استعجلَ الخطى كثيرًا حيث اللاّوصولُ غايته... فدأبُه الحِراك الذي لا يتوقَّف... وعلى امتدادِ مساحة عمره الطويل- المختصر.  
لم يكفِه عمرًا واحدًا كي يُكملَ فصاحة الفكرة بين انتمائِه الأبدي ولذَّة الإنحياز إلى جغرافيا العِناق. هناك ... وهنا ... وهو في المُنتصف ينبُش خبايا الوجع من أعبابِ الجراح... ولا يشفعُ التنهُّدُ لنذرهِ البعيد. كم امتلك غسَّان حوراني من الشفاعاتِ، وابتلى بالتسامح الرحيم حتى أقصاه، فأينعتْ حديقة عمره بالنذور التي أوفى أقساطها خطى... سهرًا وتعبًا وشقاء.
عاش للنذر وفيه، لهالة الشفق المغسولة بالنوائبِ البيضاء.  بعينيهِ الحائرتين المُحلّقتينِ دأبَ على تقصّي دروب الغامض كي يتجاوزَ خبايا القلق المستلقي على أريكةِ الوعدِ المشاكس، وكي ينحَتَ الصلصالَ عن جسد النبؤة المنسية على بلاط الخيبات العميقة... "اسألوا عن فلسطين، تجدون الإجابة عن كل ما يحصل"... " عقلنا صمَّمته قضية فلسطين"... ذلك هاجسه الدائم، وتلك ذاكرة انتسابه وانتمائه... دون تجميل.
لأنه كذلك، عاشَ كثيرًا... والكثير في عرفهِ مساحة الهاجس الذي لا يعرف السكينة، حتى اذا هدأتْ خطاه، لا يهدأ لسانُه... ورغم ذلك رسمتِ الابتسامة على وجهه ضوءَها البرونزي، فانسابَ النورُ على مُحيَّاهُ كي لا تخفي الهمومُ مساحة الأملِ الكبير.
عندما أطلق النذير آهة العزاء، لم تصدّق أسماعُنا يقين الفجيعة... كأنه من الذين يتجاوزونَ احتمالات الغياب... فبعضُ الورد ينامُ... ثم يصحو بكلِّ أناقةِ العِطر في أنفاسِه... حسبنا أنه ذلك النوعُ من الورد... الذي تتواردُ براعمه الحياة... وردة إثر وردة في مسكبة المسيرة التي شاءت أن تبقى نهرَ العطاءاتِ والبذل الحميد.
لكثرة ما كانت كفّاه تبتعدان، كنا نخالُ أنها تفتح لليمام شرفة في السماء. ولكثرة ما غازلَ محط رحالهِ- بنت جبيل، تلألأ الرخامُ كقافيةِ قصيدةٍ تتلوها الرُبى على وجوهِ الصباحاتِ... كم أيقظ بنت جبيل... وأعادَ إليها ذاكرة فلسطين... هذا الجنوبي- الفلسطيني الأصيل أوصى بأن يُلفَّ بعلم فلسطين كونه الخاتمة الأجمل لمناضلٍ لم تزغْ عيناه عن قضيَّةٍ هي الأعدل بين قضايا الأمم.
كان واثقًا أنه سوف يجدُ المحطة الأخيرة قبلنا، وبثقةِ الزاهد كان يُلقي علينا حُجَّته النقيَّة، ففلسطينهُ لم تكن جغرافيا، بل كانت انحيازًا صارمًا لعدلِ نحرَته حِرابُ الأمم الضالَّةِ على حسابٍ شعبٍ اختارَه القدرُ أجمل الضحايا.
ذلك المساء أكثر النظرَ إلى الشمس، تفرَّس في تفاصيل هالتها... في الأوردة التي تطوِّقها بالشفق القاني، كأنَّه كان يخاطبها بلغةِ المشحون بالضوء وبالأمنياتِ التي لم تكتملْ. أسرع نحوَها، مُجدَّا الخطى كي يدركَها، لكنها غابتْ ... رغم تمنياته عليها بأن تطيل عمرَ النهار. أراد أن يقول لها: على البحر أن لا يَخَفْ، فالنهر سوف يعطيه كلَّ مائهِ ... والأشرعة لن تقلعَ عن الرقص في حضرةِ الأطيافِ التي تمرَّدتْ على الغياب... ثمَّة دندناتٌ هناك تأتي من وراء الرُبى، مُختالة بين صغار الغيم كأنها تنهُّداتُ المزاريب في ليالي الخطر السوداء...
لم تسأل الغفوة مختار، بل هدهدته على وسادتها المُطرَّزة منذ ثورةُ ونيِّف... فأذعنَ للذةِ السكينة على تلة في بنت جبيل... يحاكيه هواؤها بلهجة فلسطينية. كأنَّه يختمُ بالغيابِ تغريبة الحلم...  يحقِّقُ أمنية التلاشي إلى ترابٍ توَّاق لمعانقة أجيال التراب الآتية على صهواتِ موتها المرتحل من عناء الجري الطويل.
عادَ مختارُ إلى بنت جبيل، كي يعيدَ ذاكرة طوَتْها حواشي الغبار تحتَ وطأةِ تغريبةٍ حَسِبناها النهاية... لكن لفلسطين طيفٌ من قطا يأتي في الليالي البيضاء مغرِّدًا قصيدة مطرٍ عصماء... لا يرتوي غيمُها... ومع ذلك يبقى ينزُّ من أذيالِهِ ندى شفيفًا لدحنونِ الحدود... كأنها تحيَّةُ السماء للتبغ بين جنوبِ الصباح وشمالِ الحنين.


محمد سرور