رغم ان ثقافتنا الشرقية تصنف الاعتذار من شيم الكبار، وتمنحه للأقوياء دون الضعفاء، وتعبر عن ثقة بالنفس نابعة من القدرة على تحمل تبعات الخطأ، ورغم أن الاعتذار جاء على لسان الأنبياء قبل البشر، بدءاً باعتذار سيدنا آدم الذي اعترف بذنبه حين أكل من الشجرة المحرمة، مروراً باعتذار سيدنا موسى على قتل الرجل الذي وكزه بعصاه، وانتهاء بسيد الأنبياء حين اعتذر عن ظنه فيما يتعلق بتلقيح النخل، الا أن الاعتذار لدينا لم يعد يحمل هذه القيم، بل عدنا نراه في الجانب السلبي الذي يضفي على صاحبه صفات الضعف والتردد والجهل.
من الصعوبة بمكان أن يلجأ الأب للاعتذار لأبنائه عن خطأ وقع فيه، فالغالبية منا ترى في ذلك ارتجاجا في صورة ولي الأمر، واعتذار المدرس لطلابه عن خطأ علمي وقع فيه يمكن أن يلصق بالمدرس صفة عدم المعرفة والالمام بمادته العلمية، فيما اعتذار الزوج لزوجته فيه انتقاص لرجولته، واعتذار المسؤول للرعية يلحق فادح الضرر بهيبته ويهتز معه الكرسي الذي يتربع عليه، هكذا نرى في الاعتذار سلوكاً لا بد أن ننأى بأنفسنا بعيداً عنه، وهو ما يضطرنا للدخول في مستنقع الجدل والتبرير، والذي من شأنه أن يدفعنا لخانة «عنزة ولو طارت».
ثقافة الاعتذار التي نعنيها لا تتوقف عند حدود «أنا آسف» في هوامش الأمور، بل الأهم ما يتعلق منها بالمواقف الجادة التي تتطلب الاعتذار كي تمضي الحياة بوتيرة طبيعية، دون تكريس للبغض والحقد والشحناء وسوء الظن في العلاقات المجتمعية، حيث يصنف الاعتذار كاحدى الوسائل المهمة في التواصل الاجتماعي، التي تضفي على صاحبها المصداقية ويستحوذ من خلالها على ثقة الآخرين.
وثقافة الاعتذار لا تتوقف أيضاً عند الاعتذار عن الخطأ الفردي، بل تمتد بذات المفاهيم الى الأخطاء التي تقع فيها المؤسسات والأحزاب والكتل المجتمعية، والاصرار على الخطأ أو تجاهل الاعتذار عنه يضع صاحبه «أفراد أو مؤسسات» في خانة تقديس الذات المعصومة من الخطأ، وكأن صفحة العمل لديهم ناصعة البياض لا تنطق سوى بالانجازات الخالية من الأخطاء والهفوات بل وحتى السهو والنسيان.
ان كان اعتذار المرء لشخص أخطأ في حقه ضرورة، فالضرورة الأكبر تتعلق بالاعتذار عن أخطاء يتحمل تبعاتها قطاع أوسع من المجتمع، لعل مجتمعنا اليوم بحاجة ماسة لهذه الثقافة التي نعيد من خلالها ثقة المواطنين بمؤسساتنا وقوانا السياسية، الا يجدر بالقوى الوطنية والاسلامية في مجتمعنا الفلسطيني أن تقدم اعتذارها لشعبها عن الأخطاء التي وقعت بها؟، لماذا لا تبادر حركة فتح الى هذه الخطوة؟، وكذلك تفعل حركة حماس وباقي القوى السياسية في فلسطين، من يبادر الى ذلك سيحظى بالمزيد من ثقة المواطنين، والأهم أن ثقافة الاعتذار بامكانها أن توفر الكثير من المصداقية المطلوبة لانجاح الحوار الداخلي، نحن بحاجة اليوم لأن نكون أكثر جرأة في نقد الذات والاعتذار عن الأخطاء التي وقع فيها كل منا، ولسنا بحاجة قط لأن نرصد أخطاء الآخرين والعزف على وترها ليلاً ونهاراً، حيث قوة الحزب لا ترتبط بأخطاء خصومه بل بما يتمتع به من مصداقية والتي تتطلب بالمقام الأول الاعتذار عن الأخطاء التي وقع فيها سواء كانت تحت عنوان الاجتهاد أو سواه من العناوين.