بقلم: رفعت شناعة

تميَّز خطاب رئيس دولة فلسطين أمام قادة العالم المجتمعين في هيئة الامم المتحدة هذه الدورة بأنه تاريخي، وقمةٌ في الوضوح، وفي الموضوعية، وفي الجرأة، وبأنه نقديٌّ دون مجاملات، وبالتالي هو وضع النقاط على الحروف بشكل دقيق وبدون مواربة، هو وجَّه انذاراتٍ ورسائل مُستعجلة تحتاج الى اجاباتٍ سريعة. الخطاب كان معركة سياسية محتدمة ومفصلية ضد سياسات التضليل الاسرائيلية. بوضوح الرئيس ابو مازن قال للاحتلال ها نحن عدنا لحماية مقدساتنا، وازالة الاحتلال من ارضنا، وتحقيق طموحات شعبنا.
الخطاب كان تاريخياً لأنه يشكل محطة مهمة وبارزة في تاريخ الصراع مع الاحتلال الاسرائيلي، ولانه ينطلق بمضمونه من مرحلة اتفاق أوسلو التي فشلت في تحقيق ما تم الاتفاق عليه العام 1994 بسبب السياسات الاسرائيلية العنصرية والاستيطانية والتهويدية والتدميرية، ويحملنا الرئيس الى مرحلة جديدة في الكفاح الوطني على اسس تتجاوز مفاعيل اوسلو واعمق من حيث البناء الوطني، وامتداداته، واتساع رقعته باتساع الوجود الفلسطيني، وعمق القضية الفلسطينية.
وفي اطار الوضوح والموضوعية كان الرئيس دقيقاً في اختيار عباراته وكلماته، لاعطاء الموضوع حقه في الدقة والتعبير والمضمون، لأن ما قاله سيلفت الانتباه، وسيضرب الحسابات الاسرائيلية وسياساتها العنصرية والاحلالية. الرئيس يؤكد:
أولاً: ان الجانب الفلسطيني لا يمكنه الاستمرار بالالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع اسرائيل مادامت مصرة على عدم الالتزام بها.
ثانياً: إما ان تكون السلطةُ الوطنية الفلسطينية ناقلةً للشعب الفلسطيني من الاحتلال الى الاستقلال، واما ان تتحمل اسرائيل سلطةُ الاحتلال مسؤولياتها كافة.
ثالثاً: إنَّ دولة فلسطين على خطوط الرابع من حزيران 1967 وبعاصمتها القدس الشرقية هي دولةٌ تحت الاحتلال، تماماً كما كان هذا الحال لدول عديدة خلال الحرب العالمية الثانية، علماً بأن 137 دولة اعترفت بدولتنا.
بعد التجربة السابقة والمريرة مع الجانب الاسرائيلي اصبحت الحاجة ملحَّة اليوم لاتخاذ خطوات جديدة وسيتم تنفيذها في اقرب وقت، هذا التحوُّل المُنتَظر تطبيقُه عمليا هو حق للقيادة الفلسطينية، والواضح ان قادة العالم اصبحوا مقتنعين، فإتفاق اوسلو عملياً الاحتلال افرغه من مضمونه، ولم يعد له مبرر الوجود، فاليوم سيتم التعامل بين الدولة الفلسطينية الواقعة تحت الاحتلال مع دول العالم الاخرى. ولاشك ان قرار الغاء السلطة الوطنية رسمياً تأخذه اللجنة التنفيذية لانها هي التي وافقت على وجود السلطة، وهي مرجعيتها، فاللجنة التنفيذية ستكون منشغلةً خلال المدة القادمة بدراسة كافة الترتيبات المطلوبة لمثل هذا الاجراء، لأن الغاء اتفاق اوسلو بالطريقة التي سيتم الاتفاق عليها في اللجنة التنفيذية يحتاج الى رفع التصورات الى المجلس المركزي، او الى المجلس الوطني، لان المجلس المركزي أقرَّ الغاء اهم ما في اوسلو وهو الاتفاق الاقتصادي، والتنسيق الامني، وطلب من اللجنة التنفيذية دراسة الموضوع. والمتوقع إمَّا ان ينهار اتفاق اوسلو لانه لم يعد يمتلك ركائز البقاء، وامَّا ان تأخذ المنظمة قرار حل السلطة بوضوح.
لاشك ان القيادة الفلسطينية تحت الاحتلال ستتحمل مسؤولياتها كاملةً كدولة تعتمد على هيئات ستواصل عملها وادارتها للشؤون الاساسية. وفي مثل هذه الحالة فإن م.ت.ف ستكون هي بمثابة الحكومة التي ستعالج مختلف الملفات، ورعاية شؤون الدولة، وتقديم مقومات الصمود في المواجهة تحت الاحتلال. وفي هذه الحالة سيكون المجلس الوطني هو برلمان هذه الدولة تحت الاحتلال إلى حين تُجرى انتخابات جديدة.
وهذا يعني مستقبلاً ان المفاوضات ستكون مع دولة فلسطين وليس مع السلطة الوطنيه التي تنتهي مع انتهاء التعامل مع اتفاق اوسلو، وفي مثل هذه الحالة فإن الدولة الفلسطينية تحت الاحتلال هي التي تختار شروط التفاوض بأن تكون تحت المظلة الدولية، والشرعية الدولية. فالصراع مستقبلاً بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الاسرائيلي سيكون بين دولتين عضوين في الامم المتحدة، وهناك تقع المسؤولية الكبيرة على عاتق الامم المتحدة بأن تدعم دولة فلسطين لنيل حريتها واستقلالها.
لقد تمثلت جرأة الرئيس ابو مازن وتماسكه عندما خاطب دول العالم التي لم تتجرأ على الاعتراف بدولة فلسطين:" من يعترف بحل الدولتين عليه ان يعترف بالدولتين وليس بدولة واحدة". وإلاَّ بالطبع فإن مثل هذه الدول وخاصة الولايات المتحدة والكثير من الدول الاوروبية يعني انها ليست وفية للشعب الفلسطيني.
كما خاطب سيادة الرئيس ابو مازن رئيسَ اكبر دولة في العالم الرئيس باراك اوباما: "اذا كنت تريد انهاء الارهاب عليك ان تنهي الاحتلال". انها رسالة لمن مارس الكذب والخداع واللعب بمصير ودماء الشعوب، والادعاء بأنه يحارب الارهاب، وهذا بعيد عن الواقع، وهو انما ينفِّذ ما يخدم المصالح الاسرائيلية وامنها، واستمرار احتلالها لأراضي شعبٍ اصيل يعيش على ارضه تحت الارهاب والعنصرية الاسرائيلية. لقد ثبت ان اوباما مارس الخديعة منذ خطاباته الاولى التي تغنى فيها بالاسلام والمسلمين لكنه اثبت انه يعمل في خدمة الحركة الصهيونية.
الرئيس الفلسطيني ذهب الى الامم المتحدة قادماً من فلسطين، من أرض الأنبياء وهو يدق ناقوس الخطر ، فهذه الارض المباركة تدنسها الجماعات الاسرائيلية المتطرفة في محاولة ممنهجة لتقسيم المسجد الاقصى زمانيا ومكانياً ، يرافقهم مسؤولون من حكومة نتنياهو، فهل العالم راض ٍ على مثل هذه الممارسات التي ستحِّولُ الصراعَ الى صراع ديني؟؟، وهل مثل هذا الصراع وبهذا الشكل يخدم مصالح المجتمع الدولي؟ وبالتالي لماذا العالم بأسره وخاصة الولايات المتحدة منشغلة بالحرب على داعش ، وقبل ان تحارب داعش – إذا كانت صادقة – عليها أن تحارب الإرهاب الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية .
لقد كان الرئيس ابو مازن واقعياً وموضوعياً حين قال ، إننا نطالب الامم المتحدة بتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني وفقاً للقانون الانساني الدولي . فلماذا الامم المتحدة تسارع الى تشكيل قوات امنية من الامم المتحدة لحماية شعوب العالم عندما تتعرض للمخاطر، بينما الشعب الفلسطيني هو الوحيد المرفوض حمايتُه، وهناك أصرار على إبقائه تحت كابوس الارهاب والقمع والقتل والعدوان اليومي الاسرائيلي، مما شجعه على ارتكاب جرائم ليس فقط القتل ، أنما الحرق والقتل معاً ، واستهداف الشبان والفتيات والاطفال وقتلهم خارج إطار القانون ، فهل هذا الموقف السلبي من شعبنا هو أكرامٌ لعيون الكيان الاسرائيلي المُدلل لدى الولايات المتحدة .
أنّ الاسئلة السبعة التي طرحها الرئيس أبو مازن على قادة العالم اولها " أما آن لهذا الظلم ان ينتهي " أما آن لهذه العذابات ان تتوقف ؟
هذه الأسئلة لخَّصت مأساةَ الشعب الفلسطيني، ورسمت لوحةً معبِّرةً عن واقع الشعب الذي يئن تحت الاحتلال، والعذابات والآلام التي ألمت بالجميع، كانت قمة البلاغة اللغوية، والفنية، والمضمون، وهذه اللوحة لن تغادر أذهان قادة العالم ، وستحفر عميقا في ذاكرتهم وضمائرهم.
بعد كل الذي سبق جاء قوله : "إننا مصممون على وحدة ارضنا وشعبنا ،ولن نسمح بحلول مؤقته، أو دويلات مجزأة، ونسعى لتشكيل حكومة وحدة وطنية، تعمل وفق برنامج م.ت.ف والذهاب الى انتخابات رئاسية وتشريعية ".
أنها خارطة طريق سياسة تتلاءم مع واقع الحال والاحتلال ، وانها رؤية مسؤولة ، وتضع الآخرين أمام مسؤولياتهم . فهو مصمم على ان همنا الاول هو الوحدة الوطنية ، ووحدة الأرض والشعب ، وانه غير مسموح بحلول مؤقتة كما يفكر الاحتلال بإقامة دولة مؤقتة في الضفة الغربية تخدم أهداف الجانب الاسرائيلي ، كما انه مرفوض وغير مسموح إقامة دويلة في قطاع غزة، والمخرج الوحيد هو انهاء الانقسام لأن الانقسام مشروعٌ اسرائيلي اميركي ، والرئيس يدعو الجميع الى تشكيل حكومة وحدة وطنية يشارك فيها الجميع ،طالما ان حكومة الوفاق الوطني لم يُسمح لها بأخذ دورها المتفق عليه، هذه الحكومة سيتم اختيارها من الفصائل الفلسطينية أي حكومة سياسية، لأن المرحلة القادمة ستشهد صراعاً سياسياً عنيفاً، ولا بد أن نمارس هذه الحكومة دورها في الاعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية . فهل ستوافق كافة الفصائل على هذه الخطة الكفيلة بتحمل الأعباء والمسؤوليات القادمة ؟ والتي سيواجهها شعبنا مستقبلاً؟ هل ستنتصر القوى الفلسطينية على نفسها وتضع مصلحةَ فلسطين فوق مصالحها، وتنطلق باتجاه أنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة الوطنية؟؟.
إنتصاراً لفلسطين وتضامناً مع الموقف الفلسطيني فقد إحتشد المئات من القيادات الدولية ورجال الإعلام وزعماء العالم إلى جانب الرئيس أبو مازن كي يشاركوا معه في رفع العلم الفلسطيني فوق مؤسساتَ الأمم المتحدة، وهذا انتصار لفلسطين وشعبها ، وصفعة قاسية للكيان الإسرائيلي .
الشعب الفلسطيني وقضيته اليوم أصبح في المستوى اللائق والمتقدم بفضل الشهداء والتضحيات وصمود الأسرى.