يبدو أن الوضع في سوريا، وبعد مرور حوالي خمس سنوات على بدء الأزمة والصراع العسكري الدائر، اصبح في هذه الايام مؤهلاً، لتلقي تطورات جديدة اقليمية ودولية، سوف يكون لها انعكاسات استراتيجية، لن تقف عند الحدود الجغرافية السورية، بل ستتعداها الى محيطها الاقليمي، وحتى الدولي.
وهذا الوضع الجديد سيكون بطبيعة الحال نتاجاً للسنوات الخمس الماضية، بعدما ثبت وبالملموس ان ما يجري وما جرى في سوريا حتى الآن لم يكن متشابهاً بما شهدته بعض الدول العربية، في سياق ما بات يعرف بـ "الربيع العربي".  
ويومها قلنا ان الوضع في سوريا يختلف عن أوضاع باقي الدول التي شهدت وصول هذا "الربيع". وهذا ما تبين انطلاقاً من الاختلافات الجوهرية التي ينفرد بها المجتمع السوري، اضافة الى تركيبة النظام ومؤسسات الدولة، وبطبيعة الحال الآليات المتبعة والمختلفة عن باقي الدول.
وانطلاقاً من هذه الحساسية الفريدة من نوعها والمختلفة والتي بات معروفاً للقاصي والداني ان ما حدث في تونس على سبيل المثال او في جمهورية مصر العربية وحتى في ليبيا كان في جوهره وتفاصيله عن ما جرى ويجري حتى الآن في سوريا..
فصمود النظام السوري حتى الآن ومنذ ما يقارب الخمس سنوات في مواجهة المعارضة المسلحة والمختلفة من حيث الافكار والانتماءات سواء أكانت الداخلية او الخارجية والتي فعلت افعالاً لو حدثت في اي بلد آخر لكان مصيره الانهيار منذ مدة طويلة. وهذا الصمود كان له دوافعه ومؤثراته الاقليمية والدولية، التي لعبت بدورها الدور الكبير في منع هذا السقوط.
الدور الروسي الحاسم
مع بداية الاحداث وحتى قبل ذلك كان النظام السوري قد استطاع نسج علاقات استراتيجية، وتحالفات، وهي التي مكنته من الوقوف على رجليه وان كان بصعوبة بالغة الا انها ملفتة للنظر وتستحق الدراسة والتحليل من الناحية الاستراتيجية وتأثيراته على الاوضاع الاقليمية والدولية.
فإذا كان صحيحاً شكلت روسيا الاتحادية مظلة وشبكة أمان سياسي كبير ومهم وكذلك التحالف مع ايران التي شكلت بدورها شريان الدعم الاقتصادي بعد تعطل عجلة الاقتصاد والانتاج السوري نتيجة للحرب وتداعياتها خصوصاً مع سيطرة المجموعات الارهابية وعلى رأسها تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام "داعش" على اجزاء مهمة من آبار البترول والغاز الطبيعي ونجاحها في اعادة تصديرها لحسابها عبر شبكة المافيات المتخصصة في مثل هذه الحالات "شبكات تهريب البترول" عبر بعض الدول سواء أكانت موافقة او غير موافقة.
ففي البداية شكل الموقف الروسي السياسي الى جانب النظام السوري وسلطته لدرجة انه استطاع تشكيل ما يمكن ان يقال عنه بـ "شبكة الأمان السياسي" في وجه  المخطط الغربي الذي تنفذه بعض الدول الاوروبية وعلى رأسها الولايات المتحدة تحت ذريعة مكافحة "الارهاب" وضرب قواعده التي انتشرت كانتشار النار في الهشيم، على اعتبار ان هذه العملية "الدولية" سيكون بمقدورها انهاء هذه الظاهرة ومعها ازالة النظام السوري "اثبتت الوقائع على الارض فشلها". واذا كان الموقف الروسي الداعم للنظام السوري قد شكل هذه المظلة الا انه كان نتيجة لرؤيا روسيا الاتحادية لمصالحها السياسية الاقتصادية والاستراتيجية وحتى العسكرية التي تحاول اعادة بنائها وبثها من جديد بعد أنهيار الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يمتلك اكثر من موقع وموطئ قدم على امتداد خارطة العالم العربي والتي كان آخرها العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ولم يبق له في الشرق الاوسط الا سوريا كحليف في المنطقة.
وفي هذه النقطة كان الدعم الروسي المتصاعد على اعتبار ان خسارة سوريا كقاعدة أخيرة في الشرق الاوسط، يعني خسارة مصالحها ومواقعها في العالم العربي وشمالي افريقيا. وبالتالي خسارتها لمصالحها الكثيرة والمتشعبة الاقليمية والدولية. وهذا ما دفعها للوقوف في وجه المحاولات الاميركية وعلى الرغم من ممارسة كثيرة الضغوط المختلفة عليها الهادفة الى اقناعها بالابتعاد عن سوريا والنظام على اعتبار ان المعركة كانت بالاصل وتحت ستار القضاء على الارهاب لن تقف امام حدود القضاء على داعش والنصرة وسواهمها، بل وطبقاً للاهداف الاميركية ازاحة النظام السوري والرئيس بشار الاسد تحديداً من الخارطة السياسية الشرق اوسطية تمهيداً لاعادة رسمها طبقاً للرؤيا الاميركية الجديدة والتي هي بالاصل تخدم المصالح والرؤيا الاسرائيلية.
التدخل العسكري الروسي قادم...
وانطلاقاً من فشل الرهان الاميركي المدعوم من بعض الدول الاوروبية على القضاء على ما اسمته "الارهاب" وهو الفشل الذي يقارب في رؤيته الاستراتيجية الى مرحلة الغرق في الاوحال اذا اقدمت على مغامرة تطوير حربها لدرجة المشاركة العسكرية على الارض وبالجيوش البرية وهذا ما يفزع الادارة الاميركية خوفاً من تورطها في فيتنام ثانية او حتى لا تتحول سوريا الى افغانستان اخرى بالنسبة لها.
ومع هذا الفشل على الاقل حتى الآن وطبقاً للدوافع الروسية الاستراتيجية المتمثلة بالتمسك بسوريا كموقع جغرافي وسياسي أقدم الرئيس الروسي بوتين وقيادته الى الاندفاع اكثر من الاحداث السورية وتطوير دعمه وتطويره وعدم اقتصاده على الدعم السياسي والتسليحي التقليدي المستمر منذ عقود طويلة. ليصل هذا الدعم الى درجة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة والعالم فبعد تسليم ايران منظمومة الصواريخ أس.أس 300 المتطورة وعلى الرغم من الاحتجاجات الكبيرة التي واجهتها استكملته بتسليم سوريا وجيشها منظمومة عسكرية متطورة طائرات من نوع مينع 31 المتطورة كثيراً والقادرة على تنفيذ العديد من المهمات القتالية، وكذلك انظمة صواريخ تمتلك بدورها أنظمة دقيقة وقدرة وفاعلية عالية التأثير وعدم الاكتفاء بها  بل تعداه الى ارسال طواقم روسية متخصصة لادارتها وتدريب الخبراء السوريين عليها. وهذا يعني توجيه اكثر من رسالة استراتيجية من الصعب على اي طرف تجاوزها، وخصوصاً اسرائيل لمنعها من ضرب هذه المنظومة المتطورة هذه الرسالة هي التي دعت روسيا لعقد سلسلة من اللقاءات العسكرية والسياسية مع القيادة الاسرائيلية وصولاً الى عقد قمة بوتين – نتنياهو كان الغرض منها افهام اسرائيل بضرورة عدم الاقدام على مثل هذه المغامرة كما حدث في اوقات سابقة "ازمة الصواريخ" على سبيل المثال.. وهذا يعني ان سوريا دخلت في مجال الخطوط الحمراء الروسية غير المسموح روسياً من اختراقها من قبل اي طرف.
وطبقاً لهذه الرؤيا والتطورات يبدو ان الامور قابلة للتطوير والتصاعد الى مراحل متقدمة تؤدي في النهاية الى الهدف الروسي المنشود ورؤيتها الخاصة للشرق الاوسط القادم على تطورات دراماتيكية هامة وكبيرة. وانطلاقاً من هذه الرؤيا يبدو ان روسيا مصرة على التمسك في الموقع السوري الاخير في الشرق الاوسط حتى لو أدى ذلك الى عدم الاكتفاء بالدعم العسكري والتقني وصولاً الى التدخل المباشر والذي بدأت طلائعه من خلال الطواقم الروسية المتواجدة حالياً. بحيث يصبح التدخل هنا أشبه بالتدخل في شبه جزيرة القرم على الحدود الاوكرانية التي تعتبرها روسيا عمقها الاستراتيجي الاوروبي والتي لا يمكن ان تتخلى عنها تحت اي ظرف من الظروف ومهما كلف الثمن وحتى دون الحصول على موافقة الامم المتحدة اومجلس الامن الدولي.
ولهذا السبب تسعى روسيا الى رسم حلف جديد يحمل نفس الاهداف التي فشل فيها الحلف الاميركي والاوروبي في محاربة الارهاب. وهذا الحلف الجديد يستند الى اربع دول بشكل رئيسي هي ايران – العراق – سوريا. وبطبيعة الحال بقيادة فعلية روسية مباشرة. وان كانت غرف عملياته متواجدة على اراضي تلك الدول على غرار غرفة العمليات العسكرية المقرر انشاؤها في الصالحة العراقية ببغداد وهذا التحالف الذي يبدو جدياً اكثر من اي وقت مضى وان التطورات السياسية والجيوسياسية والاقتصادية والمتغيرات الدولية المتصاعدة سيطال في حال استمراره المصالح الروسية الاقليمية والدولية. وهذا ما تعيه القيادة الروسية وخصوصاً الرئيس بوتين الذي يسعى ومنذ فترة طويلة على اعادة واستعادة مجد الاتحاد السوفياتي السابق على المسرح الدولي والاقليمي أولاً والحفاظ على المصالح الروسية الاستراتيجية ثانياً. وكذلك اعادة فرض نفسه لاعباً أساسياً، في المنطقة والعالم يصعب تجاهله من اي طرف او قوى أخرى بما فيها الولايات المتجدة الاميركية وحلفاؤها، بعدما استطاعت السياسة الروسية البوتينية صياغة تحالفات دولية جديدة يعتمد عليها ويمكن الاستناد اليها في اي معركة قادمة سواء أكانت سياسية أو اقتصادية وحتى عسكرية وهي تحالفات تمتلك من القدرات ما يؤهلها للعب دور مغاير على المسرح الدولي باعتبارها قوة اقتصادية كبيرة وذات حضور سياسي متصاعد وأخيراً وليس آخراً تمتلك من القدرات العسكرية والدفاعية ما يؤهلها الى حماية هذا التحالف الجديد وتطويره مستنداً الى تطورات دولية بالغة الأهمية وعلى مستوى الخارطة الكونية التي ستكون من المصلحة النهائية متوافقة مع الرؤيا الروسية الجديدة.