباتهم، في نصوص ومقالات، فقامت  د. بياننويهض الحوت بعمل كبير ومهم في التوثيق والتأريخ لمجزرة صبرا وشاتيلا في كتاب اسمته.."صبراوشاتيلا: أيلول 1982"، وكتبت في جريدة السفير مقالة في 13/9/2007 عن هذه المجزرة  تقول فيها"مجزرة صبرا وشاتيلا ليست واحدة منأبشع مجازر القرن العشرين وحسب، وليست مجرد رقم على لائحة المجازر الاسرائيلية ضد الفلسطينيينوالعرب، سرها في انها مأساة لم يسدل الستار عليها بعد. وهو لن يُسدل مادام الاحياءمن ابنائها يعيشون كوابيسها يتنقلون ويسافرون ويعملون ويتزوجون وينجبون لكنهم-  بوعي منهم او بلا وعي -  يكتشفون ان مجزرة صبرا وشاتيلا هي التي تقود حياتهمبعد ان ظنوا ان بعض النجاح هنا او هناك، او ان الاقامة في بلد بعيد آلاف الأميال عنأرض المجزرة، قد تنسيهم عذاباتهم؛ هؤلاء هم الضحايا الأحياء." تعبّر د. بيان نويهض  عن حقيقة المجزرة بأسلوبها النقي المعبّر والواضح،فقد حركت هذه المجزرة مشاعرها بألم ومرارة وتركت ما تركته من أثر في وجدانها وكيانهاوفي كتاباتها. ومن الكتاب الفلسطينيين الذين تناولوا في كتاباتهم مجزرة صبرا وشاتيلاصقر ابو فخر، يقول بمناسبة مرور ثلاثين عاماً على المجزرة، "في هذا السنة نطويثلاثين سنة على مجزرة صبرا وشاتيلا، هذه المجزرة المروّعة التي ربما "تعدّ واحدة"من أبشع مجازر العصر في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى الآن ما زالت يدالعدالة مغلولة، وأيدي القتلة طليقة ولعل البعض يريد ان يطوي هذه الصفحة البشعة، بلحتى ان يسامح المجرمين، وان يغفر لهم ما فعلوه اقتداء بالفدائيّ الفلسطيني الأول السيدالمسيح لهذا فإن الكلام على هذه المجزرة اليوم، ليس إعادة فتح للجراح وهي كثيرة، بلهو اعادة تأكيد على ان العدالة مازالت طريدة. ليس الاقتصاص والثأر ما يريده الفلسطينياليوم بعد ثلاثين سنة على المذبحة. إنه يتطلع الى ان يعترف من تسبب بهذا الألم بعذاباتهوإنهاء العنصرية الموجهة اليه كإنسان فوق هذه الأرض" (السفير – ملحق فلسطين العدد29). مقالة صقر ابو فخر تكشف حقيقة القتلة وبشاعة ما ارتكبوه، وتشير في نفس الوقت الىالظلم السياسي والاجتماعي والعنصري الحاقد ضد الشعب الفلسطيني المقيم في لبنان، مستخدماًتعابير دقيقة لتوصيف المجزرة، وبآلية لغوية تدق باب الحقيقة.

وكتب محمود كعوش من كوبنهاغن الدانمرك في16 ايلول 2012 عن هذه المجزرة وعبّر عن استنكاره لها يقول: " استفاق فلسطينيومخيمي صبرا وشاتيلا غرب بيروت واللبنانيون في حزام الفقر المحيط بالمخيمين المذكورينعلى واحدة من أكبر وأكثر جرائم العصر وحشية ودموية في العصر الحديث.." لقد حركتهذه الجريمة مشاعر الفلسطيني في الشتات وفي كل بقاع الأرض. كذلك كتب تميم البرغوثيعلى توتير 17/9/2012 "ان ثأرنا من الاسرائيليين الذين ارتكبوا مجزرة صبرا وشاتيلالم يبرد بعد... وأننا لن نترك دم من ذهبوا ضحايا المجزرة وضحايا جرائم اسرائيل الاخرى.جيل كامل مر على مذبحة صبرا وشاتيلا، انتظرواحتى خرج الرجال الى البحر فقتلت اسرائيل واتباع بشير الجميل عائلاتهم. الثأر لم يبردوالحرب تنتظر". وكأن عوامل الجريمة تدفع باللغة عند البرغوثي الى التعبير عن عمقالأثر الذي تركته المجزرة في نفسه حتى تبدو لكأنها الشرر الذي يندفع في كل اتجاه للوقوففي وجه المجرمين.

الكتابة سلاح ذو حدين

هناك كتابات عديدة وبيانات استنكار صادرةعن الفلسطينيين تدين هذا العمل الجبان وجميع هذه الكتابات التقت عند ثلاث نقاط وهي:ان الجريمة المرتكبة كانت مرّوعة الى ابعد الحدود، النقطة الثانية ان المجرمين مازالواطلقاء، النقطة الثالثة ان كل الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين لم تقتص منها يد العدالةبعد. فالكتابات كشفت الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين من جهة، وقصور العدالة أمامهذه الجرائم من جهة أخرى. كتبت ميساء الخطيب عن : "مجزرة بوسطة عين الرمانة"تقول: "كان عمري حين ذاك 14 عاماً قبل ان يقفز فجأة ليبدو كأنه 40 عاماً."السفير/ ملحق فلسطين/ العدد 29، في دلالة واضحة على هول المأساة والمجزرة المرتكبة؛والصدمة النفسية المؤلمة التي قفزت بها من الطفولة الى مرحلة متقدمة من العمر.

تقول ايضاً -  في نفس المصدر -  عن مجزرة تل الزعتر "عجوز انزلقت لتقع في خندق،حاولت التسلق للخروج منه، فقال لها أحد القتلة "لوين" لوين ياحجّة؟ خليكيمحلك؟ وأطلق على رأسها رصاصات عدة". ميساء تكتب بأسلوب أدبي  قصصي روائي . تقول في مقالة أخرى عن مجزرة تل الزعتر:"نعم اعترف، أعشق المخيم، وأعشق كوني فلسطينية ولدت وعشت في مخيم، ربما لا يعجبعشقي للمخيم البعض ويستغربه او ربما يتفهمه آخرون. وأدرك ان "مخيماً عن مخيم يختلف"،كما كان يردد غسان كنفاني؟ "خيمة عن خيمة تخلتف". فما بالكم اذا كان هذاالمخيم هومخيم تل الزعتر بالتحديد؟" ينحو أسلوبها في الكتابة الى التعابير الادبيةاكثر مما ينحو الى المباشرة  في أسلوب المقالات.وكتب الباحث الفلسطيني سمير قاسم عن مجزرة تل الزعتر: "تل الزعتر محطة من محطاتكثيرة في تاريخ اللجوء الفلسطيني التي لم تحظ بالبحث والتوثيق الكافيين لحفظها، ولوحاولنا مقارنة مجزرة تل الزعتر بسواها من المجازر لوجدنا، اضافة الى الاهداف والمنفذين،سمة مشتركة اخرى بينها هي الافلات حتى من العقاب". السفير/ ملحق فلسطين /عدد29/  15/9/2012، ان هذه المجازر تحتاج الى عملضخم وجهد جبار لانجازها كوثائق تاريخية ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني. وتحضرني قصيدةمحمود درويش – احمد الزعتر –  المستقاة من وحيمجزرة تل الزعتركنص شعري متكامل يدخل في صميم الأدب الفلسطيني.

حيث يقول في بعض أجزاء هذه القصيدة:"ليدين من حجر وزعتر... /  مخيماً ينمو،وينجب زعتراً ومقاتلين / تل الزعتر الخيمة/ وانا البلاد وقد أتت/ وتقمّصتني../  أنا أحمد العربي – فليأت الحصار/ جسدي هو الأسوار– فليأت الحصار/ وأنا حدود النار – فليأت الحصار/ وأنا احاصركم / أحاصركم". لقددفعت مجزرة تل الزعتر بشاعرنا الكبير محمود درويش ان يخرج برؤية جمالية ولوحة فنيةغنائيّة تمجد الانسان الفلسطيني والمخيم في هذه القصيدة.

وصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعضالكتيبات كأعمال تأريخية توثيقية لهذه المجازر. وتبقى اللغة هي أداة التعبير الأدبيالمتوفرة لكتابة هذه التراجيديا الصادمة بالدم بدل الحبر، الى ان يستفيق الضمير البشريفي هذا العصر، ويعيد الحق الى نصابه، ويقتص من كل من تلطخت أيديهم بدم هؤلاء الابرياء.

محمـد سعيــد