إن نكوص الإعلام الثوري في فلسطين أرهق وعي المجتمع بالتضاربات الفكرية (سفسطة الردح) بين قطبي الثورة فتح وحماس ليتعدى النقد السياسي حتى طال المحرم بنقد الفكر الحزبي، فعلى الرغم من إيمان الثورة بالفكر الجامع إلا أن قلة قليلة مازالت ملتزمة به. ويمكن اختصار تعريف الفكر الثوري الجامع: هو نهج حركات التحرر في العصر الحديث لتجييش كل طاقات الشعب تحت لواء واحد وهدف واحد هو تحرير الأرض دون الخوض في اختلافات الرؤى السياسية لشكل دولة المستقبل، وهذا الفكر مختصر أولا بالحرية من الاستعباد والاستعمار، وتبدأ حرية الثائر بانضمامه لحركة تحرر تعمل على تحقيق حريته، وثانيا: المساواة بحق جميع أبناء الوطن بالعيش فوق ترابه، وثالثا العدالة: أن كل الأفكار الأممية والدينية والقومية والوطنية ترى أن العدالة تبدأ بتحرير الأرض ثم تختلف على شكل الدولة ومفهوم المواطنة والقانون، فبداية العدالة حركة ثورية تحرر الأرض.

ومن يكتب لشعب فلسطين لابد أن يعلم أنه يكتب لشعب عريق بفهمه للإعلام وأهمية دوره في توعية وتثقيف المجتمع، ويسجل التاريخ الحديث أن أول جريدة رسمية أصدرها الشيخ علي الريماوي عام 1876 باسم القدس الشريف.وقبل هذا التاريخ كانت الثقافة المجتمعية لها أشكال متنوعة يختصرها لنا عبد الحميد عقار: الثقافة لا تنحصر في المكتوب وحده، لأن مجالها يتسع ليشتمل المرئي والمسموع والمجسم والمشخص والشفوي. الثقافة بمعنى ما هي صيغة في الوجود وصيغة معينة فيإدراك الذات والمحيط والعالم. فأقول لكل الكتّاب: حذاري من الاستخفاف في وعي المجتمع، فهو قادر على فرز الثقافة عن التفاهة، أو كما يراها معن زيادة: الثقافة ليست مجرد معلومات تقتنى وليست تراكما للمعرفة فحسب، بل هي مواقف حية تعبر عن الإنسان من جهة، وهي عمل دائم وسعي مستمر لتحقيق إنسانية الإنسان في مجتمعه وبيئتهمن جهة أخرى. إلا أن الثقافة الثورية هي الوعاء الحاضن لكل مواقفنا الفردية وإنجازاتنا المجتمعية فهي ثقافة توحد المجتمع لتحرير الأرض.

لعله من الترف الحديث عن الإعلام دون إقرانه بالثورة لأن فلسطين لم ينجح بها إلا إعلام الثورة، في البداية ثورة ضد الفساد العثماني ثم الانتداب البريطاني والآن ضد الاحتلال الصهيوني، والحقيقة التاريخية أن الشعب الفلسطيني ساند المثقفين من الاتجاهات الفكرية الأممية والدينية والقومية والوطنية، فالتعبير عن الثورة قد يأخذ أشكالا متعددة إلا أن له هدفا واحدا وهو تحرير الأرض. ويقول بارثيز: الأرض، هي الأم التي لا تموت أبداً، تأكل الخبز والملح،وتقول الحقيقة. وهذه الحقيقة التي يجتمع عليها الثوار على مختلف مذاهبهم الفكرية،إنها باختصار الثورة وهنا نتذكر معا أن أول متفرغ بحركة فتح هو الشهيد خليل الوزير أبوجهاد لإدارة مكتب إعلامي للحركة، وأيضا أن أول مهام نضالية قامت بها حركة فتحهو توزيع المناشير السرية ومجلة فلسطيننا تؤرخ كأول إعلان لميلاد الثورة الفلسطينية، حتى تطورت بإصدار جريدة فتح اليومية التي بدأت بالصدور يوم 15/6/1970في مدينة عمان، وكان رئيس تحريرها الشهيد كمال عدوان وأما محررو الجريدة فهم أمثال ناجي علوش، منير شفيق، نزيه أبو نضال، كمال ناصر وآخرون من كافة الأطياف الفكرية في المجتمع الفلسطيني. استخدمها الشهيد كمال عدوان لتعبئة الجماهير على المقاومة وأيضا لترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية حتى أصبحت ناطقة باسم الثورة الفلسطينية، وكانت باكورة فكرة مجلة فلسطين الثورة كمجلة ناطقة باسم منظمة التحرير الفلسطينية.

هذا التحفيز لتذكّر تاريخ الإعلام الثوري في فلسطين يجعلنا ننظر لإعلاميين غير مثقفين ومفكريين يطرحون أفكارا لا تخدم أهداف الثورة بل أنها تضعف من تماسك وحدة الوطنية كما أنها تفتت الوحدة التنظيمية داخل حركة فتح، التي يحسبها البعض ليبرالية الفكر بينما هي خليط من كل المناهج الفكرية تتجمع معا لهدف تحرير الأرض، ولعل تبني ليبرالية داخل فتح جاء ضمن رؤية الأخأبومازن ولم تكن قرار مؤتمر حركي، فهي بالتالي تخص السلطة أكثر من حركة فتح التييبقى فكرها ثوريا حتى تحرير الأرض. والمفروض من إعلاميي الحركة أن يعملوا كما قال الجواهري:المثقف المغرد هو الذي يؤمن بفكر حزبه ويبدع بتسويقه. أما الذين يؤمنون أن لنادولة ولابد أن نناقش آلية إدارتها يتناسى أن السلطة في زمن الثورة تأكل جماهيرية الثورة وزخم شعبيتها لأنها تفرز مجتمع سلطة ذا اتجاهات فكرية متعددة متناحرة فيداخله لكنه يرفض أن يكون من جماهير الثورة مجددا!

إن الحل بسيط في معضلة الثورة والدولة اختصره الشهيد ياسر عرفات بابتكار دولة الثورة المتحركة من عمان لبيروت فتونس ثمأرض 1967 في رحلة لابد أن تستمر ما دامت فتح تحمل الفكر الثوري، وهنا تكون الرؤيا واضحة للدور المطلوب من الإعلامي وهي أن يكون مثقفا شموليا فهو كما يقول ميشيل فوكو:المثقف الشمولي هو الذي يجسد ضمير المجتمع ويوقظ وعيه. الا أن هناك إعلاميين يهبطون في إعلامهم من أجل التكسب المادي الرخيص أو شهرة الأضواء متانسين أن دورهم توعية المجتمع وأن لهم سلطة توازي السلطة السياسية أو العسكرية أو كما قال بيكون:سلطة المثقف هي معرفته ووسيلته الإبداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه لتغيير المجتمع.فلا نختلف بتفسير الواقع بين دولة ثورية أو ثورة لها دولة فالمهمة الرئيسية هي تحرير الأرض من الاحتلال.

 

إن الكتابة الثورية تعيش طويلا بل أن أغلبها يخلد في التراث الشعبي وهي أروع ميراث للأجيال القادمة، إلا أن هناك كتابات كثيرة تسحب عينك منها قبل منتصفها لا لأنها فكر مغاير لك- ففي زمن الثورة من الترف الحديث عن فكر مغاير- بل لأنها كتابات مغلقة أو كما قال جان بلامان نويل: لأي نص مكتوب طريقتان للقراءة، الأولى مغلقة بين الكاتب يكتب لشخص محدد وأخرى يكتبها لعامة القراء فنتكون مفتوحة وتحتمل تفسيرات متعددة. فمن يبحث عن تحرير الأرض لا بد أنتكون كتاباته مفتوحة يفهما كل الثوار على مختلف مدارسهم الفكرية، ولكم أقول إن محمود درويش وإدوار سعيد صعدت كتاباتهم إلى العالمية ولم يكتبوا إلا فكرا ثوريا.

والحديث عن ثقافة الإعلاميين يدفعنا للحديث عن النقد لا تجريح والتخوين، ويؤسفني أن أقول لو جمعت كل أسماء القيادات الثورية المطعونة بسُم تخوين الإعلاميين لصعقت أنها تشمل كل الصف الأول والثاني في حركتي فتح وحماس، فهذا لا يسمى نقداً لأن هدف النقد تصويب المسار وتعديل المسلكية لتسريع تحقيق أهداف الثورة، ودور المثقف في هذه المرحلة النقد كما شرحها كارل ماركس: دورا لمثقف هو النقد الصارم لكل ما هو موجود ويستمر بنقده للمجتمع والسلطة باحثا عنتطور تراكمي إذا توقف نقد المثقف مات المجتمع. وأضيف أن هناك إعلاميين دفنوا وعينا في مقابر العصبية الجاهلية.

إن الدور الأساسي للإعلام في الثورة هوا لقدرة على زيادة شعبيتها واستقطاب أنصار جدد للثورة، وهذه الشعبية لها مساقان،الأول نازل من القيادة للقواعد الجماهيرية حيث أن القائد المحبوب جماهيريا يسوّق حركته الثورية ويجعل المجتمع يحترم كل من ينتمي لها، والمساق الثاني هو صاعد من القواعد الجماهيرية إلي القيادة حيث أن المسلكية الثورية السليمة تسوّق الحركة الثورية وقيادتها، وإذا كان الإعلامي لا يُسوّق فكر ثورة أو نشاطات وفعاليات القواعد الجماهيرية ولا قيادة ثورة، فهل يستحق أن يوصف بأنه إعلامي ثوري مثقف؟

في فوضى الإعلام وكثرة المحسوبين على قلم الثورة يصبح مفهوم لينين بضرورة التثقيف الذاتي للثوار مسألة في غاية الخطورة إذاما كان هناك تثقيف مركزي موجّه، يرسم خطوط عريضة لمفهوم الثقافة التنظيمية في الثورة ويحدد المحرمات في زمن الثورة. ولشرح التثقيف الموجه: هي الثقافة التنظيمية في الأحزاب السياسية لأعضائها بشكل خاص لشرح أهداف وبرامج وقرارات الحزب عن طريق الاجتماعات الدورية والدورات التثقيفية والنشرات الداخلية التي تدرب الثائر على فنون الثورة وأولها الاستقطاب وتعبئة الجماهير لإضافة زخم جديد للثورة وثانيها فهمالعميق لمعنى الانضباط بالمسلكية الثورية والالتزام في قرارات الحركة وثالثها التدريب المنهجي على ممارسة النقد والنقد الذاتي ورابعها تعلم الفنون القتالية والأمنية وأسس النضال السلمي والصمود في حالات الاعتقال. ويتم فيها أيضا تدارس الوطن بمجتمعه وتاريخه واقتصاده وأمنه القومي وخطط التنمية وأيضا آدابه وتراثهوفنونه، ومن جانب آخر دراسة العدو ومنهاجه وأساليبه وأحزابه وترسانته العسكرية وتركيبه الاجتماعي والثقافي وإدارته للاقتصاد وأسلوب استقطابه للمهاجرين الجدد، كذلكيتم فيها ترسيخ أهمية الاطلاع على كل الأفكار السياسية في الوطن والبحث عن سبل خلقوحدة وطنية بين الأحزاب أو القدرة على تفنيد خطأ الرؤيا السياسية للخصوم السياسيين دون الخوض في صلاحية فكرهم سياسي من عدمه بل عن طريق التنظير السياسي الواعي لأهمية الوحدة الوطنية في زمن الثورة. نقطة مهمة بالفكر الحزبي هي المتابعة الإخبارية المستمرة والقدرة على التحليل الإخباري ورصد مؤشرات شعبية الحزب ورفعها بأمانة للقيادة الحزبية، أما الهدف البعيد المدى للتثقيف الموجه هو خلق كوادر قادرة على تطوير الثقافة التنظيمية بقصد تنمية شعبية الحزب وتحقيق أهدافه بتنفيذ رؤيته لتغيير المجتمع نحو التطور والرخاء.

هذا النقد موجه لإخواني وأخواتي الإعلاميين الذين فقدوا بوصلة الثورة، ولكل من ينتمي إلي الثورة بهدف رفع كفاءة الإعلام الثوري ليكون سلاحا بين الثورة يقوي من فعلها الثوري ويروّج لفكرها التحرري وينير الطريق القواعد الجماهيرية ويكون سلطة نقدية على أي ممارسات فردية خاطئة لأي ثائر مهما ارتفعت مرتبته التنظيمية، وأن يعمل على توسيع شعبية الثورة من خلال تسويق فعالياتها وتمجيد إنجازاتها.

كلمة أخيرة: إن الإعلام الثوري هي مهمة نضالية لكل ثائر وثائرة في حركات التحرر.

ولدت لاجئا وأحيا مهاجرا