تعتبر الثقافة بما تحمله من منظومة قيمية تعبيراً عن هوية الشعب وحضارته وتقدمه ومستواها الانساني، وكذلك نسيجة ومكوناته السياسة والاجتماعية والاقتصادية والعلوم والمعرفة، وحين تكون تقافته صناعة أبداعية تتطور وتواكب المجتمعات البشرية تنتج إبداعات خلاقة في مجالات الحياة وترفد الحضارات الأخرى وتلتقي معها لتشكل مشهداً عاماً أكثر إشراقاً وإنسانية.
وحين تلتقي الحضارات بثقافاتها وروافدها في مصب الإنسانية لكي تشكل المفاهيم المشتركة تكون ناظمة للعلاقات بين الشعوب وضبط إيقاعات ومعايير الحوار ووسيلة لا تعارض بينهما إنما تجليات الإبداع والتطور والتقدم وبناء الحياة الإنسانية.
شكل الشعب الفلسطيني حالة مميزة من حيث المظهر والجوهر، وكانت ثقافته التي انتجتها طبيعية مركباته، الأرض والإنسان، ومنذ فجر التاريخ شهدت فلسطين الغزاة حيث هزمها بارادته وصموده مدافعاً عن أرض وطنه، كان لثقافته التي كونت شخصيته وتفاصيل حياته اليومية الحجر الأساس والرئة التي يتنفس منها لا يبالى بالأثمان الباهظة التي يدفعها لكي يحافظ على هويته الوطنية وكيانه السياسي في سيرورة تاريخية، وقد استطاع عبر  منظومته الثقافية النضالية أن يسقط كل محاولات الشطب عن الجغرافيا السياسية ومؤكداً حضوره الأزلي يكتب روايته بالحقائق ويكرسّها بممارساته في مختلف المجالات ويجعل منها نمودجاً لكل شعوب العالم.
1- دور الثقافة الوطنية وصوغ الهوية الوطنية.

الثقافة هي المنتج الشعبي لأسلوب الحياة والتقاليد والعادات والقيم وعموم الفنون والحكايا الشعبية والأمثال والحكم والأهازيج والأزياء الشعبية، ومن هنا نستطيع القول أن الشعب الفلسطيني كان السهل الخصب لإنتاج ثقافته والدافع والمحرك بتوفير المناخ الصحي للجسد الفلسطيني الذي واجه كل الغزاة متجذراً بأرضه صامداً يقدم الغالي والنفيس وحيث يختزن موروثاً يرتبط بالأرض حتى الشهادة، لقد حافظت الثقافة الفلسطينية على الهوية الوطنية وحمايتها، وطبعت سماتها في الفرد والمجتمع، وأعطتها بُعدها الإنساني النضالي، وشكلت لها الدفيئة التي تحمي نبتتها من كل المناخات التي تعرضت لها وتكيفت مع كل الظروف وتبدلات الطقس، تحتل المكانة والموقع الذي يجب أن تكون فيه حاضرة في الزمان والمكان، في العقل والوجدان، وكان لها الدور الأبرز والأول في رفض النكبة وتداعياتها وأبعادها، ورفض الهزيمة العقلية والفكرية بما أن القضية الفلسطينية هي مركز الصراع والهوية الوطنية بوصلة النضال الوطني والقومي. كما أن تحرير فلسطين طريق الخلاص الوطني للتحرر والاستقلال.
لقد حافظت الهوية الوطنية على ما تحمله من ثقافة خاصة بأثبات وجودها وانتصرت على الإلغاء والضياع والذوبان، فهي تمتلك مقومات وجودها وبقائها بموروثها الثقافي النضالي، وصاغت لنفسها مكانة في شراكة محيطها العربي بمصل الصمود والقدرة على ابتكار أساليب المواجهة والنضال وإمكانية تحقيق النصر.

2- الثقافة والحركة السياسية الفلسطينية.
الثقافة بشكل عام تعيش في بيئتها ومجتمعاتها الإنسانية يؤثر بها وتتأثر به، وفي السياق التاريخي ومندرجاته تبرز الثقافة الفلسطينية بموروثها الشفوي من جهته والمقروء في بدايات القرن العشرين في لعب دورها السياسي وتأثيراته على الحركة الجماهيرية والتصدي للإنتداب البريطاني ومواجهته المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، كما لعبت دوراً وظيفياً على الصعيد السياسي في تأجيج المشاعر الوطنية ودفع الجماهير الشعبية بالتصدي للهجرة اليهودية إلى فلسطين وأذكاء روح المقاومة بكل أشكالها بالأغاني الوطنية والأهازيج الشعبية التي كانت تلهب الحركة الشعبية في مواجهاتها ضد الاحتلال البريطاني والمؤامرة على فلسطين وشعبها، لقد حددت الثقافة الفلسطينية مسار النضال الفلسطيني وخزان الذاكرة الجمعية لحماية القيم والمنطلقات والمبادئ التي نشأ عليها الانسان الفلسطيني، كما خاض المثقف الفلسطيني دوره النضالي وبالممارسة الثورية والتاريخ أكبر شاهد على ذلك أمثال ابراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، نوح ابراهيم، أميل حبيبي، توفيق زياد، محمود درويش، سميح القاسم، ومنهم القادة القائد الشهيد كمال ناصر، غسان كنفاني، أدوار  سعيد، وهناك الكثير الذي لا يتسع المجال لذكرهم، والفعل الثقافي الذي مارسه أولئك المثقفون كان نتاج بيادر شعبهم ومكانته التاريخية.

3- مواكبة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
واكبت الثقافة الفلسطينية الثورة الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقتها في 1/1/1965 بقيادة حركة فتح وما شكّل بعداً وترجمة للمكنون الحضاري والإنساني وتثبيت الهوية الوطنية وتشكّل مرحلة تاريخية جديدة كان للمثقفين دوراً ريادياً لتوجيه الحركة الجماهيرية وزيادة الوعي الشعبي، فقد أوجدت الثورة الفلسطينية التزام مثقفيها بدورهم النضالي حيث أنتشرت الصحف والمجلات والدوريات الاعلامية والإذاعة الفلسطينية ومركز الأبحاث الفلسطيني وحلقات البحث والدراسة نتج عن ذلك تحولاً في حياة الشعب الفلسطيني ونقلة نوعية متقدمة خاصة في الميدان السياسي وتطور القضية الفلسطينية من لاجئين إلى قضية سياسية بامتياز، قضية شعب ووطن. وبرز وبقوة قبول المجتمع الدولي قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس بموافقة معظم دول العالم.
لقد حددت الثورة الفلسطينية بقيادة حركة فتح ملامح توجهاتها من خلال منطلقاتها وأهدافها وشعاراتها بمنطوق الوعي السياسي المستند للموروث الثقافي للنضال الفلسطيني، ومنذ البلاغ الأول شهدت الساحة العربية النقاشات والسجالات الفكرية والسياسية حول مشروعية انطلاقتها وقد خرجت منتصرة في كل ذلك واقتناع الجميع بصوابية الفكرة وعقلانية المشروع الوطني الفلسطيني.
ما يجري اليوم على أرض فلسطين من هبة شعبية في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي إنما نتاج للموروث الثقافي الوطني الذي تحمله الأجيال الفلسطينية من جيل إلى جيل، يرفض الاحتلال ويناضل من أجل رحيله عن تراب وطنه، وبناء دولته الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
لقد حددت الثقافة الوطنية الفلسطينية وصاغت ماهية الصراع بين مشروعين وروايتين، مشروع سياسي له أبعاده الوطنية ويستجيب للحقوق المشروعة نحو الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وحقائق التاريخ والجغرافيا، ومشروع يحمل بذور فنائه في وهم الأساطير وتزييف التاريخ وأزمته في الهوية والتحوّل إلى شعب أو ثقافة لها جذور في المجتمع الإنساني.
الثقافة الوطنية هي مبدأ الفعل في إطار منظومة متكاملة في حياة الفلسطيني أكثر رسوخاً وثباتاً، وهي النص المعبّر عن الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وتطوره وحضارته تحمل سماتها من نصر إلى نصر حتى ينتصر الحق على الباطل وقيام الدولة الفلسطينية المتسقلة وعاصمتها القدس.


يوسف عودة