غزة/كتبت منال خميس:

حتى ساعات الفجر الاولى من ليلة الثامن والعشرين من آب 2014 ظلّت غزة تحتفل احتفاءً بانتهاء الحرب الأطول في تاريخها، معلنةً انتصارها على جيش الاحتلال الاسرائيلي الذي واصل وبكل ضراوة تحت ستار امريكي وصمت عربي ودولي، ضرب البشر والشجر والحجر بجميع آلياته العسكرية، البرية والبحرية والجوية، لمدة 51 يومًا، مستخدمًا جميع أنواع الصواريخ والقنابل المحرمة دوليًا ومستهدفًا جميع مقومات الحياة اليومية، التي لم تسدَّ تعطشه للدماء إلى أن ألجمته الجهود الفلسطينية، وعلى رأسها الرئيس محمود عباس، ليُعلَن عن وقف شاملٍ ودائمٍ لإطلاق النار اعتبارًا من الساعة الـ7 مساء بتوقيت فلسطين.

 

هدنة دائمة..وإسرائيل تنتقد اداء نتنياهو

لم يكفِ آلة الحرب الارهابية الاسرائيلية أنها أوقعت بحسب الاحصائيات الرسمية، 2137 شهيدًا و11,100 جريح وآلاف المنازل المدمَّرة كليًا وجزئيًا إضافة الى تدمير المساجد والمدارس والأبراج السكينة والمؤسسات المدنية وإبادة عائلات بأكملها من السجل المدني وإزالة أحياء كاملة من الخريطة، بل راحت تطلب المزيد حتى ألجمتها الجهود الفلسطينية، حيثُ تمكّن الوفد الفلسطيني المفاوض لإسرائيل في القاهرة عبر الوسيط المصري، من احراز تقدم لوقف العدوان على غزة، ثمَّ جاء إعلان الرئيس محمود عباس في كلمة متلفَزة عن وقف اطلاق النار، والتوصل الى هدنة بين المقاومة الفلسطينية، وإسرائيل، والعمل على تلبية وتوفير كل المستلزمات والخدمات والمتطلبات والاحتياجات الطبية التي يحتاجها أهلنا في قطاع غزة، مثمّنًا الجهود المصرية لوقف اطلاق النار.

وتتضمّن الهدنة، التي تم التوصل اليها برعاية مصرية، وقف إطلاق نار شامل ومتبادَل بالتزامن مع فتح المعابر بين قطاع غزة وإسرائيل بما يحقّق سرعة إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثة ومستلزمات الإعمار.  ولم يتضمّن اتفاق وقف إطلاق النار الحديث عن تشغيل "مطار، وميناء"، في قطاع غزة، وهما الشرطان اللّذان كانت تصر المقاومة الفلسطينية على إدراجهما، ولكن مصادر فلسطينية مُطَّلعة أكدت أن هذين الشرطين سيبحثان خلال المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين، خلال شهر من بدء تثبيت وقف إطلاق النار.

وفور دخول الهدنة حيز التنفيذ، أكدت القيادة الفلسطينية ضرورة العمل على تطبيق خطة وطنية فلسطينية تقود إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وبالتوازي مع ذلك قال رئيس وزراء الاحتلال الاسرائيلي بنيامين نتنياهو إن إسرائيل سترد بعنف أشد من ذي قبل حتى على أي قطعة من صاروخ تطلق من غزة بعد الاتفاق على هدنة مفتوحة، وزعم نتنياهو في مؤتمر صحفي ان اسرائيل وجّهت لحماس أقوى ضربة على الإطلاق.

ويواجه نتنياهو انتقادات حادة في اسرائيل على حرب مُكلِفة مع الفلسطينيين لم تسفر عن منتصِر واضح. ومضى نتنياهو يقول انه من السابق لأوانه ان توافق اسرائيل على تهدئة طويلة الامد ونسعى لتقديم خيارات سياسية جديدة.

ونشرت صحيفة يديعوت أحرنوت إحصائية كاملة حول العملية العسكرية في قطاع غزة، مشيرة إلى أن سلاح جوها هاجم نحو 5085 هدفاً على مدار خمسين يوماً من القتال.

وقالت الصحيفة إن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يحقق أي انجاز خلال تلك العملية سوى تدميره عشرات الأنفاق في العملية البرية التي بدأها في السابع عشر من شهر تموز الماضي، مشيرة إلى أنه تم تجنيد نحو 80 ألف جندي احتياط عشية محاولة الدخول البري في قطاع غزة.

وكل هذا يأتي مع تأكيد عدد من رؤساء البلديات والمجالس الإقليمية  التابعين للاحتلال، عن خيبة أملهم من الاتفاق الذي جرى التوصل إليه، مشددين على أنه "ليس من أجل هذا قضينا شهرين في الملاجئ".

 

غزة تستعيد حياتها

غزة التي بدأت لملمة جراحها، كانت قد لقّنت العدو درساً قاسيا وكبّدته الخسائر الأكبر منذ نشأته، وأوقعت به باعترافه مئات القتلى والجرحى، والإعاقات الدائمة، فبحسب المصادر الإسرائيلية، قتل في هذه الحرب 64 جندياً، و4 مدنيين من الإسرائيليين، إضافة إلى عامل أجنبي واحد،  فيما يقول مركزا "سوروكا" و"برزلاي" الطبيان (غير حكوميين) إن 2522 إسرائيلياً بينهم 740 جندياً تلقوا العلاج فيهما خلال فترة الحرب.

ووسط احتفالات النصر، ورغم الجراح، والدمار، بدأت الحياة اليومية دورتها شبه العادية في قطاع غزة، ففتحت المحال التجارية أبوابها، وانتشر عمال النظافة، وخرج الصيادون الى عرض البحر، وباشرت البنوك والمؤسسات الأخرى عملها، وغادر الكثير من النازحين مراكز اللجوء الى بيوتهم لبحث امكانية الحياة فيها بعد الدمار الذي حاقَ بها، ووسط حيرة كبرى ذهب بعضهم ليبحث عن مصدر رزق يعيل به أفراد عائلته بعد ازدياد المتطلبات التي ستترتب على هذا الدمار.

 

خسائر في القطاع الاقتصادي

طالت آلة الحرب العسكرية الاسرائيلية جميع مناحي الحياة في قطاع غزة، وهو ما أوضحه الخبير الاقتصادي الدكتور ماهر الطباع بالقول: "اسرائيل في عدوانها على غزة ارتكبت مجازر بحق العائلات وبحق الاقتصاد في غزة وبحق الابراج السكنية، فدمرت 3 من اجمل ابراج غزة وهي برج الباشا، وبرج الظافر 4، والمجمع الايطالي، وهذه الابراج كانت عبارة عن مدن سكنية كاملة، وقصفت المركز التجاري وبرج زعرب برفح اضافة الى المدارس والمساجد، والمباني، ولم تكن هناك أية حصانة لأي مكان من طائراتها".

وأشار الطباع إلى أن القطاع الاقتصادي أُصيب بخسائر مباشرة تقدر بمليارات الدولارات حيثُ دُمّرَ 400 مصنع وما يزيد عن 2000 منشأة اقتصادية وزراعية وخدماتية بشكل كلي وجزئي، كلها تُشكّل لب اقتصاد غزة، الذي كان يعاني أصلاً اوضاعًا كارثية جرّاء الحصار.

وتوقّع الطباع ارتفاع معدلات البطالة لتتجاوز نسبة الـ50% بعد أن كانت 41%، وأن 30 ألف شخص سينضمون إلى جيش البطالة البالغ عدده أصلا 180 ألف شخص بعد فقدانهم لمصدر دخلهم الوحيد. كما توقّع أيضًا ارتفاع معدلات الفقر في القطاع المحاصَر لتصل إلى 60% بدلاً من 38 %.

وأشار من جهة أخرى في تقرير له، إلى أن حجم الواردات إلى قطاع غزة انخفض خلال فترة العدوان الإسرائيلي المستمر بنسبة 62%، وأوضح أن "متوسط عدد الشاحنات الواردة بلغ 95 شاحنة يوميًا من أصل 250 شاحنة كانت ترِد قبل العدوان، وبلغ إجمالي عدد الشاحنات الواردة خلال فترة الحرب 3805 شاحنة، وتعذّر وصول ما يزيد عن 6195 شاحنة إلى القطاع".

واقترح الطباع إنشاء هيئة خاصة مستقلة لإعادة إعمار قطاع غزة، ممثّلة من القطاع العام والخاص وكافة الجهات ذات الاختصاص وذلك للتنسيق والإشراف على كافة المشاريع موصياً بضرورة  تنفيذ برنامج عاجل وفوري لتوفير منازل بديلة للسكن المؤقت للذين أصبحوا بلا مأوى، وتقديم إغاثة عاجلة للشركات والمصانع والمحال التجارية التي دُمِّرت بشكل كلي وجزئي.

 

أضرار جسيمة في قطاع الماء والكهرباء والصرف الصحي

بحسب بيان وكالة "الأونروا" الأخير، فإن أكثر من 20,000 منزل أصبحت غير صالحة للسكن، وتعرّضت البنية التحتية الحيوية للمياه والصرف الصحي للضرر، إذ يقدر أن ما لا يقل عن 40% من شبكة إمدادات المياه أصبحت غير صالحة للاستعمال.

وكان قد احتشد حوالي 300,000 نازح في 85 مدرسة للأونروا في غزة، من المتوقَّع أن يواصلوا الإقامة في مدارس الأونروا إلى حين توفير مساكن لهم، مما قد يتسبب في تأخير بدء العام الدراسي السنوي.

وانقطعت الكهرباء لأيام متواصلة عن قطاع غزة طيلة أيام العدوان، وفي أحسن الأحوال كانت تصل من ساعتين إلى 4 ساعات كل 24 ساعة، بحسب ما ذكر المواطن علي شويح للـ"قدس".

وقال شويح:"انقطاع الكهرباء وفساد الأغذية في الثلاجات، والحر الشديد والرطوبة التي لا تحتمل وفوق كل هذا قصف الطائرات والدبابات، نحن في الجحيم على ما يبدو".

وأضاف شويح الذي يقطن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة: "انقطاع الكهرباء عن قطاع غزة ليس جديداً، واعتدنا عليه ولكن الأسوأ في الأمر تواصل الانقطاع لعدة أيام، وهذا تسبب لنا بكوارث صحية، وقلق بين أفراد الأسرة المتفرقين هنا وهناك في مراكز اللجوء بعد أن قُصِفت منازلنا، حيث اننا نطمئن على أفراد عائلتنا عن طريق الاتصال بالجوالات، ولكن كيف سيتم شحن هذه الجوالات بدون كهرباء؟! وهذا أبسط مثال للحاجة للكهرباء".

ومن جانبها قالت سلطة الطاقة والموارد الطبيعية في غزة، انها تعمل بقدرة تشغيلية لا تتجاوز الـ30% ما تسبّب بعجز كبير في الطاقة في القطاع.

وقدّرت الطاقة إجمالي الأضرار والخسائر المادية في شبكة الكهرباء المحلية من معدات ومستودعات بنحو أكثر من 35 مليون دولار، وأشارت في بيان لها إلى أن الخطوط الرئيسة للكهرباء من الشبكة الإسرائيلية، وعددها 10، كانت خلال العدوان هدفًا للتدمير والإصابة بشكل متتابع ومتكرر، وصولًا إلى تعطلها جميعًا عن العمل في بعض أيام العدوان، وفقدان 120 ميجاواطاً كانت تزوّد بها القطاع.

ولفتت إلى أن محطة توليد الكهرباء الوحيدة بالقطاع تعرضت للاستهداف والأضرار أكثر من مرة ما أدى إلى تعطُّل محطة التوليد عن العمل كليًا وفقدان 120 ميجاواطاً أخرى كان من المخطط الاستفادة منها قبل أيام من العدوان، مشيرة إلى أن طواقم العمل نجحت حتى الآن في إصلاح 9 من أصل 10 من الخطوط الإسرائيلية المزوّدة للقطاع، ومن المتوقع استعادة الخط الأخير شرق محافظة خان يونس خلال أيام قليلة.

ولكن شركة "كارادينيز هولدنج" التركية لصناعة سفن توليد الكهرباء،  وعدت بأنها سترسل سفينة لتزويد غزة بالكهرباء، وذلك بناء على طلب من السلطة الفلسطينية. وذكرت "كارادينيز" في بيان نشرته رويترز أنها سترسل السفينة في غضون 120 يومًا فور الحصول على الموافقات الضرورية.

وتعد" كارادينيز" ومقرها فى اسطنبول، الوحيدة في العالم التي تنتج محطات كهرباء عائمة ذاتية الدفع وتعمل بالفعل في العراق ولبنان ويتألّف أسطول الشركة من سبع سفن قدرتها الإجمالية 1200 ميجاوات.

ولم تقتصر خسائر شركة الكهرباء على الجوانب المادية واللوجستية فقط، بل امتدت لتشمل خسائر بشرية، فقد فقدت الطواقم الفنية لشركة توزيع الكهرباء في الساعات الاخيرة قبل اعلان التهدئة اثنين من موظفيها هما محمد ظاهر"47 عاما" وتامر حمد "27 عامًا" اللذان استُشهدا اثناء تأدية عملهما في صيانة احدى الشبكات إثر استهداف سيارة شركة الكهرباء، وتعليقًا على ذلك أكَّد مدير العلاقات العامة والإعلام في شركة توزيع الكهرباء جمال الدردساوي، في بيان صدر عن مكتبه، أن سيارة الشركة استُهدفت بشكل مباشر رغم انها تعمل في منطقة حيوية ولا تحتاج لتنسيق للعمل فيها من أي جهة  معتبراً في حينه، أن هذا التصعيد يستهدف الحياة المدنية بشكل متعمَّد ومباشر ويأتي ضمن اغتيال المجتمع المدني ومتطلباته مؤكّدًا ان الشركة تطالب كافة الهيئات الدولية والحقوقية بفتح تحقيق فوري في هذا الحادث الذي يمثِّل اعتداءً على مكونات الحياة المدنية والخدماتية في غزة.

وأكد الدردساوي ان "هذا الاستهداف اثر بشكل قوي على اداء العاملين في الشركة التي تعطي الاولوية للدم الفلسطيني وحياة الانسان" مؤكداً أن شركته لا تدفع بأبنائها الى الموت الامر الذي سيشكّل عرقلة امام عمل الشركة التي تسعى الى اعادة وترميم الخطوط وعودة التيار للناس.

 

خسائر في صفوف الطواقم الطبية والصحفية

ولم تنجُ الطواقم الطبية في غزة أيضاً من دائرة الاستهداف الاسرائيلي، فبحسب الناطق باسم وزارة الصحة في غزة د. اشرف القدرة فقد استشهد 23 شخصًا من طواقمها الطبية وجرح 83 منهم.

وكذلك لم تكن الطواقم الصحفية بعيدة عن خطر الاستهداف الاسرائيلي، حيث سعت اسرائيل لطمس الصورة وتزوير الكلمة وسعت لقتل ناقلي الحقيقة، فكان أن خسرت الصحافة الفلسطينية سبعة عشر من شهداء الكلمة والصورة الذين ارتقوا أثناء أداء واجبهم الوطني والإنساني، إلى جانب 20 جريحًا.

وتعقيبًا على ذلك قال نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين تحسين الأسطل للـ"قدس": "استهداف اسرائيل للطواقم الصحفية وسياراتها بشكل مباشر، يدل على اصرار هذا العدو على طمس الحقائق وعزمه على التخلص من كل من ينقل الكلمة والصورة الصحيحة للعالم ويفضح جرائمه". وأضاف الأسطل "لقد قتل العدوان الاسرائيلي بدم بارد عددًا من الصحفيين وجرح العشرات، وكان آخر الضحايا لهذا العدوان الزميل الصحفي عبد الله فضل مرتجى".

وختم الأسطل بالقول: "لقد حقق هذا العدوان الاسرائيلي العسكري قفزة عالية في ارتفاع منسوب العنف مقارنة بالعدوانين السابقين على قطاع غزة في الاعوام  2008 و 2012" موضحاً أن العدوان الاسرائيلي استهدف ايضًا المؤسسات الاعلامية ومقار وسائل الإعلام وخصوصًا الإذاعات واستهدف منازل الصحفيين، واخترق بث عدة محطات اذاعة وتلفزيون، وبث عبرها رسائل تحريضية.

أخيراً هنا غزة التي بدأت الحياة من جديد، وفي أحلك الظروف،  فبدأت على خلفية صوت طائرات الاحتلال "الزنانة" التي لم تغادر سماءها،  بدفن شهدائها، وعيادة جرحاها، والبحث عن ألعاب أطفالها من تحت ركام منازلهم، ولكن هناك في محيط مستوطنات غلاف غزة التابع للاحتلال على الرغم من الإعلان عن وقف النار، فإن الحذر والرعب يسيطران على سكان  مستوطنات غلاف غزة، وصولا إلى تل أبيب، وذلك بعدما قررت قيادة جبهة الاحتلال الداخلية إصدار تعليمات بإبقاء الملاجئ مفتوحة ضمن مدى 80 كلم من قطاع غزة، ومنعت تجمُّع  أكثر من 500 شخص ضمن نطاق سبعة كيلومترات من القطاع، وتجمُّع أكثر من 1000 شخص في المناطق المفتوحة، معلنةًأن أي نشاطات أخرى، صيفية أو دراسية، ستجري في المؤسسات التي يمكن انطلاقا منها الوصول إلى مناطق محصنة خلال المدة الزمنية المطلوبة.