تتعدّد أوجه معاناة اللاجئ الفلسطيني في لبنان ولعلَّ أبرزها معاناته على الصعيد الصحي حيثُ ترتفع التكلفة العلاجية في ظل تردي الأوضاع المعيشية وعدم تقديم الأونروا المساعدة الكافية على هذا الصعيد، ومن هنا برز دور الضمان الصحي الفلسطيني ليعوض جزئياً بعض تلك الاحتياجات. وللإطلاع على تقديمات الضمان الصحي لشعبنا اللاجئ في لبنان إلى جانب الإحاطة بأبعاد وتداعيات العدوان على غزة كان لنا هذا اللقاء مع المستشار في سفارة دولة فلسطين ومسؤول الضمان الصحي في "م.ت.ف" ونائب أمين سر اقليم حركة "فتح" في لبنان غسان عبد الغني.

 

ما هي قراءتكم لمرحلة ما بعد العدوان على غزة؟ وبرأيكم ما هي مقومات الصمود التي مكَّنت شعبنا الفلسطيني من الانتصار؟

بدايةً إن هذا العدوان ليس بالشيء الجديد، فشعبنا الفلسطيني يتعرّض لعدوان مستمر متعدّد الأشكال من قِبَل اسرائيل منذ احتلالها فلسطين، سواء أكان لجهة الانتهاكات اليومية كما في الضفة والقدس وسائر الأراضي الفلسطينية أو لجهة الاشتباكات المسلّحة طيلة فترة الكفاح المسلّح الفلسطيني.

أمَّا بالنسبة للعدوان الأخير على غزة فلا بدَّ ان نشير أولاً إلى أن هذا العدوان كان له حسابات وأبعاد عدة وتضمَّن توجيه رسائل مختلفة من ولعدة أطراف ضمن الاشتباك السياسي الحاصل بين محاور ودول مختلفة في المنطقة، وللأسف فإن بعض القوى الفلسطينية التي أصبح قرارها جزءًا من إرادة هذه الدول كانت طرفًا متورّطًا في المسألة، وكل ذلك بهدف الوصول إلى ترتيبات معيّنة لا تخدم المشروع الوطني الفلسطيني في المحصلة. ومن هنا، كانت نتائج هذا العدوان كارثية على غزة التي ارتقى فيها أكثر من 2200 شهيد و11 ألف جريح علاوة على الدمار والخسائر التي لحقت بها والتي لا يعلم احد كم ستستغرق من الوقت عملية إعادة اعمارها، وهذا وحده نكبة جديدة تضاف لنكبات الشعب الفلسطيني.

غير أنه في الوقت ذاته لا يمكن لأحد أن ينكر الصورة المشرّفة التي قدّمها المقاومون الفلسطينيون في المواجهة العسكرية التي كانت جديدة من حيثُ المعايير والمستوى، ووجّهت فيها المقاومة العسكرية على الأرض رسائل متعددة لا سيما من خلال السلاح الذي استُخدم لخرق سماء إسرائيل وتهديد أمنها.

ولكن رغم كل الدمار والخطر المحدِق بغزة فإن روح التحدي والصمود كانت الطاغية على أجواء القطاع لدرجة أنه أحيانًا خلال اللحظة نفسها لتعرُّض محلٍ للقصف بصواريخ الطائرات الاسرائيلية كان الناس يتجمّعون ويجلسون إلى جانب محلٍ آخر وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلُّ على القدرة العالية على تجاوز الآلام والصمود لدى الشعب الفلسطيني وخصوصًا أهالي غزة الذين أثبتوا كم أنهم شعب معطاء وجبّار، وأكّدوا طوال مراحل النضال الوطني الفلسطيني أنهم الخزان الذي تتنفّس منه الثورة الفلسطينية لأن قطاع غزة انتج وما زال ينتج مئات وآلاف الكوادر والمناضلين الأشداء.

ولا نبالغ إذا قلنا أن غزة قدّمت صورة رائعة من الصمود رغم كل الخسائر والدمار الذي لحق ببيوتها ومصانعها ومزارعها وكبّدها جنى 20 عامًا في 50 يوم، واليوم عادت الحياة لتسريَ فيها بنغم ممتاز، ويومًا بعد يوم يثبت شعبنا الفلسطيني صلابته ويقدّم أسمى صور الاصرار والصمود والتحدي في كل مناحي ومجالات الحياة، فنحن لدينا إرادة صمود كبيرة وستستمر بهذه الكيفية والروحية العالية.

وكنوع آخر من التحدي والمقاومة توجّه الرئيس أبو مازن، رغم المحاولات العديدة لثنيه، لمجلس الأمن بمشروع قرار يتضمّن انشاء دولتين بسقف زمني محدد وفي حال قرّرت أميركا استخدام الفيتو فسيكون خيارنا الانضمام إلى 2548 منظمة ومن وجهة نظري سيطالب الرئيس بتنفيذ القرار 181 وهذا قرار التقسيم الذي سيرفع السقف من الدولة على حدود العام 1967 إلى حدود العام 1948.

 

إلى أي مدى ترك هذا العدوان تبعات سلبية على المجتمع في غزة؟

بالتأكيد ليس بالمقدار الذي تحاول بعض الجهات تصويره أي لجهة وجود تذمر أو سخط على المقاومة، فالمقاومة هي عصب أساسي للشعب الفلسطيني ولقضيتنا ولصراعنا مع الكيان الإسرائيلي ومن غير المسموح المساس بها، لأن وجودها أمر حيوي ومهم في غزة وفي أراضي فلسطين كافةً وفي كل المناطق التي نستطيع أن نجد فيها قوى مسلّحة قادرة على الدفاع عن الوطن، وهذه المقاومة هي نفسها من أرسل رسائل مهمة لإسرائيل في المعارك البرية والقتال الميداني على الأرض، فقوات النُخب الإسرائيلية تكبّدت خسائر ذات قيمة عالية ما أحبط إسرائيل وجعلها تُوقِف القتال وتحُث الخطى للانسحاب وهذه أول مرة يلجأ الاسرائيلي فيها إلى هكذا خطوة، مما يدل على أنَّ اسرائيل فشلت بالميدان.

 

كيف يبدو لكم أُفق المصالحة؟

لا شك أن المصالحة حاجة ملحّة، وبرأيي فإذا كانت الوحدة الوطنية تستوجب من حركة "فتح" أن تخطوَ خطوة إلى الوراء فلا بد من ذلك لأن الانقسام هو أخطر ما يهدّد شعبنا، ونحن ينبغي لنا أن نكون موحّدين، كفتحاويين ضمن الحركة، وكفلسطينيين تحت راية فلسطين، لأنه من المستحيل أن نحرِّر فلسطين إذا كنا مشرذمين ومنقسمين ومشتتين ونعمل ضد بعضنا البعض، ونسمح للآخرين بالتدخُّل فيما بيننا، وأي فلسطيني عاقل وطني المفروض أن يقدّم تنازلات مقابل خدمة الوطن، لذا علينا التخلي عن بعض الرموز والمكاسب في سبيل تمتين واستعادة الوحدة الوطنية ومنع أي طرف من الدخول فيما بيننا فيما لا يخدم مصلحتنا المشتركة وهي فلسطين وقضيتها العادلة.

فالانقسام الذي حصل في غزة كان بمثابة سكين استغلّها الامريكان والإسرائيليون ليضعوها على رقابنا، والمفروض أن نعمل على رفع هذه السكين وإلا سنكون في ورطة، ونحن حريصون في حركة "فتح" على إتمام المصالحة ولذلك قامت اللجنة المركزية بتشكيل وفد للتباحث مع حركة حماس حول بعض الخطوات التي تساهم بتسريع عودة حكومة الوفاق الوطني إلى غزة وبدء عملها في القطاع. وبالطبع فنحن ندرك أن تراكم سبع سنوات من الانقسام خلَّف كوارث ومشاكل بين أبناء الشعب الواحد، فهناك اشخاص قُتِلوا وجُرِحوا، وذلك أنتج واقعًا آخر على مستوى السلطة لأن حماس استطاعت أن تشكّل سلطة ثانية بغياب السلطة الفعلية الأساسية، ولكننا استنكفنا عن العمل وأعطينا أمرًا للموظفين بالعودة إلى منازلهم، وفي المقابل عملت حماس على بناء وزارات جديدة وشكّلت شرطة وقوات أمن وطني جديدة، أي أنها شكّلت توليفة جديدة بديلة موجودة بالواقع ومارست العمل خلال ثماني سنوات، ولكنهم يبقون أبناء شعبنا ولا نستطيع ان نقول لهم ليس لنا علاقة بكم لذا يجب أن نجد حلًا وان نتعاطى مع الكل من موقع مسؤوليتنا عنهم كونهم جزءًا من الشعب.

لذلك فالمصالحة بحاجة إلى وقت لاسترجاع لياقتها البدنية لأن هناك ملفات يجب أن تُحل إن كان لجهة المصالحات المجتمعية أو ترتيبات الأجهزة وهناك مسائل بحاجة إلى متابعة ولكن المؤكّد هو أنه يجب مغادرة مربّع الانقسام لأنه مدمِّر للقضية الفلسطينية.

 

كيف يمكن استنهاض الوضع الحركي الفتحاوي في لبنان؟

نحن نعمل على هذا الموضوع وكُل الأطر تعمل عليه منذُ فترة ولكن يجب أن لا ننسى أن حركة "فتح" في لبنان تعرّضت منذ العام 1982 لهجمة مسعورة متعدّدة الأطراف الهدف منها التخلُّص من الحركة وتحجيمها وتحجيم دورها وإلغاؤها من الواقع الفلسطيني، حتى أنه في بعض المخيمات تمَّ طرد حركة "فتح" لسنوات طويلة إضافة إلى ما تعرّض له كوادرها من تضييقات ومحاولات لثنيهم عن العمل، وكان جسم فتح مصابًا بطعنات متعددة وبحاجة لعلاج ولكن بعض العلاجات غير متيسِّرة حالياً لاعتبارات متعددة لها علاقة بالوضع المحلي والتكوين الاجتماعي للمخيمات، وبالتالي فأية اجراءات حاسمة تقوم بها "فتح" على مستوى صفوفها لا شك أنها ستنتج خللًا وأزمة ونحن مضطرون لمعالجة الأعطاب والجروح الموجودة في جسم الحركة بهدوء وروية وحكمة حتى لا ندمّر أية أعضاء في هذا الجسم، وحرصًا على حماية مخيماتنا التي هي محط استهداف حاليًا من طرف اللاعبين الدوليين الذي يحاولون تحقيق أهداف سياسية معينة، ومن هنا علينا ان نحاول قبل أي قرار للإصلاح او وضع خطط جديدة لتحسين أوضاع المخيمات أن نحافظ على أمن واستقرار المخيمات، ومن هنا برزت أهمية نشر القوة الأمنية في عين الحلوة للحيلولة دون تكرار تكرار تجربة بعض المخيمات التي دُمّرت كليًا ولمنع تحقيق المشروع الهادف لتهجير الفلسطينيين لدول أخرى ودفعهم للاستقرار النهائي فيها والتنازل عن حق العودة.

 

ما هي الخدمات التي يُقدّمها الضمان الصحي لأبناء شعبنا؟ وما هي أبرز العراقيل التي يواجهها؟

انشِئئ صندوق الضمان الصحي الفلسطيني احساسًا من القيادة الفلسطينية وعلى رأسها سيادة الرئيس محمود عباس بالهم الصحي للاجئين الفلسطينيين وكان الهدف منه في المقام الأول شمول المتفرّغين بإطار فصائل منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تستفيد هذه الفئة من العمليات الإستشفائية وغيرها بنسبة 100% إضافةً إلى حسم أكثر من  85% من سعر الأدوية الخاصة بهم، وكذلك تستفيد زوجة وأبناء المتفرّغ الذكر بالنسبة ذاتها، ولكن بحكم الواقع الصحي الصعب في ظل تردي الوضع المعيشي للاجئين الفلسطينيين في لبنان وعدم تغطية الأونروا لجميع الحالات أو تغطيتها الجزئية لعدد كبير من الحالات، لمسنا، كلجنة للضمان الصحي، ما يعانيه المدنيون أيضًا في الجانب الصحي وخصوصًا الذين لا يجدون من يغطي تكلفة علاجهم أو دوائهم، فبدأنا البحث عن حل لمشكلتهم، وعملنا بدايةً بمجهود وقرار شخصي على توسيع نطاق الضمان لنتمكّن من تقديم المساعدات لهم وخصوصًا لذوي الأمراض المزمنة وذلك بحسب تكلفة الحالة وضمن الامكانيات الخاصة بالضمان، وتمكّنا من مساعدة عدد لا بأس به، ونحن حاليًا نحاول تقديم المساعدة لكل من يقصدنا ولكن المساعدة تتفاوت بحسب تكلفة العملية الاستشفائية او العلاج والوضع المعيشي للمريض وذلك منعًا لحصول أي إجحاف، وهناك حالات تُقدِّم لها الأونروا نسبة معينة من التغطية المالية ويعجز المريض عن توفير المبلغ المتبقي فنحاول بشتى الطرق مساعدته سواء أكان عبر دفع مبلغ من التكلفة او التواصل مع المستشفيات والأطباء. وعلى سبيل المثال ففي حالة مرضى السرطان من المدنيين، فإن الأونروا تغطي لهم نصف كلفة العلاج، وعندما يتوجهون لنا نقدّم لهم نصف المبلغ المتبقي، بمعنى أنه اذا كانت تكلفة الدواء العلاجي لهم مثلاً 4 ملايين فإن الأونروا تغطي منها مبلغ مليونين ونقوم نحن بدفع نصف المبلغ المتبقي وهو مليون ونعمل كذلك على اجراء اتصلات بحال أمكن لتوفير جزء آخر من المبلغ المتبقي، والقاعدة نفسها تسري بنسبة لجلسات العلاج. وكذلك نقوم بتغطية تكلفة الدواء بالكامل لبعض الحالات التي يعجز المريض فيها عن شراء الدواء، وحاليًا نتواصل مع وزارة الصحة اللبنانية لتأمين ما نستطيع من مساعدات لبعض المرضى وخصوصًا من ذوي الأمراض المزمنة وذلك يكون عبر مخاطبة رسمية بحيث يرسل الضمان رسالة للوزارة والوزارة تقوم بتغطية نسبة معينة من تكلفة العلاج ضمن قنوات رسمية بالتعاقد مع مستشفيات معينة.

بالطبع نحن نعي أن ما نقدّمه غير كافٍ ولكننا على الأقل نساهم في تقليص العبء المالي عن كاهل المرضى، لذا فنحن سنواصل هذا المسعى لأننا ملزمون بذلك تجاه أهلنا وشعبنا وسنعمل على تقديم كل ما يمكننا حتى وان عنى ذلك ان يتكبّد جهاز الضمان اعباء مالية وديونًا. وفي الحقيقة بعد أن لمست القيادة الفلسطينية وعلى رأسها سيادة الرئيس محمود عباس جدية وأهمية جهودنا قاموا بدعمنا بشكل كبير وهذا ما مكّننا من مواصلة تقديم المساعدات لشريحة المدنيين.

لذا فنحن بحكم كوننا قد قطعنا شوطًا كبيرًا على مستوى تقديم المساعدات فالمطلوب الآن من الفصائل أن تؤدي هي أيضًا دورًا أكبر لجهة توفير ما أمكن لمساعدة شعبنا اللاجئ على المستويات كافةً بما فيها المستوى الصحي لجهة تغطية تكاليف العلاج والدواء للمرضى من أبناء شعبنا للتخفيف من الأعباء التي تُثقل كاهل مؤسسة الضمان الصحي حيثُ ان العائق الوحيد هو العائق المالي، وإلى جانب ذلك تبرز أهمية حفظ الأمن لأن توتر الأوضاع والأحداث الأمنية أدت لسقوط العديد من القتلى والجرحى في المخيمات ودائمًا ما يكون علاج الضحايا مكلفًا وهو ما يتسبّب بوقوع عجز مالي في حين أن المبالغ التي تصرف كان من الممكن استخدامها لعلاج عدد كبير من المرضى من شعبنا اللاجئ، وكذلك ينبغي معالجة الفساد والهدر المالي المنتشر في بعض المؤسسات وترشيد الانفاق.