الكونشيرتو كلمة لاتينية وتُلفظ (كونسرتار) أي الكفاح، وهي قطعة موسيقية يبرز فيها دور آلة موسيقية، أو أكثر في النغم، من ضمن سياق القطعة اللحنية. في الإصغاء الى الموسيقى، يُحلّق الانسان بكتلة من المشاعر ويندمج في لحظة أثيريّة، ويبتعد الى السموات السبع!  واعتقد ان الشاعر ادونيس اختار هذا الاسم ليضيفه الى اسم القدس، ليكون العنوان بداية تحليق في فضاء واسع لا يحده مكان. فلا شيء مغلق، وكل الهواجس مفتوحة على ما تخفي من فضول ومعرفة، ولأن الأدب الحقيقي يرفض الحياد ابتداء بالكلمة، ووصولاً الى مضمون هذه الكلمة امام ما تتعرض له مدينة القدس من اقصاء عنصري، وتهشيم لمكانتها وموقعها اللاهوتي. وهذا يؤشر الى ان جميع النوافذ مفتوحة على مصراعيها كشكل وجوهر لقضية القدس في حالة الصراع مع العدو، وليكون الأدب بموضوعاته الفكرية والروحية والسياسية والاقتصادية، احد اهم المداميك التي تعرّي هذه السياسة العدوانية الإلغائية. وهذا مايريد ادونيس ان يسلط الضوء عليه في كونشيرتو القدس، فذهب الى القصيدة المطولة – القصيدة الملحمية نظراً لخطورة الموضوع ورمزيته وعمقه وغناه ببعديه: الصوري، والمعنوي، متناولاً مكانة القدس كمكان مخترِق للأزمنة والمواضيع من ناحية، وكسراً لكافة القيود التعبيرية من ناحية اخرى، وثم نظراً الى الجو الاسطوري المحيط بهذه المدينة المقدسة.

تجربة متمردة في واقع مفزع

ومهما كان رأي الباحث او الناقد في الشاعر ادونيس بالنسبة للقضايا الوطنية والسياسية وخصوصاً ما نتج وينتج عن " الربيع العربي"، الا اننا لا نستيطع الا ان نقف امام قامته الفكرية والشعرية، والتي كان لها فضل كبير في الحداثوية الشعرية والفكرية الطليعية بالنظر الى اسلوب كتاباته في التعاطي مع الموضوعات التراثية والدينية، او من حيث خلخلته للكتابة الشعرية التقليدية، وخصوصاً في مرحلة مجلة شعر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، والتي قاد فيها هذه الحركة مع نخبة مهمة من المبدعين في مجال الشعر الحداثوي أمثال، يوسف الخال، ومحمد الماغوط، وفؤاد رفقه، وأنسي الحاج، وسركون بولص، وشوقي ابي شقرا وغيرهم، بحيث شكلوا مدرسة لا تزال تردداتها صاعدة ومؤثرة في الاجيال الجديدة في مجالات الشعر الحر والشعر المنثور الى يومنا هذه. كما لا نستطيع الا ان نحترم مؤلفاته التي تربو على الثلاثة والستين مؤلفاً بين دواوين شعرية ودراسات، ونقد، وترجمات، ومختارات شعرية. وهو المتأثر بالتراث العربي والإسلامي وخصوصاً فكر ابن عربي، وتماهيه مع الفكر الغربي الحديث، لذلك فإن كونشيرتو القدس جاء ليدلل على أنه كلما زادت سنوات النكبة في حاضرنا كلما زاد الاستغراق في الغبن والاحداث والتقرّح، لأننا ما زلنا في طور الكفاح والدفاع عن قضية وطنية لإزالة الطغيان الجاثم على أرضنا وارساء الحق والعدالة في أرض لها قداستها الدينية والتاريخية خصوصاً في مدينة القدس التي هي  "مدينة الله" على الأرض، حتى تكون هناك حرية حقيقية لشعوب المنطقة، ولهذا لا بد  من الخروج من خصوصية التجربة والتعبير والقاموس الضيق للتصنيفات الفكرية والأدبية والسياسية، الى رحاب انضج، وجمالية احترافية تليق بتجربة مهمة لشاعر طليعي ومهم أسس بشكل كبير لحركة تعبيرية جديدة بعيدة عن المألوف الكلاسيكي، بما تعنيه هذه الكلمة من جمود وانغلاق على ارث بحاجة الى تطوير في أساليب التعبير وفي أكثر من مجال، في وقت لا تزال المأساة تنخر عظمنا، وتقتل فينا روح الفعل والتمرد على الكثير من الاشكال المتحجرة، وتعيق روح المبادرة، وتفعل ما تفعل من طحنٍ للقضايا الجوهرية. فالمطلوب الآن وقبل فوات الأوان القفز من فوق الهوة، والنبش المؤلم في تفاصيل حياتنا اليومية امام سؤال مهم نسأل فيه أنفسنا كل يوم ماذا نفعل الآن؟ وماذا سنفعل في الغد؟ بحيث بات تسليط الضوء على ما نكتب مفزعاً من نوعية ما نكتب، وتفاصيل ما نكتب في المشهد الشعري الحديث! فكونشيرتو القدس يخرج من هذا الاطار بالمعنى السياسي، ولغة الدم، والمراثي، وتنازع اللاهوتيات، حول الحقوق التاريخية للأمة المنهوكة بوابل من الاخفاقات على كافة الصعد، والتي اندثرت تحت وشاح قاتم وجحيم من التناحر الزمني على موقع ومكانة القدس، الى رحاب عمل ابداعي أعمق وأرحب، يؤسس لدور جديد يحاول ان يزيل عنها هذه الغمّة، وهذا الاستئثار والانغلاق المطلق باسم الدين، وغيره من القضايا، الى التجسيد الأمثل لفكرة الانفتاح الانساني والحضاري لهذه المدينة. يقول أدونيس في احد المقاطع: "دخلتْ العاشقة حديقة بيتها في القدس حيث يقيم حبها. الازهار كلها تحولت شِباكٍ تطوّق خطواتها. ضحكت وقالت: هل عليّ، إذاً، أن أخيط من جديد ثوباً آخر لكل زهرة؟ أمس، حين التقيتها، همس الليل في أذنيّ: العطرُ ابْنٌ للوردة، لكنه يولد شاباً." المدينة نموذج خلاص ثقافي حقيقي، ليس مرهوناً لهيمنة التغييب والاحتكار للتاريخ وارتهاناته لارادة الأمر الواقع بفعل القوة والإستيلاب، باعتبار مدينة القدس تمثل المعنى النهائي لفضاء الفكرة ببعدها الانساني، كما تمثل نقيضاً للقمع المتواصل في اوصالها وكل مندرجاتها يقول أيضاً: " شكا بيت المقدس الى ربه الخراب، فأوحى الله اليه: لأملأنّك خدوداً سُجّداً تحن اليك حنين الحمام الى بيضها."  فكونشيرتو "قفا نبكِ" باعتبار القدس اسطورة ميثولوجية تتخطى الجغرافيا والسياسة والزمان والمكان الى فضاء الروح والرمز الملتبس، وتشكل نشيداً درامياً يعلو وينخفض مع موجبات التعبير لتشكل كونشيرتو "مدينة السماء"، في ترددات وايقاعات بعيدة عن كل متناول، بحيث يحضر في هذا الكونشيرتو لفيف من الخالدين كابن عباس، وابو هريرة ، وكعب، وابو ذر، وحزقيال، وحبقوق، وسفراللاويين من التوراة ودروب الآلام ومن حشد اسلامي وتوراتي ومسيحي محشود في جو القصيدة يقول: "أهلاً بامرئ القيس! هوذا في طريقه الى بلاد الروم مروراً ببيت المقدس، قبل ان يضع قدميه على عتبته، قرأ: الدم الذي أريق على ضفاف المتوسط، منذ البدايات، تاريخ مُدنَس. لهذا التاريخ الارضي موجزسماوي اسمه القدس: الناس فيها اثنان ميت مقيم في السفر وهو مكان متحرك وحي يقيم في القبر، وهومكان ثابت، وكلاهما يقيم خارج نفسه." إن امرئ القيس بما له من رمزية وفروسية، وابداعات شعرية، وابتكارات لافتة في التشبيهات والاستعارات في الصورة الشعرية والاساليب التعبيرية الحداثوية في الشعر الجاهلي خارجة عن المألوف في ذلك الزمان ما جعل منه شاعر الحداثة في وقته وزمانه، وهو صاحب المعلّقة المشهورة "قفا نبكِ" التي لا تغفل عن بال احد منذ ذلك الوقت، ما حدا بأدونيس ان يأخذه كشاعر وكشاهد تخطى الزمان والمكان الذي مازالت اقواله تضرب في ربوعنا منذ مختلف الأزمان. وهذا ما يريده من هذا الكونشيرتو بأن يُخرِج القدس من ماضيها وتعابيرها الماضوية، لأن أغلب ما كتب من قصائد عنها استُلهم من ماضي المدينة وتاريخها العريق وحاضرها المنكوب، من أجل أن يؤسس في هذا الكونشيرتو سياقاً آخر وملامح اخرى مكتنزة في ماضيها الاسطوري بلغة ناهضة تستند الى التراث وصداح التراتيل الدينية بالمفهوم الحداثي المتجدد يقول: "موجز سماوي، عالياًعالياً، انظروا اليها تتدلى من عنق السماء. انظروا اليها تُسيَّجُ بأهداب الملائكة. لا يستخدم أحد قدميه في التوجه اليها. يمكن ان يستخدم جبينه، والكتف، وربما السّرة. اقرعوا بابها حفاة. يفتحه نبي يعلمكم السّير، وكيف تنحنون."  فصاحب الكونشيرتو يعتقد كثرة الكلام عن المدينة ورشقها بألفاظ جوفاء يساهم في تطويقها وفي محو معالمها خصوصاً في الجدل السياسي والديني القائم، وتعثر الخطاب الرسمي، وجمود النص الديني وأدواته التوراثية المستخدَمة، مما لا يؤدي لا الى تغيير، ولا الى تجديد، يقول: " لماذا أنا المقبل اليك، لا أعرف أن أسير إلاّ الى الوراء." تحتشد الصور والعبارات في ذاكرة ادونيس، ويحاول ان يلفظ المفاهيم المغلقة الأحادية التي لا تخدم سوى اعداء القدس، من أجل صياغة مشروع تعبيري جديد وخطاب سياسي وديني متنوّر، بعيداً عن الارتهان لمقولات مضرّة للمدينة وتاريخها المتنوّع. يقول: "أعرف اسمك، أيّها العَصْرُ أيّها الشيخُ – الطفلُ الراكض في شوارع القدس، أُمِرْتُ أن أقدّمَ لك عصير اليورانيوم. وسوف أقول للقمر ان يوقع على دفترك، والشمس أن تؤرّخ لهذا التوقيع، وانظرْ: ها هي جدران تريق حليب احزانها على الارض، فرحاً بك وتعرف أنت، أيّها الطفل – الشيخ، أيّها العصر، إنّ النّمل أكثر علواً من الكواكب: قدر النّمل ان يتحدث مع سليمان ولم تقدر الكواكب، ربما لهذا يتنبأ النّمل: الأحزمة، الأقنعة، الخنادق، الجرافات، القنابل، الصواريخ، الحقائق، الدواليب، الأدمغة الالكترونية: تلك هي الايام المقبلة." إزاء هذا الخطاب – الرؤيا، والسياسة التي لا تجترح لغة جديدة يقوم الشعر في لغة أدونيس باستنهاض الماضي المتخيّل بعنفوانه وتراجيدياه، وتراكيبه ليضرب في عمق البئر الراكدة، إذ لا بد من نقلة نوعية واقعية ليست سطحية، وليست محكومة بأية ديكتاتورية، نقلة تشق قلب الصخر وتفتّت هذا الضعف الذي نتخندق فيه منذ زمن بعيد، لتعود القدس وكل مدينة عربية الى واقعها  ورسالتها، بدلاً من تأمل مصيرها ومآلها وانهيارها.