وقّع مبدعون فلسطينيون في معرض فلسطين الدولي للكتاب رواية فاروق وادي "سوداد-هاوية الغزالة" نيابة عنه تخليدًا لذكراه، واستذكره في التاريخ نفسه والساعة نفسها مبدعون آخرون، فاكتمل تخليده فلسطينيًا من القطاعين العام والخاص، رغم ما أثير من تساؤل عن عدم توحيد الحدثين، وكتب الأستاذ محمود شقير مراجعة هامة للرواية، أضاءت جوانب من النص، فوجدت في نفسي رغبة في أن أضيء على جوانب أخرى.

رحل فاروق وادي في البرتغال، فاختار عنواناً لروايته كلمة برتغالية لا نظير لها بالعربية أو أي لغة أخرى، حاول شرح معناها للقارئ العربي، فلم أفهمه إلا مع آخر جملة في الرواية، بما فيها من دلالات ووجع وتوق وحنين مفرط وعودة إلى ذكريات قادت بطل الرواية ياسين إلى الجنون، ربما بسبب الندم أو الفشل أو الوِحدة، والإحساس بالغربة في مدينته رام الله، التي عاد إليها وقد تغيّر كل شيء فيها، البشر والحجر، فلجأ إلى مقبرة المدينة، المكان الأول الذي هرب إليه عندما ضاعت منه حبيبته المشتهاة رغم ما عانى عندما أشهر حبه لها، وتحديه للعادات والتقاليد ونفوذ والد ياسمين في المقاطعة.

هندس فاروق وادي روايته فبناها لبنة لبنة، مستندًا إلى ثقافة واسعة وإطلالة عارِفة على المشهد السياسي والاجتماعي، في بلدان عدة منها فلسطين والكويت ولبنان وسوريا وقبرص والبرتغال، تنقل بينها ياسين، النموذج الذي اختاره فاروق وادي، لشرح حالة ما عاناه الفلسطيني وهو يبحث عن ذاته في غربته، فياسين نموذج الانتهازي، نقيض أخيه الذي كافح ليبني حياة مستقرة في أميركا بالعمل الجاد والاستثمار فيما أتقنه، فكان الفشل للنموذج الانتهازي والنجاح للنموذج الإيجابي، وربما أراد وادي أن يقول إن الفلسطيني ليس دائمًا بطلاً ومناضلاً، بل هناك صور أخرى، لا بد من التوقف أمامها.

ياسين ذهب إلى الكويت فأمن له أخوه وظيفة في المجلة التي يعمل فيها مخرجًا، فانتزع بمهارته مكانة مرموقة بطرح أفكار لم تألفها الصحافة الكويتية ولا المجتمع الكويتي، ولا رئيسة التحرير التي أسعدها قلم ياسين وأفكاره الجريئة، لكنه سرعان ما يتخلى عن أفكاره وعن زميلته الكاتبة الفلسطينية التي شاركته هذه الأفكار، ومنحته جسدها؛ لأنه وجد برؤيته الانتهازية حضناً أكثر ثراء، مكنه من إصدار كتب ومجلات رائجة، وتوفير مال جعله يترك المكان إلى بيروت، ليصدر مجلة ويستغل الظرف فيستولي على مطبعة لأحد التنظيمات الفلسطينية التي لظروفها سجلتها باسمه، فتتلاحق الأحداث، بعد أن سرق المطبعة ونقلها إلى طرابلس باحثاً عن حماية من تاجر مخدرات وعصابته القوية ومرة أخرى من تنظيم إسلامي متطرف، وتفرض عليه الظروف أن يعيد المطبعة إلى التنظيم مقابل قسيمة راتب استخدمها في نهاية المطاف، بعد الفشل المتلاحق، للعودة إلى فلسطين بموجب اتفاقية أوسلو كشرطي، فتجلت المفارقة، بين ارتدائه لزي والده الشرطي للحصول على المتعة في أيام فشله الأولى قبل الرحيل إلى الخارج، وبين زي الشرطي في السلطة، وفي الحالتين، كان الزيف والكذب، والنتيجة، في الحالتين واحدة: اكتشاف انتهازيته فرحيله في المرة الأولى، وطرده من سلك الشرطة الفلسطينية في الثانية.

قبل العودة كان قد لجأ إلى أخيه ليعمل معه في شراء العقارات وتأجيرها في البرتغال، فيُسكن في إحداها امرأة وثقت به وأحبته فحملت منه، فتخلى عنها وفي بطنها "ياسمين" الاسم الذي ظل يهجس به لحبيبته الأولى التي كان مصيرها مرعبًا: الإعدام بالسيف من الأمير الذي تزوجها وتسرّى بها، فأعدمها لملله أو لشكه، وهي ملكة الجمال في مدينتها.

عاد ليبحث عن المال في بيروت، لم ينجح فاستثمر في ريف سوريا بشراء مزارع وإعادة بيعها، فنال المصير نفسه -الفشل- فكانت قسيمة الراتب لتنظيمه الذي سرقه، قشة النجاة، للعودة إلى رام الله، بعد أن حاول أخوه دفعه للاعتراف بابنته "ياسمين" التي نسج فاروق قصة اكتشافها لوالدها ببراعة فنية، رغم ما في الأحداث من تركيب ومصادفات، تخلط بين الواقع والخيال.

 

سوداد، رواية تجبر قارئها على التأمل والتفكير في مواقف فاروق وادي السياسية والفكرية التي بثّها في أرجاء روايته، قد يتفق معها أو يختلف، لكنه قطعًا يستمتع بقراءتها، ويستنتج أن الانتهازية والشطارة في حياة الفلسطينيين موجودة لكنها تؤدي إلى السقوط المدوي.

 

المصدر: الحياة الجديدة