لا تدَّعي أنَّ بإمكانها تغيير العالم أو تحرير فلسطين بكتاباتها لكنها تؤكّد أنَّ الكتابة فنُّ تحرير الذات والعقل، وحالةُ وجودٍ يعبِّر عنها الكاتب. الصدق بالنسبة لها هو المقوم الأهم للكتابة الحقيقية الناجحة، وبرأيها لا سبيل لخلود أي نتاج أدبي ما لم يدفع قارئه للتساؤل. تخطُّ بيراعها صُوَر الوجع الفلسطيني، فتخرج روايات آسرة تؤرِّخ بتّشعبات قِصص شخصياتها مسيرة شعبنا الفلسطيني برؤية إنسانية. إنَّها الكاتبة الفلسطينية وداد طه، والتي كان لمجلّة "القدس" الحوار التالي معها.


هل لكِ أن تعرِّفي القُرّاء على وداد طه؟
كاتبة فلسطينية من بلدة ميعار قضاء عكا، مهجَّرة في لبنان، أُحضِّر دكتوراه في اللغة العربية من الجامعة اللبنانية، ولي ثلاث روايات منشورة.
متى كانت أول محاولة لك للكتابة؟ وما الذي دفعك لذلك؟
كانت أول محاولة لي للكتابة حين كنتُ في الثالثة عشرة من عمري تقريباً، وكانت محاولات قصصية بدائية خرجت مع أول شيء قرأته، فعندما تقرئين تنفعلين، وأذكر أن من بين أولى محاولاتي قصص قصيرة حملت عناوين كـ"وجع ضرس" و"سلة برتقال"، وهي وإن لم تكن ناضجة كقصة، ولكنَّ أفكارها كانت ناضجة.
بمَن تأثَّرتِ من الأدباء؟
أنا عاشقة لمحمود درويش، وأعُدُّه شخصاً أنانيًّا فهو لم يترك موضوعاً إلا وطرقه، ويمسّني فعلياً غسّان كنفاني، كما أحب جبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، وجبران خليل جبران، ونجيب محفوظ، وواسيني الأعرج، ولا أُخفي أنَّني تأثّرتُ بشدة بناجي العلي، وإن لم يكن أديباً، فهو برأيي سبق كل العصور، والكل تعلَّم من جنونه الإبداعي، هو برأيي شخصٌ للتاريخ.
ما الذي يحفزِّك على الكتابة؟
لا أعرف حقيقةً ما الذي يدفع الكاتب للكتابة، فقد يكتب قصة أشخاص مهمَّشين أو يلفته شخصٌ يمشي على الطريق ويكون له الوحي الأول، ولكن هناك موضوعات تسكن الكاتب وتملكه، كإحساسه بالناس ورغبته بالتعبير بطريقة إنسانية روحانية عن نفسه بالدرجة الأولى وعمَّن يشبهونه. ففي "وأخون نفسي"، كان فوق طاقتي أن استوعب معنى الخيانة مهما كانت دلالتها أو عمقها المعنوي أو على أي مستوى، فأنا لا أتقبَّل فعل الخيانة، ومن هنا كتبت الرواية، ولم أتمكَّن من الهروب من مشهد توالي الموت للشباب الفلسطينيين فكتبتُ "حرير مريم"، وعندما لم أتمكَّن من تقبُّل ضياع وهلامية وسرابية واقع ومستقبل الكثير من الشباب، وأنا من بينهم، وسط هذا المجتمع المتفكك ضمن النسيج اللبناني وحالة التشرذم لدى الشباب كتبتُ "ليمونةـان". وبالتالي هذا المزيج من إحساس الكاتب وواقعيته ويومياته وهواجسه هو بالنهاية حالةُ وجود يعبّر عنها من خلال الكتابة، وأعتقدُ أنَّ ذلك قد يكون هو السبب وراء الكتابة، ولكن ما أنا متأكدةٌ منه أنّه لا يسع الكاتب إلّا أن يكتب.
هل لديك طقوس معيّنة للكتابة؟
نعم أكتب في مكان واحد معيّن مهما طالت مدة الكتابة، وأقصده دائمًا، وإذا لم أكن فيه لا يُمكنُني إنهاء ما بدأته، ولكنّني في الوقت ذاته بطبيعتي لدي ثورة على الثورة، إذ إنَّني كتبتُ قصة قصيرة منذ أسبوعين وأنا عند إشارة المرور، فأحياناً تنفعلين فجأة فتخرج معك قصة تكتبينها بلحظة، وقد تنسينها  فتختمر فكرتها وصورها وأحداثها داخلك ثُم تعاودين كتابتها أو إحياءها من جديد، وهذا حصل معي في أكثر من قصة قصيرة كتبتها، وآمل إصدارها ضمن مجموعة إن شاء الله هذا العام.
كيف أبصرت روايتك الأولى النور؟ وما هي الصعوبات والتحديات التي واجهتكِ أو ما زالت تواجهك عموماً ولكونك كاتبة فلسطينية على وجه الخصوص؟
أبصرت روايتي الأولى "ليمونةـان" النّور عبر مشروع صِلات، وهو مشروع يحفِّز المبادرات الشبابية الثقافية الفلسطينية، وقد كانت روايتي جاهزة بمسودَّتها الأولى، فأعدنا النّظر فيها ودقَّقناها ونقَّحناها، وخلال نحو 7 أشهر كان العمل جاهزاً للنشر، وأصدرتها الدار الأهلية عبر عقد تمَّ بيني وبينهم وبين مؤسَّسة عبدالمحسن القطّان التي كانت قيّمة على المشروع، ولا أُخفي أنَّ سرعة خروج الرواية للنور كان بسبب رغبة القيِّمين بإتمام المشروع بنجاح.
بالنسبة للصعوبات، لا أرى أنَّها ترتبط بكون الكاتب فلسطينياً مثلاً، فبرأيي الكاتب في العالم العربي عموماً يعاني صعوبات أصلاً لأنَّ العرب لا يقرؤون، فإذا أحصينا عدد الندوات الأدبية في منطقة واحدة نجدها أعداداً ضخمة ولكن عدد الكتب المبيعة لا يبل عطش الكاتب أو المبدع بأن يُقرأ عمله، وهذا هو التحدي الأكبر، أن تمشي عكس التيار، بالإضافة إلى أنَّ القرّاء يسعون أحياناً وراء الأسماء، وقد يبقى كاتب في الظل بصرف النظر عن جمال كتابته ومهما كانت قد تمس القارئ. فالقراءة بمعناها الحقيقي هي هذا الشغف بأن أعرف وأتنوّر، وأبحث عمّا يثري مخزوني الثقافي والمعرفي والوجودي، ويضيف لروحي شيئاً ما.
أيضاً للأسف إصداراتي لا تُنشَر في فلسطين رغم أنني كاتبة فلسطينية، وألحظ لهفة وتشوق وعطش القراء عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمتابعة الإصدارات، إلّا أنَّ دار النشر لا يمكنها إيصال الكتاب الفلسطيني للقارئ الفلسطيني في فلسطين لأنّه صادر خارج فلسطين، ولعلَّ الطريقة الوحيدة لإيصال الكتب هي أن تشتري دار أخرى الكتاب بطريقة معيّنة. ولكن من فترة أسبوعين تقريباً، تمكَّن أحد القرّاء المتابعين لي في فلسطين بمبادرة فردية وبعد إصرار ومحاولات دامت 3 أشهر من الحصول على نسخة من رواية "وأخون نفسي"، وأرسل لي صورة وهو يحتفي بحصوله على الرواية، وقد كانت فرحتي عظيمة جداً بوصول الرواية لرام الله. ولكن في الوقت ذاته يَبرُزُ جانب جميل، وهو أنَّ القارئ يفضِّل النسخة الورقية من الرواية رغم أنَّ ثمن النسخة الإلكترونية أقل، وفي حال استحالة ذلك يضطَّر القارئ للاعتماد على النسخة الإلكترونية.
وبالطبع نتمنّى ككُتّاب أن يكون هناك احتضان ودعم لموهبتنا، فنحن لا نعيش في رخاء وننشر براحة، بل إنَّنا نصدر إنتاجنا الأدبي باقتطاع جزءٍ من دخلنا لنستمرَّ ونحقِّق أحلامنا، لذا نتمنّى أن نحظى بالدعم، وهذا حقُّنا، لأنَّنا نسير في المشروع الوجودي الفلسطيني ثقافياً في الوقت الذي يحاول الكثيرون تشويه الوجود الثقافي لصورة الفلسطيني وإلغاء وجود المثقّف الفلسطيني الشاب، والجميل في جيلي أنّنا شباب نسعى لأن نكون، ولأن تكون فلسطين من خلال كتاباتنا.
عندما تشرعين في كتابة إحدى رواياتك هل تكون مكتملة في ذهنك؟ أم أنك تسترسلين؟
لا أسترسلُ في الكتابة ولا تكون القصة مكتملة في ذهني، فالتصوُّر الكامل للأحداث لا يكون موجوداً، والمنعطفات والتفاصيل الدقيقة التي تعيشها الشخصية يعيشها الكاتب معها، ولكن الفكرة والهدف الأساسي للرواية والدور الـمُسنَد للشخصية لا تتغيَّر. ففي "حرير مريم" تهتُ عن الأمكنة أحياناً، كنتُ أعرف أنني أكتب في تل الزعتر، ولكن لم يعد يهمّني توثيق المكان بقدر ما همَّني أن أتحدّث عن وجع أم فلسطينية وعائلة فلسطينية تشبه كل العائلات التي تهجَّرت منذُ النكبة، والتي عاشت آلام تل الزعتر ولم ينتهِ وجعها حتى اللحظة، كان همّي التعبير عن هذا الألم حتى النهاية. صحيح أنَّنا لن نحرِّر بكتاباتنا فلسطين، ولكن كما يقول إبراهيم نصرالله على لسان إحدى الشخصيات في رواية "زمن الخيول البيضاء": "أنا لا أقاتل كي أنتصر، بل كي لا يضيع حقي"، ونحن نبرز ونؤكّد حقوقنا وقضيّتنا ووجودنا من خلال الكتابة، ونحرِّر ذواتنا وعقل الآخر الذي رُفِضَ وظُلِم أحياناً كثيرة.
هل هناك حدود لكتاباتك؟
أنا ثورة على نفسي، وإن كان لدي حدود في الكتابة أو سقف للغة أو الموضوع أو الصورة فكيف سأحرِّر مَن يقرأ؟! إذا فكّر الكاتب كثيراً لن يبدع، لأنَّ المبدع ليس نمطيًّا، والأعمال الأدبية إن لم تجعلكِ تتساءلين عن المحظور فإنّها لا تستأهل أن تُقرأ، وإن قُرئت فإنّها لا تستمر وإن استمرَّت لا تخلد ولا تُحدِث تغييراً.
ما النصيحة التي توجِّهينها لكاتب مبتدئ؟
أن يكون صادقاً مع نفسه، ويحترم عقل المتلقي، ويحاول قدر الإمكان أن يمس قضايا تشبه روحه لا أن يتطرَّق لموضوعات لمجرد كونها مطروحة على الساحة، لأنَّ الموضوع إن لم يمسّه فلن يظهر الصدق في صوره أو جمله.
هل من كلمة أخيرة؟
أشكر مجلّة "القدس" على اهتمامها بالكُتَّاب الشباب الفلسطينيين، وأتمنّى لكم النجاح والتألُّق الدائم.

 

حوار: ولاء رشيد
مجلة "القدس" العدد 335 اذار 2017