بقـلم/ صقر أبو فخر


في مقابلة تلفزيونية مع "قناة القدس" التابعة لحركة حماس في 10/9/2014 قال موسى أبو مرزوق: "إن مفاوضة الاحتلال من الناحية الشرعية لا غبار عليها، فكما نفاوضه بالسلاح نفاوضه بالكلام". وقد أثارت هذه العبارة بلبلة في صفوف حركة حماس حتى اضطرت الحركة إلى اصدار بيان في 11/9/2014 كررت القول فيه إنها ضد المفاوضات المباشرة مع إسرائيل. ومن غير الواضح تماماً لماذا حدثت هذه الجلبة بعد حديث موسى أبو مرزوق؛ فهذا الموقف ليس جديداً على الاطلاق، ولا يستحق ذلك الصخب الذي أثارته مجرد جملة في مقابلة تلفزيونية. فالوقائع والذاكرة تحتفظ بتصريحات أكثر وضوحاً بكثير من هذا التصريح. وعلى سبيل المثال، في شباط 1994 اختطفت حماس الجندي الإسرائيلي نحشون فاكسمان. وعلى الفور عرضت الحركة على إسرائيل اجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بمعزل عن منظمة التحرير الفلسطينية ، لقاء الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين و200 معتقل آخرين، وحمل هذا العرض إلى إسرائيل حسين أبو كويك وجميل حمامي، لكن إسرائيل رفضت العرض. وذكرت مجلة "المصور" المصرية (6/5/1994) أن محمود الزهار أخبرها أنه التقى اسحق رابين وشمعون بيريز حين كانا وزيرين في الحكومة الائتلافية برئاسة اسحق شامير. وأضاف: إن حماس ليست ضد التفاوض مع إسرائيل، وهي لا ترفض التوصل إلى حلول مرحلية مع إسرائيل، وتترك الهدف النهائي، أي التحرير الكامل، إلى التفاعلات التاريخية على المدى الطويل. وكشفت القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي عن لقاء بين ضباط إسرائيليين والنائب محمد أبو طير (من حماس) في مقر الشرطة في القدس الشرقية ( أنظر: جريدة "السياسة" الكويتية، 1/1/2006). ونقل هنري سيغمان عن ناصر الدين الشاعر ( وزير من حماس) قوله إن الحكومة الفلسطينية الجديدة التي تشارك فيها حماس لا ترفض التنسيق والتعاون مع أي كان بما في ذلك إسرائيل (الحياة، 15/6/2006). وفي حديث إلى صحيفة هآرتس (22/6/2006) قال حسن يوسف (نائب من حماس) إن حماس اعترفت ضمناً بإسرائيل عندما اقترحت انسحاب اسرائيل إلى حدود 1967 وإقامة هدنة طويلة معها، وأضاف: إذا فازت حماس في انتخابات الرئاسة الفلسطينية فسوف تتفاوض مع إسرائيل مباشرة. وبالفعل عقد غازي حمد، وهو أحد قياديي حماس في غزة، مفاوضات مباشرة مع دافيد ميران في أيلول 2006، ثم مع غيرشون باسكين وهو المدير المشارك للمركز الإسرائيلي الفلسطيني للبحوث والمعلومات. وهذه المعلومات نشرتها صحيفة "الرسالة" في تشرين الأول 2013، وهي تابعة لحركة حماس، على حلقتين، ثم أوقفت الصحيفة نشر بقية الحلقات بطلب من قيادة الحركة. وفي 13/4/2010 ذكرت إذاعة الجيش الإسرائيلي أن خبراء ومهندسين من حكومة غزة المقالة زاروا إسرائيل سراً في شباط 2010 للإطلاع على الخبرات الإسرائيلية في معالجة مياه الصرف الصحي. ونفت حماس، بالطبع، صحة هذه الزيارة واعتبرتها مجرد شائعة. لكن منذر شبلاق، وهو مدير مصلحة بلديات الساحل في غزة أكد هذه الزيارة (أنظر: جريدة "الشرق الأوسط"، 14/4/2010). وكشفت جريدة "يديعوت أحرونوت" الستار عن أن إسرائيل وحماس تجريان مفاوضات غير مباشرة في مصر في شأن خفض الحصار عن غزة، وأن نتنياهو يريد من هذه المفاوضات تعزيز سلطة حماس في غزة لتحافظ على التهدئة، ولدفعها إلى الانخراط أكثر في التحالف السني المعادي لإيران المؤلف آنذاك من مصر والسعودية وقطر وتركيا (اليكس فيشمان، يديعوت أحرنوت، 6/12/2012).

ما الجديد؟ وما الخطر؟
ليست التصريحات، في حد ذاتها، جديدة تماماً. وكثيراً ما تحدث الشيخ محمد أبو طير إلى الصحافة الإسرائيلية عن أن التفاوض مع الإسرائيليين ومصافحة جنرالاتهم ليست حراماً، وأن المقاومة لا تعني المقاومة المسلحة، بل المقاومة السياسية، وأن حماس ستفاوض إسرائيل أفضل من فتح...الـخ. ومع أن موسى أبو مرزوق ليس فقهياً ليقرر ما هو الحرام في السياسة وما هو الحلال، إلا أن استخدام الدين في السياسة بات ثقيلاً إلى حد كبير. أما الخطورة في تصريحات موسى أبو مرزوق فلا تتجسد في منطوق كلامه، أي ظاهره، فهي مكرورة ومعادة، بل تتجسد في ما تريد أن تقوله اليوم في الأحوال الراهنة، إذ يمكن قراءتها على أنها رسالة إلى إسرائيل تتضمن استعداد حماس، في يوم قريب، للتفاوض معها مباشرة. ويمكن قراءتها أيضاً على أنها رسالة إلى السلطة الفلسطينية في الوقت نفسه تشير إلى أن في امكان حماس الاستغناء عن السلطة الفلسطينية في التفاوض المباشر مع إسرائيل، وهذا ابتزاز ولعب بالنار، خاصة إذا كان أبو مرزوق يريد أن يهدد باحتمال لجوء حماس، في لحظة سياسية مواتية، إلى التفاوض المنفرد مع إسرائيل خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا الأمر مسألة شديدة الخطورة.
سنعطف على هذه الوقائع ما قاله خالد مشعل أمام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد في الدوحة في 21/8/2014 عن أن حماس تريد شراكة كاملة مع حركة فتح؛ فمن غير الواضح هل إن حماس تريد، حقاً، شراكة كاملة في المفاوضات؟ إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني تغييراً جذرياً في مواقف الحركة من هذه المسألة. لكن، ثمة شكوك كثيرة في صدقية الميل الحمساوي إلى هذه الشراكة منذ أن اعترف محمود الزهار في برنامج "نقطة نظام" (محطة "العربية"، 6/7/2007) بأن حماس بدأت التحضير للسيطرة على غزة في أيلول 2006، وأنها وضعت خطة للاستيلاء على الاجهزة الأمنية ومقراتها، وأنها حفرت أنفاقاً تحت مقار هذه الأجهزة بينها مقر الأمن الوقائي في خان يونس (راجع أيضاً مجلة "الحرية"، 15/7/2007). وهذا يعني أن حماس لم تكن، منذ البداية، ترغب في الشراكة مع حركة فتح، وأن الكلام على الشراكة والوحدة الوطنية مجرد أقنعة وبراقع لغايات سياسية مغايرة.

شروط لا تسهيلات
لماذا لم يتمكن الطرفان، أي فتح وحماس، من تنفيذ اتفاق مكة (2007) أو اتفاق القاهرة (2011) أو اتفاق الدوحة (2012) أو اتفاق القاهرة الجديد (2014)؟ هذا السؤال مدعاة للتفتيش عن الأسباب غير الظاهرة، أي الخفية بعدم نجاح المصالحة، لن نعثر عليها في عشرات التصريحات المضلّلة والتي لا تقول الحقيقة البتة، بل في الوقائع نفسها. وهذه الوقائع نقول إن حماس كانت دائماً تضع شروطاً لإتمام المصالحة، وهي لم تقدم في أي مرة، تسهيلات عملية، وهذه حالة غير معقولة لمن يزعم انه يتصدى للقضايا الشائكة التي يدور حولها مستقبل الشعب الفلسطيني، وكأن هناك مشروعاً آخر لحماس غير مشروع التحرر الوطني. وكانت الشروط إما أمنية (مستقبل أجهزة أمنها ورجال استخباراتها)، أو إجرائية (دفع رواتب من وظفتهم خلافاً للأصول)، أو شروط سياسية تتعلق بالمفاوضات مع اسرائيل أو شروط اجتماعية تتعلق بالمطلوبين بجرائم قتل مناضلين في حركة فتح جرت تضفيتهم في الانقلاب الدموي في 14/6/2007.
من الغرابة حقاً أن تضع حركة حماس شروطاً من هذا العيار مادامت شريكة في الحكومة، وشريكة لها الأكثرية في المجلس التشريعي. وهي قادرة، بموجب هذه الشراكة، على إعاقة أي قرار أو أي سياسة لا تلائمها استناداً إلى هذين الموقعين. إنها ليست شراكة في الجوهر بل "مساكنة". والمساكنة من دون حب واقتناع تصبح نفاقاً، عدا عن أنها معرضة للانفكاك في أي خلاف. ويلوح لي أن إقامة صيغة للتوازن السياسي بين فتح وحماس باتت مثل الوقوف على رجل واحدة... إنه تعذيب. ومادام لحماس مشروع سياسي يتنافر مع المشروع الوطني العام الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية فقد صار لا بد من إنهاء هذه "المساكنة" بالذهاب إلى الإنتخابات الرئاسية والتشريعية تحت أي قانون ممكن. فإذا فازت حماس فعلى حركة فتح أن تتخلى عن فكرة الشراكة والتوافق الوطني وتتحول إلى المعارضة.
وإذا فازت حركة فتح، فعلى حماس أن تتحول إلى المعارضة وأن تسلم سلطتها غير الدستورية إلى فتح، وتنحل أجهزتها الأمنية والعسكرية حكماً. ومن دون ذلك فإن الأحوال الفلسطينية تتجه بسرعة لا إلى الفيدرالية بل إلى كونفيدرالية ذات منطقتين جغرافيتين متباعدتين وبلا حدود بينهما، مثل باكستان الشرقية (بنغلادش) وباكستان الغربية الأمر الذي أدى إلى الانفصال في دولتين.
شهد العالم في العشرين سنة الماضية انقسام يوغوسلافيا وأندونيسيا والسودان، وها هي ليبيا مهددة بالانقسام، وكذلك العراق، وتفكك الاتحاد السوفياتي، وثمة حركة جماهيرية في اليمن (الجنوبي) تطالب بالانفصال فهل يتم تقسيم فلسطين مرة ثانية؟