*حوار شامل مع المفكّر الفلسطيني- النرويجي د.سليم نزّال حول الذكرى الثالثة والخمسين لحرب حزيران عام ١٩٦٧.

حوار: محمد على سرور

 

أصدر د.سليم نزّال مؤخّرًا كتابًا جديدًا بعنوان (على هامش الأيام)، وهو عبارة عن حوارات ومساجلات فكرية وثقافية في عددٍ من بلاد العالم. الحديث الآن عن حرب حزيران عام ١٩٦٧ التي وصفها د.نزّال بالنكبة الثانية في التاريخ العربي الحديث، والتي لم تزل مفاعيلها متواصلةً معتبرًا أنّها أشدُّ قسوةً من النكبة الأولى، لأنَّ النكبة الثانية حصلت في وقتٍ كانت فيه الدول العربية محكومةً بقادة من ذوي التوجه القومي، وقرارها كان مستقلّاً إلى حد كبير. أمّا في حرب ١٩٤٨ فقد كانت مصر والعراق والأردن تحت السيطرة الإنكليزية، وكانت سورية ولبنان قد استقلتَا بين عامَي ١٩٤٥ و١٩٤٦ ودخلتا الحرب عام ١٩٤٨، ولم يكن لديهما جيش بالمعنى الفعلي.

 

كيف تقرأ حرب حزيران عام ١٩٦٧ من منظور تاريخي؟

 حرب حزيران دخلت التاريخ كإحدى نكبات العرب الكبرى، ونتائجها لم تزل ماثلةً أمام أعيننا من خلال استمرار الاحتلال وضمّ القدس ومرتفعات الجولان وإغراق الضفة الغربية بالمستعمرات والقمع اليومي للفلسطينيين وغيرها من الممارسات. أتذكرُ تعبيرًا للفيلسوف الأمريكي جورج سنتايانا بأنَّ الذين لا يتعلَّمون من التاريخ محكومون بتكراره، وهو يعتقد أنَّ العرب لم يتعلّموا بما يكفي من تاريخ الهزائم. والدليل ما نراه اليوم من صورة مأساوية للمنطقة العربية حيثُ بدأ الإسرائيليون يسوّقون أنفسهم بعبارة أنّهم (فيل في غابة من الوحوش) يقتل العرب بعضهم البعض. كما أنَّ حرب أكتوبر، رغم أهميتها كان تأثيرها على صعيد تغيير الواقع محدودًا.

حرب حزيران/يونيو ١٩٦٧ كانت نقطةً فاصلةً في تاريخ العرب بين زمنين: زمن الرومانسية العربية وزمن الواقعية العربية، لذا من الضروري فهم واقع ما قبل الحرب كي نعرف لماذا أدّت إلى النتيجة الكارثية التي أدّت إليها. من وجهة نظر سنتايانا سادت ثقافة الرومانسية العربية مرحلة ما قبل ١٩٦٧. أي أنّه كان هناك خطاب قومي إنشائي على المستوى الفوقي أمّا الواقع فقد كان مختلفًا. وهذا الاختلاف تمّ التعبير عنه بالخلافات والصراعات العربية- العربية أو الحرب الباردة العربية حسب كتاب البروفيسور الأمريكي مالكوهلم كير، الذي ولد وعاش وتوفى في بيروت عام ١٩٤٨. وهذا الوضع أدّى للأسف إلى عدم قدرة العرب على بناء أُسُس حقيقية للتعاون العقلاني، بل كانت حتى الخلافات الشخصية بين الرؤساء تؤدّي أحيانًا إلى إغلاق الحدود وقطع العلاقات وإلحاق الأضرار بمصالح الناس. هناك قاعدة في العلاقات الدولية تقول إنَّ تشابك العلاقات الاقتصادية- بمعنى تبادل المنافع يؤدي عادةً إلى تقليص حدّة الخلافات لأنَّ تشابك المصالح يحول دون وقوع خلافات كبيرة وإن وقعت يسهل حلها. فإذا كانت التجارة البينية بين الدول العربية الآن لا تتعدى العشرة بالمائة فلك أن تتخيّل كيف كان واقع الحال في ستينيات القرن الماضي. كان هناك إفراط في الشعارات بدون أي بناء على الأرض، مثل بناء سكك حديد تربط بين البلاد العربية وتخفيف أو إلغاء الرسوم الجمركية على البضائع وحرية حركة التنقل للعمال والاستثمارات وغيرها. لقد أدى هذا في رأيه إلى نوع من الانفصام بين الحلم والواقع. كانت الأحلام كبيرة لكنَّ الواقع كان بائسًا وهشًّا وجاءت الحرب لتظهر هشاشته.

 

 هل تعتقد أنَّ العرب كانوا على معرفة كافية بالصهاينة؟

 أعتقدُ أنَّ العرب لم يكونوا على معرفة جيدة بالقدرات الإسرائيلية. أمّا الخطاب العربي الذي ساد في ستينيات القرن الماضي فقد استمرّ في إطار نفس النهج القديم في وصفهم بشذّاذ الآفاق الخ... من المصطلحات، بدون التعرُّف فعليًّا على الواقع كما هو بعيدًا عن الشعارات. على سبيل المثال -باستثناء مركز الأبحاث الذي أُسِّسَ في بيروت عام ١٩٦٤- لم تكن هناك مراكز دراسات عربية تُعنى بمعرفة الواقع الإسرائيلي من جوانبه كافةً. في تلك الأثناء كان المجتمع الإسرائيلي ما زال قيد التكوّن والتشكّل، أي بمعنى أنه كانت هناك جهود صهيونية كبيرة لأجل دمج المهاجرين القادمين من بلاد وثقافات متنوّعة في المجتمع الإسرائيلي. ولذا لا غرابة أن أول مدماك في المشروع الصهيوني في فلسطين كان في إحياء اللغة العبرية الميتة، حيثُ أُسِّسَت الجامعة العبرية في العشرينيات وكانت أول عمل ضمن التوجه الصهيوني لاحتلال فلسطين. كما بُذِلَت جهود إسرائيلية كبيرة في حقل الدراسات الانثروبولوجية والاجتماعية لمعرفة المجتمعات العربية والاشتغال على تعميق التناقضات فيها لأجل تمزيقها من الداخل. 

الفارق بين الحروب الماضية والحديثة أنَّ التركيز فيها كان ينحصر في معرفة جيش العدو وقوته وأسلحته إلخ، لكن في الحروب الحديثة لم يعد الأمر يقتصر على هذا الجانب، بل امتدّ ليشمل استعمال الترسانة العلمية من أنثروبولوجيا وسيسيولوجيا...، من أجل معرفة تناقضات المجتمع الآخر والاشتغال على إضعافه في الداخل، مثل ضرب الوحدة الوطنية والعمل على تفكيكه المجتمع عبر استغلال أنواع التناقضات الاجتماعية والسياسية كافّةً. 

 

ماذا عن المشاريع الصهيونية حيال المنطقة منذُ خمسينيات القرن الماضي وإلى وقتنا الحاضر؟ 

 كان هناك مشروعان إسرائيليان تجاه المنطقة. الأول تحدث عنه بن غوريون وأسماه (تطويق التطويق)، أي أنه إذا كان العرب يطوّقون (إسرائيل) فـ(إسرائيل) تقوم أيضًا بتطويقهم من خلال دعم دول مثل تركيا وإيران وأثيوبيا. نرى الآن استمرار هذه التوجه في دعم (إسرائيل) أثيوبيا في سد النهضة لأجل الضغط على مصر، كذلك دعم المجموعات الإسلاموية المتطرفة لأجل إضعاف بلادنا وإدخالها في حروب أهلية لا تتوقف، ولسان حال (إسرائيل) في هذه الحالة كما عبروا عنه أكثر من مرة أنَّ العرب يقتلون بعضهم وما شأننا!

 المشروع الآخر ولعلّه الأخطر، هو العمل على تمزيق مصر والعراق وسورية ولبنان وتكوين دول طائفية دينية تكون (إسرائيل) فيها الأقوى في المنطقة. وأكثر مَن حذّر من هذا المشروع السياسي كان اللبناني المرحوم ريمون إده في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ولكن للأسف لم يكن لتحذيراته صدى كبير.

وأقصد هنا مشروع ما يُعرَف بحلف الأقليات المعادية للعرب- بمعنى استغلال الصراعات والتناقضات والأخطاء التي حصلت في البلاد العربية تجاه هذه الفئة أو تلك بهدف كسب الفئات العرقية مثل الأكراد على سبيل المثال. كما حصل تقدم كبير في أماكن أخرى، حيثُ كان للصهاينة دور في تقسيم السودان من خلال استغلال حالة التهميش التي عاشها أبناء الجنوب وتقصير حكومات الخرطوم المتعاقبة تجاههم، خاصةً حكم البشير الإسلاموي. وهناك الآن جهود تجاه الأمازيغ في المغرب والجزائر، والهدف الواضح هو ضرب الوحدة الوطنية في تلك البلدان من خلال إشعال الفتن بين العرب والأمازيغ، ولحسن الحظ فإنَّ الأغلبية الساحقة هناك يقظة لمشروع الفتنة هذا. وأغتنم الفرصة عبر منبركم في هذه المقابلة لكي أحذر العالم العربي من تهميش أي مجموعة دينية او عرقية لأنَّ ذلك يعني فتح ثغرة للصهاينة الذين يرصدون أوضاع بلادنا جيّدًا لأجل التدخل وتمزيق وحدة بلادنا. 

 

كيف كان وضع العرب عشية حرب حزيران؟

 أعتقدُ أنَّ العقل السياسي الرسمي كان أقرب للمراهقة السياسية منها إلى معرفة الواقع ومعرفة الظروف الدولية. كما أعتقدُ أنَّ قرار عبد الناصر بإغلاق مضائق تيران كان قرارًا متسرّعًا، لأنَّ (إسرائيل) لن تقبله وسترد عليه. لذا كان عليه أن يفكر مليًّا قبل اتّخاذ هذا القرار، وإن اتخذه كان عليه أن يستعد جيّدًا، خاصةً أنه كان يعرف من تجربته حين أمّم قناة السويس- وهي قناة مصرية مائة بالمائة، أنَّ قوى الحلف الثلاثي بريطانيا وفرنسا و(إسرائيل) ستهاجمه. المشكلة إنّ القرارات السياسية التي بهذه الخطورة والتي تتخذ بصورة فردية بدون الاستماع لرأي الخبراء تؤدي غالبًا إلى الكوارث كما رأينا. كما أنَّ القول بأنَّ هناك حشودًا إسرائيلية على سورية، والذي استُخدِم كسبب لنشر القوات المصرية في شبه جزيرة سيناء بدون غطاء جوي، كان أيضًا عملاً يفتقد إلى رؤية استراتيجية. ولم يكن هناك أي تنسيق فعلي مع سوريا لمعرفة مستوى الحشود الإسرائيلية وأهدافها مع أنَّ ذلك كان ممكنًا. لذا جاء التحرك العسكري أشبه باستعراض عسكري كما وصفه الفريق سعد الدين الشاذلي الذي نجح في سحب قواته بدون خسائر كبيرة من عمق سيناء أثناء حرب حزيران ولعب لاحقًا دورًا محوريًّا في حرب أكتوبر ١٩٧٣. وقد حصلت أحداث عدة قبل الحرب ساهمت في الهزيمة مثلاً: فشل الوحدة المصرية السورية، ووجود الجيش المصري في اليمن، الأمر الذي استنزف قواه، وما كان من الممكن لمصر مثلاً أن تخوض حربًا على جبهتين. كما يضيف الفريق الشاذلي قائلاً إنّه لو تم تسليح الأهالي في الضفة الغربية لدعم الجيش الأردني لكان مستوى المقاومة أفضل بكثير. وعلى سبيل المثال خسر العرب نحو ٢٥٠٠٠ جندي مقابل نحو ٧٠٠ جندي إسرائيلي وهو فرق هائل. فيما نجحت (إسرائيل) في احتلال مساحة من الأرض العربية تفوق ثلاثة أضعاف ما احتلّته عام ١٩٤٨. كما أنَّ التيارات الدينية استفادت من مناخ الهزيمة وبدأت تطل برأسها وتنهض تدريجيًّا على حساب التيارات القومية والعلمانية. وأعتقد أنَّ انطلاق المقاومة الفلسطينية كحركة تحرر وطني أوجد التفافًا عربيًّا عامًا وأدى دورًا مهمًّا في تأخير ظهور هذه الحركات إلى حد كبير. مثلما ساعد على استعادة الشعب الفلسطيني شخصيته الوطنية وهذا تطور مهم جدًّا.

لكن على العموم، أوجدت هزيمة حزيران مناخًا واسعًا من النقد الذاتي الذي نتج عنه في رأيي ثلاثة تيارات. الأول تيار النقد الديني الذي عبّر عنه جلال صادق العظم في كتابه (نقد الفكر الديني) الذي يعتبر أنَّ ثقافة القدرية وغياب العقل العلمي هو سبب الهزيمة.

التيار الثاني، وعبّر عنه الكاتب اليساري ياسين الحافظ الذي دعا في كتبه مثل كتاب (الهزيمة والايديولوجيا المهزومة) إلى الديموقراطية وثقافة التنوير.

التيار الثالث وهو التيار الذي كان الأقوى وهو التيار الديني، الذي رأى أنَّ الهزائم العربية سببها الابتعاد عن الدين.