قامت السلطة الوطنية الفلسطينية بفصل عدد من الموظفين في غزة على قاعدة فُهم استنادها إلى الخلاف السياسي-التنظيمي ، وتُعد الكشوفات لإحالة أكثر من عشرين ألفا للتقاعد، كما تم إلغاء عدد من الامتيازات عن ضباط و منتسبي قوات الأمن في غزة ، اليوم وليس بالأمس، أي ليس بعد الانقلاب وإنما بعد تشكيل حكومة الوفاق.

 إن التقاعد بشكل جماعي، ما تلى الغاء علاوة الاشراف أو القيادة لعدد كبير من المناضلين الذين وقفوا مع الشرعية والتزموا بأوامرها يبدو وكأنه عقاب جماعي على انضباطهم وصبرهم على ظلم وعدوانية "حماس" ثم السلطة الوطنية.

 ما حصل مؤخرا من تدخل السلطة في أرزاق الناس بقطع أعناقهم في غزة أوالضفة أو الخارج فإنه أمر غير منطقي ولا قانوني، بل ويمثل تعديا على حقوقهم الأساسية في الوظيفة ، وتلقي الراتب وضمان الحق لهم في العيش الكريم وعدم الإساءة لكرامتهم، وتعدي على حقهم كمواطنين في التعبير عن أرائهم بحرية والاحتجاج وبما يكفله القانون لهم،.ولا يصبّ مثل هذا العمل في مصلحة القضية أو أهدافنا الوطنية، عدا عن أنه يخلط بين المفاهيم الحزبية والسلطوية التي استطعنا في حركة "فتح" أن نتحرر منها جزئيا عبر استقلالية الأجهزة الأمنية وضرورة ولاءها المطلق للوطن والقيادة لا للفصيل أو العشيرة.

  في ظل المعركة السياسية الشرسة التي تخوضها القيادة السياسية الفلسطينية في الأمم المتحدة -على مالنا عليها من ملاحظات سندونها لاحقا- فإنه يصبح من غير الجائز فتح معارك جانبية هي بالتأكيد  ستضر بصورة السلطة وصورة الديمقراطية الفلسطينية وصورة الوحدة الوطنية على ما في المصالحة من تردد وارتباك وتعثر.

  قد نحمّل تيار ممانع للمصالحة في "حماس" سبب المصائب ممثلا ببعض رموز فيهم  لا سيما أنها تتحدث علنا ضد الوحدة الوطنية والتحركات السياسية ، ولكننا في ذات الوقت لا نُعفي مجموعة من النباتات المتسلقة داخل حركة فتح كما داخل "حماس" وغيرهما على محاولتها الدائبة لخنق التقارب الوطني وتدمير المسعى الفلسطيني للخروج من المأزق، بل ودق أسافين في مسار أي فعل يخرجنا من دائرة الازمة.

   لا شك أن انعكاس الخلاف السياسي على شكل انقلاب كما فعلت "حماس" عام 2007 وعلى شكل قتل مقدس وعدوان على الحريات والفكر هو عمل لا ديني ولا انساني ، تماما كما هي عملية استغلال (السلطة) و (المال) و (الحشد) و(الإعلام) من أي جهة جاء لارتكاب جرائم، هي بالقطع لا تقل فسادا عن الانقلاب الدموي.

  إن ما يحصل من بذور فوضى في التجمعات الفلسطينية، وأبرزها اليوم في غزة تمتلك مظاهر تُنذر بشر مستطير في حركة فتح، فإن التمسنا لهذا الحِراك العذر على قاعدة الاعتراض لبعض الكادرات على أشخاص بعينهم في القيادة أو لسبب يرونه بعدم تسليك الأطر والقنوات التنظيمية، أو لسبب الاعتراض على قرارات التقاعد أو الفصل فقد نلتمس لهم  بذلك الحق بالاعتراض والتذمر والنقد.

يكتب التاريخ عن فتنة الخوارج بالقول أنهم هاجوا ضد عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقالوا : " لا حكم إلا لله " فقال : عليّ : (كلمة حق أريد بها باطل.)

  إنها كلمة حق أرادوا بها باطلا، وضعوها في غير موضعها تبعاً لأهوائهم، فألقوا الشبهات على الجهّال من الناس، فخدعوهم بحسنِ مقالهم، وضللوهم بسوء فعالهم.

   وما نأمله فيما حصل في غزة أن نأخذ الاعتبار من التاريخ ومن تجربة المنشقين الذين بدأوا بمطالب فيها من الحق ما كان النظر به جارٍ، لكن الرعاية السورية كما الرعاية من تيار حماس الانقلابي اليوم جعلت الحراك أو الانشقاق باطلا

  نحن في ذات الآونة لا نقبل التساوق من أحد مع المخططات الخارجية ما يشي بسوء تقدير للوضع الوطني، وبسوء التوقيت، أو بقصد الابتزاز، وما قد يكون دلالة إما على تهافت سياسي –وطني، أو نتيجة لرغبات ذات طابع ذاتي أو لإرتباطات خارجية.

أما دور حماس السلبي في الحِراك فهو واضح العنوان إذ أصبحت الانتهازية الحزبية محركا للجناح الانقلابي-الممانع للمصالحة داخل "حماس" والذي مازال يحكم غزة، بحيث لا يستطيع-كما يدعي- حماية منصة الشهيد الخالد ياسر عرفات من التفجير، ويجنّد نفسه في كل غزة لحماية مهرجانات الاستعراض الحمساوي، ويفجر منازل قادة في حركة "فتح" ويحمى تجمعات مناهضة للشرعية في الحركة، فماذا يمكن أن نسمي مثل هذا الفعل غير ما ذكرناه؟

  إن الحِراك في غزة داخل حركة فتح إن كان يرغب الاصلاح والاستنهاض والاعتراض، فهذا حق كل عضو في الحركة، أما أن يستخدم وسائل مثيرة تذكرنا بأساليب المنشقين فهي مما لا نقبله مطلقا.

 ما كان الفصل موفقا ولا كان التقاعد الجماعي مناسبا وما كان العسف في استخدام السلطة والأدوات الأخرى -من أي طرف كان- أمرا مقبولا.

لقد تأسست حركة فتح على قمة بركان متواصل من الكمون الناري فهي تحتفظ بمكوناتها ،فكرا وفعلا ، بحِمم لاهبة إن أُحسن استخدامها توجّهت للتناقض الرئيسي أي العدو الصهيوني، وإن تنازعنا أمرنا فيُلقي كلًّ منا اللهب باتجاه الآخر لن يضحك أخيرا الا العدو الرئيسي، أي العدو الصهيوني.

إن هذا السياق -نكرر ثانية- أنه لا يُلغي فكرة الاعتراض أو فكرة النقد ولا يُلغي ضرورات المراجعة الدائمة داخل الحركة أو داخل أي فصيل سياسي يحترم ذاته، وإنما يؤصلها ويضبطها ويقوننها.

 إن كانت القناة تفيض بالظلم والاضطهاد والاستبعاد كما قد يرى البعض، وتنغلق عن السماحة والرحابة والمحبة والتقبل فإن هذا الواقع مؤقت، ولن يغيره إلا الحالة الايجابية والحالات الإبداعية والفكر الجامع والنَفَس الذي ينهض ولا يزدري أحدا، ولا يعاقبه إلا بالنظام مع ألف وردة.

إن القضية الفلسطينية وفلسطين وغزة تحتاج جُهد الجميع لا محالة، وكل خلاف إن صفت النوايا وغابت المصالح الشخصية إلى زوال، وما مناكفات ومناحرات أصحاب المصالح والأهواء والنزق إلا هباء في سماء فلسطين المشرقة، والتي لا تحتمل الآلام وكثرة الجراح فمازالت القدس بمآذنها تئن ومازالت الكنائس تبكي ومازال الإسرائيلي يبطش بلا رحمة، ووحدة القرار والمصير يحتاج منا لإرادة.