النكبة الكبرى التي نزلت في الشعب العربي الفلسطيني عام 1948 شوهتها الأنظمة العربية والإسلامية المتخاذلة. تداعياتُ النكبة وإفرازاتها ما زالت ماثلة حتى اللحظة. فاللاجئون الفلسطينيون في مخيمات اللجوء في دول الجوار العربي يتعرضون منذ عام النكبة لأقسى وأبشع أنواع الطرد والقهر والظلم والاضطهاد.

طرد اللاجئون الفلسطينيون من الأردن عام 1970، وحديثاً من العراق- العديد منهم ما زال يعيش على الحدود بين سوريا والعراق منذ اجتياحه عام 2003، وكان آذار عام 2011 وما تلاه اللاجئون الفلسطينيون في سوريا، طردوا مع ما يسمى الربيع العربي!!

جنوب لبنان والأردن وسوريا محطات للاجئين الفلسطينيين المهجرين قسراً على أيدي الصهاينة. وجهة أبناء منطقة الجليل الفلسطينية كانت جنوب لبنان تحدهم رغبة جامحة وتطلعاً للعودة إلى مدنهم وقراهم ومزارعهم. وتحقيقاً لوعي جماهيري فطري، وانتماء وطني أصيل وتصديقاً لانجاز عهدٍ موعودٍ قطعهُ حكام وأنظمة ذاك الزمان اختاروا المناطق المحاذية والمجاورة لفلسطين.

ثلاثة فتيان في عمر الورد، أشبال من فلسطين يتدفقون نشاطاً وحيويةً، يكظمون الغضب، يتفجرون ثورةً وعنفاً، قرفاً واشمئزازاً لما حلّ بالوطن وما يلاقيه الأهل داخل فلسطين المحتلة من قتل وتهجير وتدمير لبيوتهم ومزارعهم على أيدي الصهاينة، وما يتعرض له سكان مخيمات الشتات من قمع وظلم.. اضطهاد وخضوع.. منع وحصار تقييد لتطلعاتهم الوطنية وحرمان لممارسة حقوقهم الوطنية والاجتماعية والمعيشية.

نزلت عائلة الشبل الفلسطيني نمر، منطقة صور واستقر الأهل بماشيتهم وحلالهم من غنم وماعز، وأقامت عائلة الشبل الثاني محمود، في قرية الغازية جنوب مدينة صيدا قبل انتقالها إلى مخيم عين الحلوة، أكبر التجمعات الفلسطينية في لبنان. تابع أهل الشبل الثالث خالد، المسيرة إلى بعلبك في أقصى البقاع اللبناني شمالاً انسجاماً.. وتقييداً.. تنفيذاً لسياسة عربية دولة تقوم على إبعاد.. تشتيت.. وتوزيع إقامة اللاجئين الفلسطينيين بعيداً عن حدود فلسطين!

تلقى الأشبال الثلاثة تعليمهم الابتدائي، شأن كافة أبناء وطنهم في مدارس وكالة الغوث الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ثم التحقوا في مدارس خاصة في المرحلتين التكميلية والثانوية لأن الأونروا لم تؤمن المرحلة تلك.

حصل خالد على شهادة التوجيهية، ومحمود على شهادة البكالوريا اللبنانية وعملا في حقل التدريس مع الأونروا، التحق نمر في قسم دار المعلمين التابع للأونروا في الأردن ليعود ويعمل مدرساً مع الأونروا.

الدورات التربوية التي أقامتها دائرة التربية والتعليم منحت الفرسان الثلاثة الأشقاء في دورات تربوية وتأهيلية وترفيهية، كما ساهمت الرحلات المدرسية بين مدارس الأونروا في تعزيز الترابط الاجتماعي  والولاء الوطني والتعاون والتفاهم بين المدرسين والتلاميذ والأهل.

وكان لقاء آخر للفرسان في دراستهم الجامعية في بيروت وانخراطهم في الاتحاد العام لطلبة فلسطين مع بداية تأسيسه. نمتْ إثر ذلك صداقة وألفة ارتكزتْ على أسس وطنية والتزام تربوي نهضوي، وتلا ذلك انتسابهم إلى اتحاد المعلمين توثيقاً للعمل التربوي- النقابي.

ظروف سياسية بغيضه مقيتة وقاتلة طرأت عام 1975، تلاها اجتياح جنوب لبنان عام 1982، فشدة وقسوة الأحداث أجَّجتْ وطنية الفلسطينيين ووحّدت تطلعاتهم السياسية، ومتنتْ أواصر ترابطهم  وعلاقاتهم، وعملتْ على صهر تجمعاتهم، فأصبحوا أكثر إلفة وأشد تكاتفاً وأوضح رؤيةً، رغم ما قامت به أجهزة مخابرات الأنظمة، وهناك جانب ايجابي أخر- عززت: ويسرت وسهلتْ لقاءات شبه أسبوعية منتظمة بين الفرسان الثلاثة المنتمين لمؤسسات نقابية مهنية فلسطينية- اتحاد الطلاب الفلسطيني واتحاد المعلمين الفلسطينيين، كان ذلك حافزاً لانخراطهم في صفوف حركة وطنية فلسطينية ترفضُ وتشجبُ ولاءً حزبياً إقليمياً، دينياً طائفياً، عشائرياً جامداً. انخراط الشباب في صفوف تلك الحركة الوطنية إلى جانب العديد من الشباب العربي والفلسطيني نبذ الأحزاب القائمة. فكان في صفوف تلك الحركة الوطنية الفلسطينية التي اعتمدت الكفاح المسلح نهجاً وطريقاً لتحرير فلسطين العديد ممن هَجَروا أحزاباً قومية وحركاتٍ دينية، وتنظيماتٍ يسارية وعلمانية، معتمدين شعار العمل من أجل فلسطين بعيداً عن تدخلات وإملاءات عربية- إقليمية- عالمية...

الالتزام الوطني والانخراط في صفوف هذه الحركة الوطنية التحررية المجيدة، كان له فضل عظيم وإسهام بارز في وضوح وجهات نظر الأعضاء وبلورة مهام وطنية- تربوية، اجتماعية- سياسية، نقابية معيشية، حضارية- إنسانية، حددتْ أنشطة ومهمات ومسؤوليات الفرسان وعززت قدراتهم الإدارية والتنظيمية والاجتماعية، كما كانتْ رافداً لعلاقات وطنية- اجتماعية مع أهلهم وأخوتهم في دول الجوار.

ومع دخول الفرسان مرحلة التقاعد الوظيفي، انصرفوا كليةً للعمل الوطني. تطلبتْ المرحلة الجديدة درساً معمقاً تنقيباً وبحثاً، حواراً.. نقاشاً وتعليقاً، متنت علاقاتهم، كتابةً ونشراً، حضوراً في قاعات ومؤتمرات سياسية وطنية. وأخرى تربوية عمقت معركتهم العلمية وأغنتها، عززت خبراتهم العملية وثقفت علاقتهم، ومتنتْ اتصالاتهم مع اخوة ومناضلين، ساهمتْ جميعها في نضوج فكر تحليلي نقدي وتوضيح رؤيا، وتثبيتْ ولاء، وترسيخ نهج تحرير فلسطين، كما أدتْ إلى الوقوف مع المكافحين والمناضلين تأييداً لقضاياهم ونضالاتهم.

لذا، خطط الفرسانُ.. فوضعوا برامج تثقيف. أقاموا لقاءات مبرمجة.. قرأوا.. ناقشوا.. حلّلوا.. وتحاوروا.. تعاكسوا.. وتنافسوا.. ائتلفوا وتعاونوا.. توازنوا وتناغموا حول مبادئ وقيم، حقائق ومفاهيم، قواعد وأسس علمية ومعرفية، دينية وتربوية، سياسية وإنسانية.

غيّب المنون فارساً من وطني في 14/ آذار 2013. طوى القضاءُ عمر فلسطيني مناضل.. ثائر ذاق مرارة النكبة وتمتع بحلاوة العمل الوطني، حقق بعض رؤياه الوطنية، وأنجز مهمات تربوية وأنشطة اجتماعية، وأسس أسرةً ناجحةً متماسكةً.. مترابطة.. مثقفة وملتزمة بخط وطني واضح..

لوعةٌ نهشتْ أفئدة الأخوة والمعارف من تربويين وسياسيين، رجال فكر وأدب، زملاء عمل وتنظيم، حرقةٌ اللوعة ووجعها كانت عظيمة على أبي الوليد خالد، كونه في السعودية يؤدي مناسك العمرة، وأبي علي محمود يؤدي واجب رعاية وخدمة والدته التي دخلتْ مرحلةً دقيقة في حالتها الصحية والنفسية في أمريكا. لم يتمكن الصديقان من وداع حبيبهم الغالي.

قضاء الله وحكمته في بُعد الصديقين. لا رادَّ لقضاء الله. رحمك الله يا أبا أكرم وأدخلك فسيح جناته، استكمالاً لمسيرة تربوية وطنية والعمل التنظيمي الاجتماعي والإنساني من خلال فتح سقف لقاءاتهم الأسبوعية خدمةً وتحقيقاً لرغبة المرحوم أبي أكرم النمر، وتثبيتاً لنهج وطني التزاماً به ووفاء لشهداء فلسطين، وانسجاماً مع التزام إنساني حضاري أصيل.

رحم الله أبا أكرم.. الصبرُ والسلوان لعائلته الكريمة.

"إن لله وإن إليه راجعون".