منذ تأسيس جامعة الدول العربية في سنة 1945، أقرت الدول العربية أن يكون لفلسطين مندوب يمثلها في الجامعة على الرغم من وقوعها تحت سلطة الانتداب البريطاني وعدم نيلها الاستقلال. وتعاقب على تمثيل فلسطين في جامعة الدول العربية كل من موسى العلمي وأحمد حلمي عبد الباقي وأحمد الشقيري الذي كان قبل ذلك رئيساً للوفد السعودي الى الأمم المتحدة. وكان الشقيري اختلف مع الأمير فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية آنذاك على الصراع الدائر في اليمن  بين حكم الإمامة (الامام حميد الدين) الذي تدعمه السعودية، والحكم الجمهوري (عبدالله السلال) الذي تدعمه مصر التي كان اسمها في ذلك الوقت الجمعورية العربية المتحدة. ولما رفض أحمد الشقيري تقديم شكوى باسم السعودية ضد الرئيس جمال عبد الناصر في الأمم المتحدة أقيل من منصبه. وفي آخر كلمة له في الأمم المتحدة سنة 1963 قال: "إن مشكلة فلسطين هي مشكلة استعمارية، ولا يمكن أن تُحلَّ إلا كما حُلَّت المشاكل الاستعمارية، وكما حُلَّت المشكلة الجزائرية. وقد أصبح من الضروري أن نشرع في حركة تحريرية تعتمد على جيش التحرير، وسنبني هذا الجيش، وستقوم حركة التحرير".
كان الشقيري يستبصر قيام حركات ثورية مسلحة في فلسطين، وبالتحديد حركة فتح التي تناهي الى سمعه وعلمه اخبارها ونشاط عناصرها، ثم التقاهم مباشرة في الجزائر قبيل عقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول. ففي 4/1/1964 اجتمع الشقيري في الجزائر الى خليل الوزير (أبو جهاد) ومحمد أبو ميزر (أبو حاتم) وآخرين واستمع الى آرائهم وأفكارهم في شأن التحرير وبناء مؤسسات لهذا الهدف، وعرف منهم أين وصلت حركة فتح في استعدادها لإطلاق عملية التحرير.


التأسيس
في أيلول 1963 اتصلت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بأحمد الشقيري، وأبلغت إليه رغبة أعضاء مجلس الجامعة في تسميته ممثلاً لفلسطين لدى الجامعة خلفاً لأحمد حلمي عبد الباقي الذي توفي في السنة نفسها. وفي 23/12/1963 دعا الرئيس جمال عبد الناصر الى عقد مؤتمر للقادة العرب في القاهرة في 13/1/1964 لمناقشة عزم اسرائيل على تحويل روافد نهر الأردن. وفي هذا المؤتمر اتخذ القادة العرب قراراً بإبراز الكيان الفلسطيني وتجسيده سياسياً رداً على التحدي الاسرائيلي.
وكلف المؤتمر أحمد الشقيري الاتصال بأبناء فلسطين لهذه الغاية، والعودة بمحصلة اتصالاته الى مؤتمر القمة العربية الثاني. ومع أن التوصية التي اتخذها المؤتمر (34 كلمة) لا تنص على كلمة "كيان" أو "منظمة"، إلا إن الأمور سارت في اتجاه مختلف. أما التوصية فهي التالية"يستمر السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية في اتصالاته بالدول الاعضاء والشعب الفلسطيني بغية الوصول الى اقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره".
تجاوز الشقيري المهمة الموكلة اليه، وتخطى الصلاحيات التي منحه إياها مؤتمر القمة، وراح يجول في أماكن تجمع الفلسطينيين في غزة والأردن والضفة الغربية وسورية ولبنان والعراق، ووضع في تلك الاثناء مشروع " الميثاق القومي" و" النظام الاساسي" لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقرر عقد مؤتمر فلسطيني عام، وألّف لجنة قوامها روحي الخطيب، أنور نسيبة، قدري طوقان، فلاح الماضي، سعيد علاء الدين، يوسف عبده، زليخة الشهابي، عبد الرحمن السكسك. وكانت مهمة هذه اللجنة تنسيق عملية اختيار أعضاء المؤتمر، وتولى الدكتور عزت طنوس إدارة المكتب التحضيري للمؤتمر. وفي الوقت نفسه تألفت في لبنان وسورية والاردن ومصر وغزة لجان لمناقشة مشروع الكيان الفلسطيني بما في ذلك "الميثاق القومي" الذي صاغه أحمد الشقيري بنفسه. وكانت لجنة لبنان مؤلفة من شفيق الحوت وعزت طنوس وزهير العلمي ونقولا الدر وسميرة عزام وراجي صهيون ووليد الخالدي وبرهان الدجاني وسعيد الحتحوت ومحمد خليل وحسن شبلاق. وفي 28/5/1964 افتتح الملك حسين أعمال المؤتمر الفلسطيني الأول في فندق"انتركونتيننتال" في القدس بحضور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر، وعبد الخالق حسونة الأمين العام لجامعة الدول العربية، ومنصور الأطرش من سورية، و عبدالعزيز بوتفليقة من الجزائر، وجوزف أبو خاطر من لبنان، والمنجي سليم من تونس، وبقية ممثلي الدول العربية وبلغ عدد أعضاء المؤتمر 419 عضواً يمثلون الشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته أبرزهم: ياسر عرفات، خليل الوزير، كمال عدوان، خالد الحسن، محمد يوسف النجار، صلاح الدباغ، شفيق الحوت، سميرة عزام، عزت طنوس، نقولا الدر، حيدر عبد الشافعي، فدوى طوقان، وديعة قدورة خرطبيل، عبد الكريم الكرمي، أنيس القاسم، راجي صهيون،عزت دروزة، رجا اليعسى، أحمد صدقي الدجاني، سلوى ناجيا، عبد المحسن القطان، عصام عاشور، فضلاً عن عضوي شرف هما الفنانان الشتكيليان اسماعيل شموط وتمام الأكحل. ولم يتمكن غسان كنفاني وأبو ماهر اليماني من حضور المؤتمر بعدما رفضت السلطات الأردنية منحهما تأشيرة دخول الى الاردن وانتخب المؤتمر فور بدء جلساته أحمد الشقيري رئيساً له وكلا من حكمت المصري وحيدر عبد الشافي ونقولا الدر نواباً للرئيس، وعبد الرحمن السكسك أميناً عاماً. وأصدر المؤتمر "الميثاق القومي الفلسطيني " والنظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أعلن الشقيري قيامها في ختام المؤتمر.
من مفارقات تلك الفترة ان المملكة العربية السعودية عارضت عقد المؤتمر ودعت الدول العربية الى مقاطعته باعتباره غير شرعي، ورأت في عقده خروجاً على مقررات القمة العربية الأولى وتجاوزاً للصلاحيات التي مُنحت للشقيري. والغريب أن الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا بعث ببرقية الى الملك حسين يطلب فيها إلغاء المؤتمر ويطالب بإنشاء الكيان الفلسطيني المقترح على قاعدة الانتخابات لجميع الفلسطينيين ، مع أن الهيئة العربية العليا نفسها لم ينتخبها الشعب الفلسطيني. أما الأغرب فهو أن حركة القوميين العرب أصدرت في 14/6/1964 بياناً انتقدت فيه أعمال المؤتمر وتوقعت له الفشل. لكنه، بالطبع، نجح نجاحاً منقطع النظير. ومن طرائف المؤتمر أيضاً ما حدث خلال مناقشة بعض جوانب قضية فلسطين؛ فقد اقترح الشيخ عبد الحميد السائح، الذي سيصبح بعد عشرين سنة رئيساً للمجلس الوطني، أن يتم النص في قرارات المؤتمر ان قضية فلسطين هي قضية اسلامية. وجرت التثنية على الاقتراح ونال الاكثرية في التصويت وصار قراراً غير أن الأستاذ شفيق الحوت أعاد المناقشة مجدداً وفي الجلسة نفسها، فاقترح ان تعتبر القضية الفلسطينية قضية عربية لا إسلامية. فجرت التثنية على الاقتراح وعرض التصويت فنال الاكثرية وصار قراراً ألغى القرار الأول.


الميثاق الجديد
مثلما طوى تراجع الكتلة الوطنية السورية وفشل ثورة 1936 – 1939 في الوصول الى اهدافها، ثم سقوط فلسطين بأيدي الصهيونية، ميثاق الحركة الوطنية الفلسطينية لعام 1919، طوت هزيمة حزيران1967 ثم صعود العمل الفدائي ونظرية حرب الشعب الميثاق القومي الفلسطيني. ودشن ذلك كله مرحلة سياسية وتاريخية جديدة تماماً كان من أبرز علاماتها إقالة أحمد الشقيري (قدم استقالته في 24/12/1967) وسيطرة المنظمات الفدائية على المجلس الوطني الفلسطيني.وهذا الأمر مهد الطريق، سريعاً، نحو تعديل الميثاق القومي في الدورة الرابعة للمجلس الوطني التي عقدت في القاهرة في 10/7/1968.وقد نال التعديل، أول ما نال، اسم الميثاق فصار"الميثاق الوطني الفلسطيني" بدلاً "الميثاق القومي الفلسطيني" "وجاء هذا التعديل بذريعة الدقة في المعنى والمضمون. فالميثاق خاص بالشعب الفلسطيني ومنطلقاته وأهدافه، لا بالأمة العربية كلها كي يُسمى "الميثاق القومي". كذلك تناول التعديل المادة الخاصة باليهود؛ ففي الميثاق القومي نصت المادة السادسة ان " اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يعتبرون فلسطينيين". وبطبيعة الحال لم توضح هذه المادة متى كانت بداية الغزو الصهيوني:هل هي سنة 1882 أي سنة الهجرة اليهودية من روسيا الى فلسطين، أم مع إعلان بلفور سنة 1917 أم بعد النكبة سنة 1948؟ ومهما يكن الأمر فقد صارت هذه المادة في الميثاق الجديد على النحو التالي: "اليهود الذين هم من أصل فلسطيني يعتبرون فلسطينيين اذا كانوا راغبين أن يلتزموا العيش بولاء وسلام في فلسطين". وحتى هذه المادة ظلت غامضة؛ فهي لا توضح ما المقصود بـِ " من أصل فلسطيني". والمعروف أن الاصطلاح درج، في ما بعد، على اعتبار كل عربي أقام في فلسطين سنتين فأكثر قبل سنة 1948 فلسطينياً. فهل ينطبق هذا الامر على اليهود فمن أقاموا في فلسطين سنتين فأكثر قبل سنة 1948؟
ليس المقصود هذا المعنى بالضبط. وربما كان في أذهان واضعي هذه المادة ان المقصود هم اليهود الذين كانوا يعيشون في فلسطين عيشاً عادياً قبل سنة 1917 حين شرّعت بريطانيا أبواب الهجرة أمام اليهود القادمين من أوروبا الشرقية والوسطى.


عودة الى البدايات
كان الانجاز الاكبر للشعب الفلسطيني في الحقبة التي أعقبت نكبة 1948 هو تأسيس حركة فتح في سنة 1959، ثم تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية في المجلس الوطني الفلسطيني الأول سنة 1964 ومنذ ذلك الوقت راح هذا المجلس بعقد دوراته سنوياً باعتباره الهيئة التمثيلية العليا للفلسطينيين، والسلطة العليا التي عليها وضع السياسات العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية وصوغ برامجها السياسية. ولعل أهم دوراته كانت الدورة الأولى التأسيسية التي جرى فيها اختيار أول لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير والمؤلفة من أحمد الشقيري رئيساً، وعبد المجيد شومان رئيساً للصندوق القومي، وعضوية كل م بهجت أبو غريبة وحامد أبو ستة ونقولا الدر وحيدر عبد الشافي وخالد الفاهوم وفاروق الحسيني وعبد الخالق يغمور وفلاح الماضي ووليد قمحاوي وقصي العبادلة وقاسم الريماوي وعبد الرحمن السكسك. أما الدورة الثانية (القاهرة، 21/5/1965) فقد أقرت تأسيس جيش تحرير وطني. وقد قدم الشقيري الى مؤتمر القمة العربية الثاني ( الاسكندرية، 5/9/1964) تقريراً عن انشاء الكيان الفلسطيني وانتزع قراراً بإنشاء جيش للتحرير مؤلف من كتائب مسلحة هي: قوات حطين في سورية بقيادة المقدم عثمان حداد، وقوات عين جالوت في مصر بقيادة الرائد منصور الشريف، وقوات القادسية في العراق بقيادة المقدم أيوب عمار، وعين اللواء وجيه المدني قائداً للجيش، والعميد صبحي الجابي رئيساً للأركان. ومن الدورات المهمة الدورة الرابعة ( القاهرة، 10/7/1968) التي عُقدت غداة حرب حزيران 1967 ومعركة الكرامة وفيها جرى تعديل الميثاق  القومي، وفُصلت رئاسة المجلس عن رئاسة منظمة التحرير  التي ظل الشقيري يجمع بينها خلال الدورات الثلاث السابقة، وصار المجلس هو الذي ينتخب اللجنة التنفيذية بدلاً من التعيين. وفي هذه الدورة استقال الشقيري وبدأ عهد فصائل الكفاح المسلح.
كان أحمد الشقيري الجسر الذي لا بد من عبوره من مرحلة الهيئة العربية العليا بقيادة الحاج أمين الحسيني الى مرحلة الكفاح المسلح بقيادة حركة فتح وياسر عرفات. وتلك المرحلة صار ما قبلها تاريخاً، وما بعدها تاريخاً آخر.