المظهر الأول كان حين وقف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" منتفخ الأوداج بخيلاء المنتصر، رافعا كتاب القرار الموقع من قبله والقاضي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، واعترافه بعاصمة فلسطين أنها عاصمة ل"إسرائيل" في 6/12/2017، وهو ما وصفه رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها أنه "حدث تاريخي."

هذا "الحدث التاريخي" بحق، رفضه قطعيًا الرئيس أبو مازن بل وحذَّر منه سابقًا، ورفضته كلّ القوى الفلسطينية، والعربية - وإن بخجل مريب من بعضها.

من المظهر الأول إلى الرابع

كان المظهر الثاني متمثلاً في عقد الولايات المتحدة الأمريكية ما أسمته المؤتمر العالمي حول "الأزمة الإنسانية في قطاع غزة"! والذي شارك فيه 19 دولة بينها "إسرائيل" ودول عربية في شهر مارس من العام الحالي، وهي الخدعة الأمريكية الفاقعة، والتي اكتشف فيها الأمريكان فجأة ودون سابق إنذار أنَّ هناك مشكلة في غزة! كأنَّ هذه الإدارة لا تعرف أنَّ المسبب الأوحد فيها، وفي الأزمة "السياسية والعسكرية والاقتصادية" بغزة والضفة معًا، وفي كلّ فلسطين عامة، هي متمثلة بالاحتلال الإسرائيلي المتخم بالدعم الأمريكي.

وفي إطار الفصل الوحشي لغزة عن الضفة انتقدت الإدارة الأمريكية حينها السلطة الوطنية الفلسطينية لعدم مشاركتها في المؤتمر! وقالت: "أمام السلطة فرصة للانضمام إلى الجهود الدولية الرامية إلى معالجة المشاكل الإنسانية في غزة، وفي حال انضمت سنرحب بها، لكن إن لم تفعل، فسنعمل من دونها"؟!.

سنعمل من دونها؟ ليأتي تصريح "غرينبلات" سريعًا حين قال أنَّه لا "يزال هناك إمكانية لضم حركة حماس في حال اتخاذها ما قال إنَّها الخطوات الضرورية".

سنعمل من دونها؟ في تهديد وراءه الانخداع الذي لم يحسب البعض حسابه ما تساوق معه بعض العرب، وبعض "حماس" وان متأخرًا، وعلى رأسهم خليل الحية كمثال حين قال في 30/8/2018 في لقاء صحفي نظمه منتدى الإعلاميين الفلسطينيين في غزة: هناك جهود دوليه من أجل فك الحصار عن قطاع غزة، ولكنَّ المتعنت لذلك هي السلطة وحركة فتح وعلى رأسهم محمود عباس؟!.

كان المظهر الثالث في شهر 7 الماضي حين وقف رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتانياهو"مزهوا بعنصريته واحتلاله ويمينيته ليعلق على تمرير مشروع قانون القومية اليهودي العنصري بكلمة جاء فيها: "هذه لحظة مميزة في تاريخ الصهيونية ودولة "إسرائيل". ذلك أننا بعد 122 سنة من قيام ثيودور هرتزل بإعلان رؤيته النظرية، حدَّدنا بالقانون مبدأ أساس وجودنا".

وأهمية هذه الخطوة السياسية بالنسبة إلى "إسرائيل" كما يكتب سليم نصار "أنها تأتي كجزء مكمل لقرار التقسيم ولو بعد سبعين سنة. والسبب أن هذا المشروع المريب يثبت «إسرائيل الكبرى» فوق الأراضي الفلسطينية، ويسهل لها طرد مليون ونصف المليون فلسطيني على اعتبار أن القانون الجديد يحلل الاستيلاء على الضفة الغربية أيضاً." وكل هذا ما كان ليتم بسلاسة التمرير لولا الغطاء الأمريكي الدافئ.

أمَّا المظهر الرابع فكان حين قررت الولايات المتحدة الأمريكية عبر خارجيتها "إيقاف أي تمويل لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)"، وذلك في1/9/2018 استتباعا لاستقطاعات قررها الرئيس الأمريكي ثم اعتبرها لاحقا كمبرر للضغط على الرئيس الفلسطيني الرافض للصفعة، وعلى ما يبدو وحيدا في الأمة يصرخ بلا طائل كما كان حال أبو عمار في بيروت الصمود الأسطوري عام 1982، والذي ردّ على الصفعة بمثلها حين رفض الانخراط بعملية فصل غزة عن الضفة واعتبارها شأنًا إنسانيًا بحتًا! فما كان من الرئيس الأمريكي إلَّا أن يبحث عن آليات جديدة لتجاوز الرفض والرافضين.

ترامب يقصف الفنن

لربما لم يصدم الكثيرون من تقلبات الرأي وصدامية المواقف وجدل القرارات التي يتخذها الرئيس الأمريكي الحالي الذي لم يقرأ كتابا من خمسين عاما، ولا صلة له إلّا بعالم المال والمشاهير!.

الرئيس الذي يعمل مساعدوه على كبح جماحه - كما يشير الكتاب الجديد ل"بوب وودوارد" عن «خوف، ترامب في البيت الأبيض» - يعلمون مقدار الخلل والخطل الذي يعتري قراراته فيحاولون التقليل من الخسائر عبر إخفاء بعض الأوراق عنه أو إزالتها عن طاولته! لأنَّ ما يتميز به من تسرع ونزق وعقلية مغلقة على الأرقام فقط تجعل أمثاله لا يستطيعون مطلقًا أن يحللوا المواقف أو ينظرون بعمق لمعاني وصيغ وآثار القرارات على المدى القصير والبعيد.

"رينس بريبوس"، أول كبير للموظفين في البيت الأبيض، كان رأيه في ترامب ورجاله كالتالي: «إذا وقعت حيّة وجرذ وصقر وأرنب وتمساح» في حديقة حيوان ليست لها أسوار، فستكون هناك مواجهة دموية!

بمعنى آخر إنَّ قليل الثقافة أو الجاهل أو الغبي كما يصفه زملاؤه أو العاملين معه، وليس نحن، من الصعب جدًا الوثوق به، وبقراراته إلى الدرجة التي جعلت الرئيس السابق أوباما يخرج عن صمته ويصرخ إن أوقفوه حين يطالب ب"التعقل" و وقف "إساءة استغلال السلطة"، حيث أنَّه يكفي نزقا.

النزق المتحكم بالرئيس الأمريكي جعله يعادي العالم من طريق تحكيم الأرقام وربطها بمنطق القوة العسكرية والإدارية والاقتصادية الأمريكية، ففتح المعارك مع الشرق والغرب مع أوربا ومع الصين بل ومع كندا ولك أن تقيس على دول أخرى كثيرة.

هذه الإدارة تمارس نزقاً مضاعفاً بما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وتتصرف بوصفها شركة استثمارية كبرى، فيما نحن ودولنا ومجتمعاتنا زبائنها الصغار المتطفلين على ثرواتها كما يقول الكاتب حازم الأمين: نحن في فلسطين والمنطقة الحضارية العربية والإسلامية نرزح تحت تأثير استعمار استيطاني إسرائيلي تم غرسه من خلال الاستعمار الغربي الأوربي بأوائل القرن العشرين، وتمت رعايته لاحقا عبر الخارق الأمريكي والآن يظهر الخارق (سوبرمان) الأمريكي بأجنحته طائرا فوق فلسطين من خلال سفيره الصهيوني في فلسطين (ديفيد فريدمان)، ومندوبه اليهودي-الصهيوني الآخر لعملية السلام (جاريد كوشنير) وهو كما يصفونه (البغيض المتعجرف كترامب)، زوج ابنة الرئيس (ايفانكا ترامب) ذات السطوة في البيت الأبيض ولدى بعض رعاع الأمة، واليهودي الصهيوني الآخر (جيسون غرينبلات) مستشار الرئيس للمفاوضات الدولية.

ونحن إذ نصبح تحت فكي كماشة في الإقليم، وفي الأمم المتحدة حيث تتصدى (نيكي هيلي) لكل ما يمس الغطرسة والاحتلال والاستعمار الصهيوني بأي أذى ولو معنوي، فإننا مطالبون بجهد أكبر في مواجهة الخارق (سوبرمان) الأمريكي أو ما كان قد أسماه الرئيس الراحل أبو عمار عام 1982 عقلية "الكاوبوي الأمريكي"، وهي عقلية فرض القوة التي ظهرت آنذاك بدعم احتلال الإسرائيلي لبيروت، وتظهر اليوم بقصف أفنان شجرة القضية الفلسطينية فنن إثر فنن (غصنًا يلحق غصن). محو اللاجئين، محو القضية.

في القرار الأمريكي بنقل السفارة الأمريكية للقدس والاعتراف بها عاصمة لدولة "إسرائيل" تمّ قصف عمر الفنن الأول، ثم ما كان من تحويل غزة لقضية إنسانية بلا أي مضمون سياسي.

وما تلاه من صمت عن استباحة الأرض الفلسطينية بتغول الاستعمار الاستيطاني من جهة، وبإصدار قانون القومية اليهودية العنصري الأبارتهايدي.

تلاها الإلغاء الأمريكي الفعلي لملف اللاجئين بوقف الدعم المالي كليا، وعلى رأي "ترامب" شخصيا في لقاء مع 190 شخصية من رجالات الجالية اليهودية في أمريكا متحدثا عن قطعه الأموال عن "الاونروا والفلسطينيين: "لماذا ندفع" لكم قبل أن نعقد الاتفاق. إذًا لم نعقد الاتفاق، لن ندفع لكم"؟.!

إقرأوا ماذا يقول الأمريكيون أنفسهم عن رئيسهم: (بريق في عينيه ولصوصية في روحه، وهو الرجل غريب الأطوار والصعب والسخيف وغير المؤهل، انه الفوضوي الذي لا يشعر بأي تأنيب ضمير ويضرب القواعد بعرض الحائط)(ص-) ومع هذه أوصاف وممارسات ذكرناها بحق فلسطين والقضية كيف لنا أن نثق بمثل هكذا سياسي (لا يقرأ ولا يتصفح) وهو (عدائي بالفطرة)؟!

في هكذا حالة لنقل بوضوح حسنًا فعل الرئيس أبو مازن عندما صفع لصوصية ترامب الموصوفة وسخافته وعجرفته بعد أن اكتشفه من الوهلة الأولى، لاسيما وهو - أي ترامب - من يقول عنه المؤلف "مايكل ولف" في كتابه المثير (نار وغضب:البيت الأبيض في عهد ترامب) الصادر في بيروت عن دار المطبوعات ص، إضافة لما سبق الإشارة إليه، أنَّه: (عاجز عن التخطيط والتنظيم والانتباه وتحويل تركيزه)! إلى الدرجة أنَّه (لا يستطيع أن يربط السبب بالنتيجة)! فكيف لمثل هذا الرجل أن يفهم معنى فلسطين والقدس للأمة؟!.